| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 30/8/ 2012                                                                                                   

 

مرة ٌ أخرى في حضرة  السكيــّر  " أبو گـنــَو ْ"

شوكت توسا

لا أعتقد أن مقولة " التاريخ يعيد نفسه "  تحتاج الى شرح وتفسير,فهي اشهر من النار على العلم , نستخدمها كلّما إستدعى الموقف  وتشابه المشهد  في المضمون مع مشهد آخر سبقه لكنهما يختلفان في الشخوص والمكان وتاريخ الوقوع .

بالنسبة  لقصة أبو گـنــــّو , إحدى القصص التراثيه التي نعيش بين الفينة والأخرى  نتفا  وجوانبا  من أحداثها  في حياتنا اليوميه ,نستذكرها ليس من اجل متعة طرافتها فحسب , انما  المغزى منها إيصال فكرة معينه او لتوجيه نقد يكون المعني به كل من يتوهم أن بإمكانه الضحك على عقول الناس  وإرضاخهم لقاعدة تطبيع الرذيله التي إن كان يقبلها أحدنا على نفسه  من اجل التسلق على أكتافنا او تحقيق صفقة  خاصه به ,عليه ان يعلم بان للناس ألسن واقلام  ليس من السهل إسكاتها .

وقد سبق لنا في مقالات سابقه  أن إستعنا بمغزى القصة في كتابة مواضيع ذات صله بمضمونها , وبحسب مصادر القصه , من المرجح انها ليس  من نسج الخيال بل واقعيه حصلت في بغداد أيام الإحتلال العثماني يوم كان العراق ولايات يحكم كل ولايه حاكم تركي  يلقب بالوالي.

معروف ان مهمة الوالي في حكم بلد غير بلده لم تكن  بالمهمة السهلة , بل غاية في الصعوبة والتعقيد  على شخص غريب عن المجتمع وثقافته ,وهومطلوب منه إدارة الولاية بما يضمن ولاء أهلها لمشيئة السلطان القابع في عاصمة الإمبراطورية العثمانية آنئذ.

إحدى تلك الصعوبات كانت كيفية تواصل الوالي التركي مع الناس وهو يجهل لغتهم العربيه , كي يذلل مشكلته فكر بإستقدام مترجم  يجيد العربية والتركية لتسهيل تفاهمه مع وجهاء العشائر وتجار الولايه,فطرح فكرته على مستشاريه الذين وافقوه بشرط التحسب لتبعات  إستخدام  المترجم الذي لو شاء الفأر ولعب في عبه  سيكون سببا في تسريب اسرار الوالي و توتير علاقاته مع الناس مما سيزيد الأمور تعقيدا وبالتالي يشوّه مقام  الوالي وسمعة إمبراطوريته العوصملليه.

ثبـــّت الوالي تحذيرات مستشاريه في مفكرته , ثم أوعز بإستدعاء ثلاثة جندرمة وجاويش  مخضرم يتولاهم , إستلم الفريق أمر الوالي للبحث عن رجل يجيد التكلم بالعربية والتركية .

إنطلق الأربعه في أحياء بغداد و مقاهيها  بحثا عن هذا الرجل.  في ساعة متأخرة من تلك الليلة ,و بينما كانوا يجتازون  أحد شوارع المدينة في طريق عودتهم إلى القصر بخفي حنين, سمع أحدهم صوت غناء شجي قادم من إحدى الحانات الليلية , تفاجأوا عندما إكتشفوا بان الأغنيه كانت باللغه التركيه , فهرعوا  إلى مصدر الصوت وأندفعوا بقوه داخل الحانه  مما أرعب روادها و قد أخذتهم نشوة السكر إلى حيث الفراديس والأحلام , توزعت عيون الجندرمة  في زوايا الحانة بحثا عن المغني , وإذا به رجل منكب على طاولة  احدى زوايا الحانه  وربعية العرق تترنح بيده مع تمايل رأسه على نغمة أغنيته , إقترب  الجندرمة نحوه ليروا جسدا نحيلا قصير القامة رث الجلباب ذو لحية طويلة مبعثرة وعلى رأسه عرقجين (كلاو او كليته) يتدلى تحتها شعره الطويل , رغم  رائحة جسمه الكريهه  الممزوجة برائحة العرق وعفنة جو الحانة الرطب, تقدم  أحدهم وسأله باللغة التركية: هل انت الذي يغني بالتركية يا قرداش؟ أجابهم السكيــّر متلعثما من شدة خوفه بنعم,ثم سأله هل انت عراقيا وتجيد العربية؟ أجاب  السكير خائفا بنعم أخرى  وكأنها ستطيح برقبته, ثم سألوه عن إسمه , فأجاب أن الناس ينادونه  بأسم أبـــــو گـــَــنـّــَو العرقجي , من دون  سين جيم أمروه بالنهوض ومرافقتهم فورا,  أحس الرجل بأن أجله إقترب , وهكذا كان إحساس رواد الحانة الذين  إلتمسوا الجندرمة بالكف عن هذا الرجل  الذي لا يُحسب له  لا في العير ولا في النفير سوى كونه مغني وسكير , إلا أن الجندرمة لم يعيروا الكلام اي اهميه عدا إعلانهم بانهم ينفذون مشيئة الوالي.

أخذوا أبـــو كنــو معهم  الى القصر والوقت فجر , وفورا ادخلوه الحمام  للإغتسال وحلاقة  ذقنه وشعر رأسه ثم البسوه ملابس نظيفة ومعطرة  فبدا وكأنه عريس في ليلة الزفه ,  في الصباح أخبر الجندرمة الوالي بان اسم الشخص ابو كنو وقد عثروا عليه في احدى الحانات, ثم جيئ به  أمام الوالي الذي تفاجأ حين رآه مرعوبا بهذه الدرجه .

رحب الوالي به وراح يهدئ من روع العريس المرتبك و يشرح له المهمة التي من اجلها جلبوه ,  بينما أبو كنــو كان سارحا  بهندامه مدهوشا حيال ما يجري معتقدا بان مقلبا  ما ينتظره  لانه  يعلم جيدا بانه لا يصلح لمهمة كالتي يريدها الوالي منه, لكنه في النهايه إنصاع لمشيئة الوالي  تحت تأثير الإغراء تارة ووطآة الوعيد تارة أخرى, بالنتيجه وافق ابو كنو  على المباشره في مهمته  كمترجم يحضر في ديوان الوالي للترجمة كلما دعاه الوالي, مرت الأيام والوالي يزداد إعجابا  بمترجمه  , لكنه لم يكن يقظا لما يدور وراء الكواليس,فأبو كنو كان لا يحكي للوالي إلا عن رضا شيوخ العشائر وحسن سير أمور الولاية , لكنه كان من ورائه  يقيم علاقات سرية وخاصه مع أشخاص وجد فيهم  ضالته بمجرد تمشية مصالحهم على حساب  أبناء قومه المحرومين ولا أحد يتجرأ الإعتراض لدى الوالي  , لذا إنهالت مكافآة  الوالي على أبي كنو , فأمر بتخصيص قطعة ارض له مطله على  دجله الخير ثم تبعها بترقيته الى  د. الولاية (دفتردار الولايه) ,و بذلك يكون قد سلـّم  سجل بيت المال بيده ومنحه صلاحيات الرفض والموافقات.ليس هذا فقط , بل سمح لأبي گنو بإحتساء الخمر في القصر ثم أذن  له بجلب الغواني للقصر  ليلة الخميس على الجمعه للسهر والعربده  مع أصدقائه  المقربين .

تفشت في الولاية فوضى  أثارها شيوخ عشائر الولاية ووجهائها نتيجة إهمال القصر لمطالبهم و عدم متابعة مشاكلهم ,فكثر القيل والقال حول تهاوي سلطة الوالي  وتهاونه أزاء تصرفات دفترداره الذي كان منهمكا  في ملاذه ولغف كعكته المقسومه  التي يستحوذ عليها  بالتملق لهذا و شتم وتسقيط  ذاك, مما دفع بالبعض إلى أيصال شكاواهم إلى الوالي مباشرة  لانه إعتاد إهمالها محبة ً بدفترداره ,وحين طفح الكيل ,  قرر الوالي الجلوس مع الدفتردار والتكلم معه حول  المشكلة ومدى صحة الشكاوى.
في عصرية  أحد الأيام , بينما كان د. أبـــو گنو جالسا يحتسي المنكر في شرفته المطلّة على زقاق السوق , وصله بلاغ برغبة الوالي  في التباحث معه في أمر طارئ, في الحال أمر أبــو گنو بإحضار كرسي للوالي الذي جاء وجلس بجانبه , شرع الوالي يحكي  لدفترداره  حقيقة ما يرده من شكاوى  وضجر  وجهاء المنطقه من أسلوب القصر و إدارة دفتر داره , كان د.ابو كنو  يستمع  و يبتسم بوجه الوالي ويهز برأسه و الوالي يصرخ من شدة إنفعاله ويكثر من أسئلته دون  أي رد من ابو كنو, وفجأة أنتفض أبو كنو من كرسيه  عندما رأى مسيرة جنازة محمولة على الأكتاف تمر أمام القصر, وقف ابوكنو ومد ذراعيه طالبا من المشيعين أن يقفوا بالجنازة امام القصر, ظن الناس بأن د. الولايه  يريد مرافقتهم مع الجنازة, أما الوالي فقد اصابه الذهول , إلتفت ابو كنو اليه  طالبا منه الأذن لدقيقتين , نزل ابوكنو مسرعا إلى الشارع وأمر بوضع صندوق التابوت على الأرض, وأمام إرتباك الناس لهول طلب أبو كنو والوالي يراقب الموقف من الشرفة,أمر ابو گنو بفتح صندوق الميت,  تم فتح الصندوق والناس تراقب ما سيحصل, إقترب أبو كنو من الصندوق ثم إنحنى فوق رأس الميت وهمس  بأذنه, تصور الناس بأنه يقبل المتوفى قبلة الوداع ربما لانه يعرفه او قريب له , ثم أمرهم بغلق الصندوق ثانية والسير به إلى المقبرة.
عاد أبــــو گنو إلى الشرفة ليرى الوالي حائرا أمام هذا المشهد, فقال له: لا تحتار مولاي الله يرحمه!!, رد عليه الوالي ما الذي تعنيه؟ هل كنت تعرفه؟ رد أبو كنو: كلا لا أعرفه . ثم سأله الوالي ما الذي فعلته إذن؟ قال همست بأذنه  كلاما عاديا!! نهض الوالي من شدة  غضبه وسأله وكيف تتكلم مع الموتى؟ هل أنت معتوه أم ساحر؟ اجابه ابو كنو, انا لم أتكلم مع الميت  يا مولاي , بل كنت أتكلم مع الذي خلقه وبمشيئته أماته ! ثارت ثائرة الوالي وصرخ بوجهه متسائلا : وماذا تريد من الرب وما الذي قلته له؟ لم يكن د.ابو كنو  راغبا في الإفصاح عما همس بأذن الميت خوفا من العقاب , لكن إلحاح الوالي وتهديده بقطع رأسه إضطره لقول الحقيقة  , فقال أبو كــــنو:

يا سيدي الوالي , أنا لا أعرف الميت , ولم اقبلــّه كما تصور المشيعون , بل همست بأذنه رساله  بسيطه كلفته بنقلها بسرعه الى رب السماوات والأرض , ارجو ان تسمعني للآخر قبل ان تأمر بقطع راسي:

(يا ايها المغادر الى دار الآخره , بـلــّغ خالق السماوات  وملائكته و أسلافنا الراقدين , قل لهم  بحق السماء, إني برئ مما يحلّ في الولاية, لأن الولاية التي يديرها حاكم يمنح سكيرا مثلي لقب  د. الولايه , فهو حاكم أهوج  وفاسد  قد فاته الرجـــم , و حال  ولايته لن يكون أفضل من حال سوق النخاسة , فيه يــبصق الأمعات بوجه الأخيار وتــُحتقر المعرفه , وسرعان ما سيهجرها أهلها لتسكنها الجان والغربان والثعبان).

ورسالتنا لولاة الله على الأرض وللعباد  , أن أحذروا  أشباه  أبــــــو گنـــــــــــــــــو فسمعة شعبنا لا تحتمل تحقير المعرفه  وتطبيع الإهانة والرذيله ............... والحليــم تكفيه الإشاره .

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات