| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 30 / 3 / 2014

 

قرية دوكَري

عادل أمــين
(ابو حسن قامشلي)

لم يستسلم أفراد المفرزة للنوم بعدُ، عندما سمعوا دوي إنفجار في القرية التي وصلوا اليها مساء اليوم، وفي مكانٍ قريب من البيت الذي آووا اليه، وتلت الانفجار مباشرة أصوات تبادل إطلاقات الرصاص وبكثافة، أتوقع أنه هجوم على القرية، قال مسؤول المفرزة، همَّ الجميع للنهوض من الأفرشة، لحظات لم تدم طويلاً بين الوثوب من الفراش ومد اليد للمسك بالسلاح وبين إقتحام مُسلحان للغرفةِ وفي أيديهما بنادق (كلاشنكوف) واصبحا وجهاً لوجه امام أفراد المفرزة وهم يَهمون بالنهوضِ، لقد تمكن الاوغاد منا، على حين غرةً ، وبهذه السهولة في هذه القرية المنحوسة، قالها احد افراد المفرزة، وهو يمدُ يده لامتشاق سلاحه.

اليوم هو الرابع من شباط 1988 عندما وصلت المفرزة إلى هذه القرية وقت الغروب ِوقُبيلَ أن تُسلمْ الشمس ذيولها للمغيب كاملة، وكانت قد بانتْ في الأفقِ الخطوط الأرجوانية التي تضع حداً هلامياً فاصلاً بين السماء والأرض لتعلن قرب أنتهاء النهار بضيائهِ وقدوم الليل بقتامتهِ، وكانت السُحبُ التي أفرغت ما بجوفها طوال اليوم على رؤوس افراد المفرزةِ قد انقشعت ومالت السماءُ نحو الصفاء عدا قطع متناثرة من الغيوم هنا وهناك والتي كانت لا تزال تنثُ برذاذها، ورياح شهر شباط الباردة التي كانت تعصف بهم بلا رحمة طوال الطريق والتي أجتازت ثيابهم المبللة ووجدت سبيلها إلى ثنايا أجسادهم، قد خفتْ الآن ومالتْ رويداً رويداً نحو السكون كلما أقتربت المفرزة من القرية، وبالرغم من أن تلك الرياح كانت تهب خلفهم وتساعدهم على السير إلا أن الطين والوحل وبقايا الثلوج التي كانت ترزح تحت أقدامهم قد أثقلت خطاهم وأعاقت سيرهم طوال الطريق، إن مسيرة عشر ساعات متواصلة من كلي مراني على سفح الجبل الأبيض إلى هذه القرية قد أنهكتهم وأستنزفت طاقاتهم، وبطونهم قد أصبحت خاوية بعد أن جرشت أحشائهم كل إحتياطي الطعام الذي كان معهم، وإن الهدف الذي يرومون الوصول اليه، وهو (قرية دُهّي) لازال بعيداً، تفصلهم عنه مسافة ساعات من المشي والوصول اليه قد أصبح محالاً، خاصة في ظل هذه الأجواء المرهقة، ناهيك عن الليل الذي اصبح على قاب قوسين، فلابد من البحث عن أي مكان يأؤون اليه، في ظل هكذا ظروف وصلت المفرزة الى مشارف قرية دوكَري في منطقة دوسكي.

قرية دوكَري (قرية التَلَّينْ)، لم تكن من القرى الآمنة والتي تستكن إليها مفارز الانصار، ولم يكن معتاداً أن تأوي إليها قوات المعارضة للبقاء والمبيت فيها، ربما في أحسن الأحوال الإكتفاء بتناول وجبة غداء في منتصف النهار ومغادرتها، أو إستراحة قصيرة في أطراف القرية وعلى نهر خابور لبضعة ساعات ، أما المبيت فيها كان من المحرمات، لأنها قرية تقع على مرمى العصى (كما يقال) من قضاء (باطوفة) وتقع في منطقة سهلية (دشت) غير محمية بالجبال، ناهيك عن وجود العملاء والمُخبرين للنظام العراقي وإنخراط أفراد من بعض عوائلها في الأفواج الخفيفة (الجحوش).

أيمكن البقاء والمبيت في هذه القرية ؟ هكذا تساءل بعض أعضاء المفرزة التي لم تكن تتجاوز عدد منتسبيها عن خمسة أفراد، كان أحدهم عائداً من دورة عسكرية وآخر ضيفٌ قادمٌ من القامشلي بمهمة خاصة، وقائد المفرزة ونصيرين من السرية الثالثة، بعد المناقشات وتبادل الآراء بين أفراد المفرزة والإستئناس بآراء القادمَيّن الجديدَيّن، وجدت المفرزة نفسها أمام خيار واحد هو الإمتثال للامر الواقع واللجوء الى هذه القرية وقضاء الليلة فيها مع الحيطة والحذر وإتخاذ كل الإجراءات الإحترازية الأمنية والحراسة الداخلية ليلاً والتجمع في مكان واحد ...الخ. لاسيما إن الوقت هو الشتاء والبرد قارص ولا يمكن البقاء والمبيت في العراء، كما تفعل المفارز في أشهر الصيف، وإمكانية إقتحام هذه الأجواء القاهرة ومواصلة السير الى قرية (دُهّي) معدومة وهي هلاك بذاتها، كان الرفيق أبو آشور على رأس المفرزة وهو خريج جامعي وكادر عسكري، دمث الخلق، هادئ الطبع ولطيف المعشر.

إقتربت المفرزة من القرية وأستدعت مختارها ومسؤول الهاربين فيها، تم التفاهم معهما على مطالب المفرزة، وسط إندهاش الحاضرين من أهل القرية من طلب المبيت فيها، لأن أهل القرية لم يعتادوا على ذلك، وهم يعرفون حذر المعارضة من هذه القرية ورغم دهشتهم لم يخفوا سرورهم من بقاء المفرزة تلك الليلة عندهم، وكأنها إعادة الإعتبار لهم بعد مقاطعتهم من قبل المعارضة وخاصةً الأحزاب الكوردستانية لفترة طويلة.

هكذا توزعت المفرزة على بيتين للعشاء ومن ثم التجمع في بيت واحد بعد العشاء حسب ما خططتها، كل شئ سار على ما يرام، كان الطعام لذيذاً بعد الجوع الرهيب، وقدمت العوائل التي إستضافت أعضاء المفرزة أجود ما لديها من الطعام، مع السرور والبشاشة التي إرتسمت على وجوههم والترحاب بالضيوف الجدد، وبعد إنتهاء العشاء التقت المفرزة في بيت واحد حسب الإتفاق، وكان البيت هو بيت مسؤول الهاربين من الخدمة العسكرية، والذي يجثمُ على سفحِ تلٍ مرتفع نسبياً، تجمعت المفرزة في غرفة واحدة، الغرفة التي تجمعوا فيها هي الغرفة الوحيدة التي تقع في أعلى البيت وتوحي وكأنها في الطابق الثاني من البيت بحيث تعطي فسحة للأشراف من نافذتها الصغيرة على باحة الدار، وقد أوضح مسؤول المفرزة منافذ الخروج من القرية وأعطاهم تعليمات أخرى ضرورية...الخ

في بعض الظروف تبدو بعض الاشياء العادية بمثابة معجزة، هكذا تراءت لهم الغرفة، المدفئة الحطبية الدافئة (التي وصف شاعرنا سعدي يوسف نارها بفاكهة الشتاء كما ورد في الحكم أيضاً) بعد البرد القارص، والشاي الذي يخدر عليها على مهلٍ، والذي هو أحلى مشروب في تلك الأجواء، لقد تمددت الأرجل نحو المدفئة وهي تستلقي براحة تامة بعد ان إمتص الوحل والبرد والثلج ما فيها من الطاقة، ومن ثم تمرغل بعضهم على الافرشة الوثيرة والنظيفة، بعد معاناة رطوبة كهوف كَلي مراني مقر السرية الثالثة.

- قال النصير العائد من الدورة : الفراش وثير ويشبه فراش ليلة الزفة،

- أجابه الآخر بتهكم : لابأس، لكنك أخذت فترة الراحة خارج الوطن، أما نحن الذين قضينا سنوات طويلة في مثل هذه الأحوال التي تشبه الحياة البدائية للانسان، فقدنا أحاسيس التمييز بين الأفرشة الوثيرة أوغيرها لأننا تعودنا على مثل هذه الحياة، أليس كذلك ؟

- أجابه القادم من الدورة : أرجو أن لا تؤول كلامي، أنا أيضاً قضيتُ مثلك سنوات معينة هنا، وقد نقلت بعض ما جآل في داخلي من الأحاسيس، أليس من حق الإنسان أن يحس بترفٍ ما، هل تمانعه من أن يحلم بعيش مرفه ولو للحظاتٍ ؟

- دخل الرفيق أبو آشور مسؤول المفرزة على الخط ، وعلق على حديث الرفيقين قائلاً :
كفوا عن "النكَنكَة" ولا ألاحظ عليكم تعب عشر ساعات من المشي وسط الأوحال وتحت المطر وأجد مازال فيكم الطاقة الكافية، لو كنتُ أعرف فيكم هذه الطاقة لكنتُ قد واصلتُ بكم السير الى قرية (دُهيّ)، يتراءَى لي وكأنكم لم تروا شيئاً من الترف في حياتكم، هي مجرد أفرشة دافئة تشعرون بلذتها لأنكم مُتعبين لا أكثر"

- قال احدهم مستهزئاً :
طبعاً ماذا رأينا ؟ منذ ست سنوات أنا هنا في الجبل، ولأول مرة وربما لمراتٍ نادرة وجدتُ هكذا أفرشة وثيرة "قابل شنو يومية كنت جاي ورايح خري مري بين دمشق وأوربا مثل الكبار"!

- قال ابو آشور:
كافي يا رفاق ارتاحوا اليوم ، غداً ينتظركم الصراع مع البراغيث طوال الليل في كَلي هسبه (مقر الفوج الثالث).

- قال أحد أعضاء المفرزة :
يا رفاق! أخاف أن تنسوا الحراسة بسبب النشوة، وأنا حظي نحس كلما أجدُ نفسي في مكانٍ فيه الراحة ينقلبُ إلى المنغصات، المنطقة خطرة وتذكروا أن رفاقنا لا يمكثون في هذه القرية.

- أجابه أحدهم :
طيب يا رفيق تشآءمْ وتخيلْ أنك في مكانٍ غير آمن ومزعج كي ينقلب الى عكسه، ضحك الجميع من هذا المقترح.

- تدخلَ أبو آشور قائلاً :
لا يوجد شئ، هل من المعقول أن يكون العدو قد عرف بوجودنا في القرية في هذه الساعة ؟ ويبدأ بأرسال قوة عسكرية ؟

- قال الآخر : الحذر واجب، في حالة حدوث كارثة سوف لا يفيد أن نلوم أنفسنا.

- قال الرفيق القادم من القامشلي:
ألا توجد مرافق صحية (تواليت) هنا؟ أنا محصور وأحتاج الخروج (زي الناس) ، ضحك الجميع لسؤاله عن التواليت في البيت .

- قال أحدهم "ولك يا تواليت يا صخام اهنا كله بالجول" خارج البيت مطر، الطريق وحل، تحتاج الى عشر دقائق للوصول الى بر الأمان (موقع قضاء حاجتك) وداخل البيت لا يوجد تواليت، والليل سواد كالح، هنا قرى العالم الثالث، ما ينعرف يمكن وأنت كاعد بالجول يجيك فد صواب طائش والى رحمة الله فكرْ بالموضوع ومن الافضل تأجيل حاجتك الى الصباح "

قابلَ الجميع بالضحك والتعليق فكرة التأجيل، "جا هي عملية عسكرية، لو إجتماع حزبي حتى يأجله" قال إثنان منهم في آنِ واحد.

- بعد أن قضى حاجته ورجع، قال، وهو يفترش إبتسامة على وجهه " وانا جالس في العراء، تذكرتُ قول المهاتما غاندي عندما سألوه عن أسعد أوقاته، قال "عندما أحلبُ معزتي لأشرب حليبها وعندما أجد مكاناً مريحأ لافراغ الفضلات التي في جوفي..."، عبقري! غمغم أحد أعضاء المفرزة.

بعد الإنتهاء من معضلة هذا الرفيق، استلقى كل واحد في فراشه، حدد مسؤول المفرزة طريقة الحراسة والتناوب...الخ وأقترح بعض الخبثاء أن يبقى مسؤول المفرزة يقظاً طول الليل لمراقبة الحراس للتأكد من عدم نومهم ، ولماذا على مسؤول المفرزة أن يقوم بذلك ؟

- قال أحدهم، ولماذا لا، أجاب صاحب المقترح ، المسؤول يجب أن يتحمل كل شئ ، وأن يكون قدوة للآخرين، ويعمل أكثر الكل، وينال أقل من الكل في الطعام والراحة والنوم والامتيازات، ضحك الجميع، وكل شئ جرى على ما يرام، بين النكات والتعليقات.

كاد النوم أن يتخبخب الى جفونهم، عندما اقتحم المسلحان الغرفة، ماذا حدث وهل إنتهينا بلمحة بصرٍ وبهذه السهولة ؟ لحظات قصيرة تمر يمكن أن تعادل السنين في إستعراض شريط الماضي، لحظات زمنية لا تتجاوز مسافة عدة بوصات لتناول البندقية وسحب الأقسام، لكنها تمتدُ لمسافةِ سنواتِ من الذكرياتِ، وتومض في ذهن الانسان مئات الأفكار، وتختلط المخاوف بالشجاعة والأستسلام للقدر بالأماني الحلوة والذكريات الجميلة للعوائل ووجوه الأطفال تقدم نفسها الواحدة بعد الأخرى ...

امتشق الجميع السلاح وسُحبت الاقسام، وكادت ان تقع الكارثة لولا صياح احد المُسلَحيَّن (مه دوستين ـ نحن اصدقاء، قوموا هناك هجوم على القرية) باللهجة البهدينية.

أجابهم أبو آشور بأسلوبه الهادئ وباللهجة البهدينية، لماذا داهمتمونا هكذا وبهذه الحماقة، كدنا أن نقتلكم، ظنناكم أعداء، ليذهب أحدكم لمناداة مسؤول الهاربين في القرية ليأتيَّ الينا، كي نتفاهم معه ويبقى الآخر معنا، ذهب أحدهم لمناداة المسؤول وبقي الآخر معهم، وفي نفس الوقت طلب أبو آشور من المفرزة التهيؤ لمغادرة القرية، قبلَ أن تُطوق، وحدد المخرج منها...الخ ، وقبل أن تهمُ المفرزة بمغادرة البيت، خفت حدة الرمي، وساد نوع من الهدوء في القرية، جاء مسؤول الهاربين مع المختار، شرحا ملابسات المسألة، إنها عداوات عشائرية وليس هجوم، والقضية هي أخذ الثأر والانتقام، فقد جاءت عناصر من عشيرة أخرى في القرية المجاورة ورموا بقنبلة يدوية من سطح أحدى البيوت من خلال فوهة المدفئة الحطبية بهدف قتل صاحب الدار لأخذ ثأر منه عن فعل سابق قام به، أصيب بعض أفراد العائلة بالجروح، وجرى تبادل اطلاق النار بين المهاجمين ومسلحي القرية ولاذ الجانون بالفرار بعد مطاردتهم، وطلبوا من أبو آشور نقل أفعال العشيرة المعادية الى قيادته.

صباح اليوم الثاني ومع الاطلالة الأولى للفجر غادرت المفرزة القرية، دون أن ينعم أفرادها بالراحة التي حلموا بها وتحقق صدق تنبوءات ذلك المتشائم في المفرزة الذي أصيب بلعنات بقية أعضاء المفرزة على حظه النحس الذي تلظى به الجميع، وقالوا له، لا تفكر بأن نعيدك من كوردستان حتى وإن حظك أحرقنا جميعاً، هكذا غادرت المفرزة بسلام ، ومختار القرية وبعض وجهاءها رافقوها لمسافة من القرية والمختار يلَمحُ لأبي آشور مرة ويصرخ مرة آخرى بأن لا ينسى ما فعلته العشيرة المعادية، وإن أهل القرية يرحبون بالأنصار دوماً .



 

free web counter

 

أرشيف المقالات