| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء  2 / 10 / 2013



افتتاحية المدى

حكايات "الدّمج" في تاريخنا السياسي : "الحيد"... ما ينِسحِبْ..!

فخري كريم  

(1)
على مر العصور كان الإنسان يتعلم من محيطه، واحياناً كان يحاكي الحيوانات والطيور، ويراقب سلوكها وكيفية تعاملها مع مصادر غذائها وسكنها ودفاعاتها. ذكّرَني بهذا " الحوار " الصامت بين الانسان والكائنات الاخرى ما قيل مؤخراً عن محاولة العلماء تصميم طائرة بالاستفادة من مراقبة النحل الطنّان.!
ورأيت ان اعود الى تاريخ تأسيس الدولة العراقية، في العشرينات من القرن الماضي، وكذلك بعض تجارب الأحزاب السياسية العقائدية واساليب تحصين تنظيماتها من الاختراقات والزركات الامنية، وتعاملها مع الكادر الحزبي واصطفافاته، ارتباطاً بالهاجس الامني، لعل في هذا الاستذكار ما يُعينُ على فهم ما يدور في "دولتنا المتخبطة "، والأحزاب السياسية المهيمنة على المشهد الراهن.

(2)
أنيطت مهمة تشكيل الجيش العراقي، ارتباطاً بتأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي، بالشخصيات العسكرية البارزة التي خدمت في الجيش العثماني وعادت الى العراق لاتخاذ مواقع قيادية لها في الدولة الحديثة ومؤسساتها السيادية. وكان من بين العائدين نوري السعيد وياسين الهاشمي وجميل المدفعي وجعفر العسكري وتوفيق وهبي، وغيرهم من الطبقة السياسية التي حكمت العراق طوال العهد الملكي، حتى الرابع عشر من تموز ١٩٥٨.

كانت معضلة هؤلاء القادة تتمثل في إيجاد القيادات الكفوءة للقطعات العسكرية، في ظل غياب معاهد تدريس عسكرية، او وجود كفاءات اخرى غير القادمة من اسطنبول، وهي لا تكفي في كل الاحوال لتغطية حاجة الجيش "تحت التكوين". ولان المهمة كانت عاجلة، وتتطلب معالجة آنية، حتى وان كانت "مؤقتة" فقد ارتؤي ان يجري اختيار ابناء رؤساء ووجهاء العشائر للمهمات القيادية الوسطية للقطعات العسكرية، ريثما يتم اعداد كوادر في معاهد وكليات عسكرية، قيد الانشاء. وقد أُخذ بهذه القاعدة في اشغال المواقع الابتدائية في الجيش الجديد، من اعتبارين، يتعلق الاول بالتدريب الذي يحصل عليه هؤلاء الأبناء على استخدام البندقية والسلاح الفردي منذ الصغر. والاعتبار الثاني كان يتعلق من وجهة نظر قادة الجيش والدولة الحديثة التكوين بأن مثل هذا الاختيار لأبناء العشائر، الى جانب توزيع الاراضي الاميرية الاقطاعية، وغيرها، سيكسب رؤساء العشائر ووجهاءها إلى جانب الدولة والنظام الملكي.

وقد تمت هذه العملية بنجاح، واختير المئات من ابناء الشيوخ والوجهاء للانضمام الى الجيش الجديد، وجرى تأهيلهم، قدر المستطاع من خلال دورات تدريبية .

وجاءت المرحلة التالية، بعد استحداث الكلية العسكرية، ثم كلية الأركان. وانضم اكثر هؤلاء إلى الكلية العسكرية، مع توصيات برعايتهم، والاخذ بالاعتبار اصولهم وثقافتهم ودربتهم على السلاح الفردي، وهو ما يتطلب التساهل قدر الإمكان.

(3)
على صعيد الحياة الداخلية للاحزاب العقائدية السياسية التي كانت تتعرض الى الملاحقات الامنية والاعتقال والتعذيب المفرط، كانت النواتات الحزبية المعنية بتوسيع قاعدتها مضطرة الى مراعاة الظروف السياسية والامنية واخذها بنظر الاعتبار عند اختيار الاعضاء الجدد، وكذلك عند تأهيل الكوادر، وهي القاعدة نفسها التي تُعتمد في الهيئات القيادية المركزية.

وكانت هذه القاعدة تصبح محور صفات الكادر والأولوية عليها، في الظروف التي تهيمن عليها الاجراءات الامنية وقوانين الطوارئ.

فالصفة الأولى للكادر، وللهيئات المركزية في الأحزاب السرية المناضلة، وسآخذ الحزب الشيوعي كمثل لكي لا يقال إنني أسعى للإساءة الى قوى أخرى، تتجسد فيما يُعرف في الحياة الحزبية بـ"الجهادية"، وهي غير صفة الجهاديين الملاعين من انصار المنظمات الانتحارية التكفيرية، وهي تعني الصلابة في مواجهة "العدو" وصيانة أسرار الحزب، وتحمّل صعوبات وتبعات العمل الحزبي في ظروف الملاحقات والاعتقال والسجن والتعذيب وحتى التعرض للإعدام والموت تحت التعذيب الوحشي. واعتماد هذه الصفة في الكادر، اذا ما قورنت بالمواصفات الاخرى كالتأهيل الفكري والثقافي والسياسي، دون ان تتوفر في المرشحين حاملي هذه المواصفات ستكون للمناضل الصُلب الجهادي دون ادنى شك.

وفي المراحل النضالية الصعبة الاستثنائية، وخصوصاً عند تعرض القيادات والكوادر الى الاعتقال والسجن والتصفيات الجسدية، كما حصل في اواخر الأربعينيات، وبعد الانقلاب الفاشي في ١٩٦٣، تُثقل الهيئات القيادية بمثل هذه العناصر، وتتراجع نسب الكفاءات الفكرية والثقافية والسياسية العالية، وهذا يتماشى مع الظرف الموضوعي ومتطلبات العمل السري.

(4)
كان الحزب يراعي، عند توفر الظروف المناسبة، معالجة التركيبة القيادية المختلة، وتطعيم الهيئات القيادية والوسطية بالكفاءات القادرة على الارتقاء بها إلى مستوى المهام الجديدة.

بعد احدى هذه المحاولات لتحسين الأداء القيادي، جرى إعفاء بعض القياديين من مهامهم، وصار مطلوباً إيجاد مهام لهم في التنظيمات الحزبية، ووقع الاختيار، لسوء الطالع عليّ، لتنسيب مناضل قديم في مهمة جديدة. بعد جهد متواصل، والبحث في مختلف مفاصل العمل الحزبي، لم اعثر له على مهمة. وأبلغت قيادة الحزب آنذاك، بان من المتعذر تكليف المناضل باي مسؤولية يمكنه ان يتقبلها، فهو غير قادر على العمل في هيئة الإعلام او الثقافة لافتقاره الى ما يؤهله للعمل فيهما، وهو غير قادر على العمل في العلاقات الوطنية، لانعدام خبرته في هذا المجال الحساس، ويصعب تنسيبه إلى التنظيم، لان الحياة الحزبية تجاوزته.

كتبت للقيادة أن المكان الوحيد الذي يمكن أن يستوعبه هو اللجنة المركزية، ولكم أن تعالجوا الأمر بما عرف عنكم من حكمة، وطول بال.!

تذكرت هذه المعضلة التي واجهتنا في الحياة الحزبية، بما تواجه دولتنا "المتراصة طائفياً" وحكمتها في مواجهة الإشكاليات التي تعترضها في اطار المحاصصة وتقاسم السلطة والحفاظ على التوازنات الدقيقة فيها. واحدى اهم مآثرها ان واجهت صعوبة بالغة في إيجاد وزارة ميسورة لاحد أعوانها الذين لا تتكامل الحكومة دون إرضائه، ولأنه لا يصلح لذلك، بحكم التجربة المريرة، اخترعت له منصباً موصوفاً، لا يخل بالتوازنات، فاصبح احد نواب الرئيس. بصراحة لا اذكر أي الثلاثة من النواب هو ، لكي لا أغيظ صديقي الأثير الذي يوصيني يومياً بان أتجنب الشخصنة.

من يعرف من هو له مني جائزة..!

(5)
والاسترجاع التاريخي قادني إلى حالة قواتنا المسلحة والأمنية، وكذلك لمدى أهلية القيادة العامة للقوات المسلحة، ومكتب القائد العام ، بعد أن اصبح معروفاً من استعراض حاملي مفاتيح المكتب، من الأصدقاء والأقارب والأبناء
والخلصاء من أيام "المزَبّن" في الخارج، من هم القيّمون على امننا وسلمنا واستقرار البلاد.

وتذكرت بدايات تشكيل نواتات الجيش العراقي، والاعتماد على أبناء الشيوخ والوجهاء، من المطالبة بـ" تلزيم" أمن العراق واستقراره، بعد ان تم ذلك في قواعد بناء الدولة الجديدة، وتجربة " الدمج " الحزبي والسياسي. المشكلة ان قادة هذه الدويلة المترعة بالمال الحلال، يستفيدون من تاريخ دولة العراق الحديثة عند تشكيلها بكل ما يعينهم على امتصاص خيراتها، الا الاعتراف بالخطأ او نقص الخبرة او النقد الذاتي، او الاستعداد لإصلاح ما فَسُد على أيديهم.
ومن بدايات تشكيل الجيش، وبعد ان اصبحت له كلية أركان، نُسِّب لها العديد من ابناء رؤساء ووجهاء العشائر والمجتمع، ممن مضت عليهم بضع سنوات في الخدمة العسكرية، ومع التنسيب أُرسلت توصية "ناعمة" لادارة الكلية ومدرسيها بضرورة تخرج المنسبين من الأركان.

طلب التدريسيون في امتحان الأركان، من احد أبناء الشيوخ الذي انتسب الى الجيش على القاعدة التي مر ذكرها، وكان اسمه "....الحيد" ان يضع خطة هجوم تشترك فيها كل الأسلحة، رف طيران، كتيبة دبابات، مدفعية، هاون ، تقدم مشاة، وهندسة. وبعد انتظار تبين انه غير قادر على إعداد مثل هذه الخطة، فحولوا خطة الهجوم الى خطة انسحاب بنفس التشكيلات، على ان يكون انسحابا منظما وليس "قهقرى"!، كذلك مر الوقت دون بادرة تشير الى انجاز خطة. فقيل لـ".....الحيد" بعدين، وين خطة الانسحاب..؟

كان الجواب ببساطة : تخسه، "الحيد" ما ينسحب أبداً..!



المدى
العدد (2907) 2/10/2013


 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات