| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 2/11/ 2009



من ذاكرة زوجة شيوعي

محمد حسب الله

يقولون ان التاريخ وحده الذي يضحك لأنه يدرك ما لم يتوقعه احد. وها انا اقلب في صفحات الزمن الغابر عبر ما يقارب اربعة عقود من التسلط الدكتاتوري الفاشي التي حفرت في ذاكرة العراقيين قصص تفوق الخيال في تصورها لهول احداثها والصمود الاعجازي لأبطالها مما اشعر بغصة ودموع الألم تحرقني كما احترق وطني بنيران من اراد ان يبني وجاهته على مذلته .

كان للشيوعيين النصيب الاوفر من هذه القصص لدعوتهم الى بناء وطن حر يحتل مكانه تليق به بين الأمم المتقدمه لثقله الاقتصادي والسياسي ودوره التاريخي والحضاري في المنطقه والعالم .وشعب سعيد ينعم بخيراته على اساس المواطنه الصالحه دون تمييز. ومن بين ألاف القصص التي لو قدر للمنتجين السينمائيين ان يمنتجوها لملأت شاشات العرض السينمائي بأفلام تفوق برعبها افلام هتشكوك لواقعيتها وما تتضمنه من مشاهد مثيرة ومنها قصة السيدة (ام ظفار) .

(ام ظفار) مشكلتها انها تزوجت من الشيوعي والنصير ضمن قوات انصار الحزب الشيوعي (ابو ظفار) وهو ابن الشيوعي الراحل الخالد هادي صالح متروك ، واعتنق المبادئ الشيوعيه كغيره من الشباب الذين امنوا بأنها الطريق الامثل لبناء عراق ديمقراطي موحد ، مع ادراكهم لحجم المخاطر والصعوبات التي تعترض طريقهم وبعد مسيرة شاقه في مواجهة ازلام السلطه الدكتاتوريه وصمود بطولي تحت سياط الجلادين اضطر وبعض الشباب بعد ان تعرض الحزب لاشرس هجمه بين عامي 1979 و1980 الى مغادرة الوطن مكرها الى بلدان المنافي لا هربا من مصير اختاره بأرادته بل بحثا عن اساليب جديده للنضال من اجل خلاص الوطن والشعب من اوضاع البؤس والشقاء وانعدام الحريات والتحكم بمصائر الناس .

من هنا تبدأ قصة الزوجه (ام ظفار) وكل زوجات الشيوعيين الذين عاشوا المنافي والذين انقطعت اخبارهم عن ذويهم لأسباب امنيه او أسباب تتعلق بظروف وأساليب النضال الجديد أو لأن بعضهم قد استشهدوا اما اثناء محاولات اجتيازهم لمخاطر امتلات بها طرق المغادرة او نتيجة التصفية الجسدية من قبل مخابرات النظام بأساليب اقل ما نصفها انها كانت خسيسه وجبانه تقوم على الغدر ويأنف منها اي سياسي شريف .

(أم ظفار) ولدت ونشأت في كنف عائله متواضعه بسيطه تحترم القيم والتقاليد الأنسانيه وتلتزم بالأخلاق والمثل العليا وهذا ليس غريبا على طبيعة المجتمع العراقي المعروف بأصالته والمتميز بهذه الصفات ، غير ان هذه التركيبه الأجتماعيه والمنظومه الأخلاقيه بدأت تتعرض الى التفكك والأنهيار من جراء سياسة النظام الراميه الى اضعاف وحدة العراقيين وتماسكهم ولم يكن اثرها مقتصرا على العائله العراقيه بل امتد الى المدرسه والجامعه والتلفزيون والمسرح وكل مرافق الحياة حتى الحدائق العامه والمتنزهات الترفيهيه لم تسلم من عبثهم وسلوكهم اللأخلاقي وزاد بالطين بلة تداعيات الحصار الأقتصادي والحروب العبثيه.وما يمر به العراق الأن ما هو الا تحصيل حاصل لممارسات تلك العقود الغابرة وسنظل نحصد اثارها اذا لم يتعض السياسيون من عبر ودروس التاريخ ويتحرروا من عقلية الماضي .

(ام ظفار) وهي الأنسانه الرقيقه التي كانت تحلم كبقية بنات جيلها ان تسعد بزواجها وان تقيم اسرة هادئه مستقرة في ظل حماية مجتمع تحبه ويحبها .غير ان الظروف وضعتها امام تحديات صعبه وقاسيه لم تكن بالحسبان ولم تكن مهيئه لها ولم يدر بخلدها وبقية العراقيين ان تنحدر مجموعه ومع الأسف نسميهم عراقيين الى هذا المستوى من الأنحطاط والرذيله ويتعاملوا مع المرأة العراقيه التي قدستها كل الشرائع بأساليب مبتذله ورخيصه تتنافى مع كل ما يدعون من احترام وصون لكرامة الأنسان.

هذه التحديات اجبرتها ان تختار بين السقوط في مستنقع رذيلتهم والأنجرار الى اخلاقهم المتدنيه لتنفيذ مآربهم واستخدامها كوسيلة ضغط على زوجها ، غير ان سمو المبادئ التي امنت بها والأخلاق العاليه التي تأصلت بذاتها تأبى ان تستسلم لنواياهم الشريرة وفضلت الموت حرة كريمه على حياة الذل والعبوديه لأيمانها ان الخلود الحقيقي هو الذكر الطيب وهذا ما يتمناه كل مناضل وانسان شريف ولكي لا يضحك منها التاريخ.

تقول بعد الأصرار على المقاومه والصمود علي ان اتحسب لكل الأحتمالات .وفعلا تعددت مرات الأستدعاء الى دوائرهم الأمنيه لسبب او بدون سبب وصرت محاصرة اينما اكون بالبيت بمكان عملي او حتى عندما اكون عند اهلي وبدأت اشعر ان الأماكن اخذت تضيق بي وأن خطواتي صارت محسوبه ووكلائهم لا ينفكون عن مراقبتي .فكل احلامي ورغباتي وأمنياتي ترتطم بجدار السجن الذي تغلغل الى داخلي .

كان فؤادها يعتصر ألما حين تتطلع الى وجهي طفليها وقد ارتسمت عليهما مسحة من الحزن ونظرات تشعر بالشفقه عليها تخفي وراءها سيل جارف من الأسئله والكثير من علامات الأستفهام تجمع بين التعاطف والمواساة مع امهم والحرمان من ان ينطقوا بكلمة بابا خوفا من الجلادين الذين سرقوا منهم طفولتهم واحلامهم .فالطفله الصغيره غادرها والدها بعد ان احتفلوا بعيد ميلادها الأول اما الطفل الثاني فلم يتجاوز الأربع سنوات من عمره ولم تكتحل عيونهم برؤية والدهم الا بعد ستة عشر عاما من الفراق القسري.

وكثيرا ما استدعي الطفل للتحقيق منفردا عن امه وقد فوت عليهم الفرصه لأنتزاع اي معلومه منه ربما لأحساسه الفطري وشعوره بمعاناة والدته وأن هؤلاء الناس غرباء عنه مما اكسب والدته زخم جديد من القوة والتحدي.

ومن الأساليب الاخرى كما ترويها (ام ظفار) بألم بالغ انها كانت تستدعى من الصباح الباكر وتقاد الى شرفه ومن خلال زجاجها تطل وهي واقفه على ساحة تتوسط بناء مديرية الأمن وقد انتشر فيها عدد كبير من المعتقلين من مختلف الأتجاهات السياسيه بشكل مبعثر وبأوضاع مزريه بملابس رثه مهلهله ومن وجوههم ولحاهم الطويله يبدو انهم لم يستحموا لفتره ليست بالقصيرة وبعضهم من حركاته يبدو انهم اصيبوا بالجنون والبعض الأخر انزوى في زوايا الساحه خوفا من السياط ان تلسع ظهورهم.وبين الحين والأخر يطلق الحرس العيارات الناريه. يبدو هذا تقليدا يوميا يمارس للتسليه بهذه الكائنات البشريه في مكان غير بشري .وكان يمر من امامي بين الحين والأخر عبر الممرات والسلالم مجموعة اخرى من المعتقلين معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي والسياط والهروات تلهب ظهورهم .

امام هذا الموقف وغيره من المواقف التي تعجز الكلمات عن وصفها ويخجل اللسان عن النطق بها وتقشعر الأبدان لرؤيتها كنت احاول ان استجمع قواي لأحافظ على توازني كي لا انهار وينالوا مني اذ كنت المح نظراتهم تراقبني وتهديداتهم تملأ اسماعي فكنت اتظاهر بتجاهل ما يدور حولي .فلولا هذا الصمود وعدالة قضيتي لما انتصرت على جلادي .وعلمتني هذه التجربه على مرارتها والتي كوابيسها ما زالت تؤرقني وتجثم على صدري ان اعيد صياغة كلماتي عشر مرات قبل ان انطق بها.

أن معاناة زوجات الشيوعيين تستحق منا اكثر من وقفه نتأمل فيها صمودهن البطولي وسمو اخلاقهن واحترامهن لرباط الزوجيه المقدس للأستفاده من دروسها ومعانيها وليتعرف عليها ابناء شعبنا ومنهم الأجيال الجديدة الشابه التي تشكل تاريخا مشرفا في نضال المرأة العراقيه.

فلهن منا كل الأحترام والتقدير والى مزبلة التاريخ من اراد النيل منهن.

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات