| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

السبت 2/2/ 2013



افتتاحية المدى

نشيد المرأة وتعويذتنا المستعادة في رحابها

فخري كريم 

(١)
مضى وقتٌ طويل، على آخر انتباهةٍ استوقفتنا، لنحيط بما آلت إليه حياة المرأة في بلادنا، وفي أي محور تدور قضيتها، بعد أن دارت الدنيا حول عوالمنا المنسيّة، فتناثر حصاد بيدرنا جرّاء صدماتها، وعبث تحولات الفصول وعواصفها غير المحسوبة.
ولفداحة خسائرنا وخيباتنا، لم نعد نُمَيِّزُ في أي مدارٍ تدور دواليب حظوظنا العاثرة، وأين يمكن لنا، أن نفصل بين ما هو عام، نتراجع فيه معاً، مجتمعاً، وأفراداً، ومسَّلَمات، واحلام غامضة، وبين ما هو خاص، شديد الخصوصية، ينالنا طرفٌ جوهري فيه، رغم خصوصيته، ورهافة حساسيته.
نسينا ونحن نتجرع كؤوس الخيبة الملثمة بحجاب الندامة، قضية المرأة التي كانت دائماً نطاق حريتنا، ومربط حراكنا ونحن نبحث عن خطوط سيرنا على دروب المستقبل.

(٢)
أي نسيانٍ، أشد إهمالاً، من تجاوز أحوال المرأة، بعد عقود من انبلاج فجر انعتاقها، وهي تستعيد جوهر إنسانيتها، وتتمرد على قيود عبوديتها، وأسرها، وتفتح بتحررها أبواب الأمل أمام المجتمع بأسره، لكي ينفض عنه غبار الجهل والضغينة والغرور والاستغلال، ويتبرأ من تهمة التلذذ بعبودية المرأة وإقصائها عن رحابة الحياة ونفائسها، التي تشكل هي بذاتها جوهر كل ما هو نفيس ومتوثب في حياتنا ومداراتها.
لم تكن للحرية، حرمتها، في ظل تَغييب نصفنا الأجمل والأكثر وقعاً على مصائرنا. ولم يكن لمجتمعنا اطارٌ يحميه، ويذود عنه، ويستر عوراته الحقيقية، ومثله الاعلى يتجسد في تأكيد حريته، بتكريس عبودية أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا.
وتاريخ غيبة وعينا وضحالتها، إنما هو مبتدأ، الغيبة القسرية للمرأة، وتجريف تاريخها، الذي دشن في البدايات الأولى من مهد البشرية، لحظة التحول من القطيع الى العائلة، ومن التوحش الى إدمان الفكر في الكينونة ومعانيها الخفية الملتبسة، وظواهرها المُحيرة..!

(٣)
في العشرينيات من القرن العشرين، اكتشف العراق ذاته، وأصبح دولة، شبه مستقلة، يتقاسمها الإقطاع وفلول المجتمع العثماني. ومع يقظته وهو يبدأ سيرورته المتعثرة، تتسلل إشعاعاتٌ خجولة من طيف الحرية الى الحواجب والستر، لتلامس وعي المرأة العراقية، فأخذت تقرأُ في كتب الرجال ومجلاتهم، وتقترب بخطوات من أسوار المحرمات، ولم تكن تلك المحرمات، في واقع الحال يومذاك، غير دواوين من الشعر وقصص قصيرة وفنون بريئة، وتلتقط همس الرجال من وراء ستار الحريم، وهم يتبادلون شؤون السياسة والمجتمع والحكم، ويدلفون منها إلى ما هو اخطر. كان الهمس بالنسبة لنساء ذاك الزمان، أسراراً مقدسة، والتلصص عليها، تَلَبُساً بالجرم المشهود. في أجواء المحرمات البريئة تلك، خرجت رائداتٌ مفعماتٌ بالشرف، والحصانة الأخلاقية، وسمو المكانة ورفعتها، لتختم رحلة عبوديتها الاجتماعية، وتدشن مرحلة تحرير الرجل والمجتمع، وتضعهما على طريق المستقبل.

(٤)
ليس افتعالاً، ان نؤرخ لمرحلة تحرر مجتمعنا، بالخطوات الأولى التي تلمست فيها المرأة مكامن عبوديتها، فتجاوزتها، وعمّدت حريتنا، بوصفها رمزاً للحرية والانعتاق الإنساني. فقد كانت هي الكينونة المعذبة المستلبة في كل مراحل التاريخ، المجس النابض والمؤشر لفضاءات الحرية والانعتاق وقيمها المتاحة او المحجوبة، سواء في حياتها الشخصية داخل الأسرة، أوفي متاهات المجتمع المتناقض المنغلق على نفسه، وفي أروقة العمل، ودروب الحياة، كانت الحدس الذي لا يخطئ بمآلها، وبما هي عليه، في صعودها، وتعرجاتها، وانحدارها.
وليس صعباً تلمس إيقاعات هذا المؤشر في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. فأينما كانت المرأة، أسيرة محنتها في البيت، أو ضحية قيودها في المجتمع الجائر، او رهينة استغلال سيد العمل والمال. فإن المجتمع نفسه، بغض النظر عن الشكليات وتبريراتها، هو بالذات، أسير ادعاءاته بالتفوق وضحية أوهامه التاريخية، بوصفه رمز سيادة مفترضة واهية.
لقد كانت المرأة في حياتنا نحن، في العراق، وهو يجتاز مراحل تكوّنه وتطوره، حين يئنّ ويتعثر، أو يكبو، ثم يستيقظ وينهض، رابية وعينا وأنشودة يقظتنا، ومصدر الهامٍ، يمُدنا، كلما غامت الدنيا في عيوننا، بالصبر الجميل، والصلابة الإنسانية، وطاقة الاستمرار بجلدٍ وعنفوان في التحدي ومواجهة الصعاب.
وكانت هي في لحظات الشك معيناً لا ينضب لتشبثنا بالأمل والتفاؤل، وثقتنا بالمرتجى الآتي، مهما تغيرت الأحوال، وتبدلت النفوس، وغابت الرؤيا.
ان النظرة القاصرة، هي وحدها التي تقيس أقدار المرأة بحساب الأرقام والنِسَب في تحديد دورها ومساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أن ضعف وعينا، هو الآخر كان وراء، حجب الحقيقة حين تتجلى تعبيراتها في حضورها المهيمن في البيت وتحملها أعباء صياغة سيرتنا ككائناتٍ اجتماعية، كما ينبغي ان نكون عليه، منذ لحظة ولادتنا الأولى، ونحن نطلق صرخة غربتنا واستغرابنا، ليظل كل واحد منا مديناً، لولادته الحقيقية وهو ينفتح على الحياة، ويتوحد بطقوسها، ويكتوي بجمراتها الأبدية. وحيث تفعل هي الأم فعلتها منذ لحظة الولادة، لتتكيّف صياغتنا القيمية والإنسانية في دفء حاضنتها، وتحت لمسات يدها الحنونة ويقينها الفطري، فنتحول، ويصبح كل واحدٍ منا، جديراً بقامة إنسانٍ متطلعٍ جسورِ الأماني والتشوّف لحياةٍ تليق بكرامته.
وضعف الوعي هذا، هو الذي يحجب عطاءها غير المرئي، وهي أسيرة بيتها، كمصدرٍ للإلهام في تصدينا للحيف والمظالم، تدرأ من نفوسنا مذلة الجبن والتردد في مواجهة الجلاد والمستبد. وبدون إلهامها لم يكن يسيراً علينا أن نمضي مرفوعي القامة نتحدى جلادينا، وبدونها كمنهلٍ لأحلام طفولتنا، كان عصيّا، ان نترفع على صغائرنا وانكساراتنا ومخاوفنا، ونواجه المستحيل..

(٥)
حين نزعت عنها عباءة مخاوفها، هي، لم تكن تداري بذلك سوى انحيازاتنا الأولى لعبوديتنا، وتتوجس خيفة ثلم مشاعرنا، فظهورها الأول كان شديد الوقع، حتى علينا نحن، او من تقمصنا أدوارهم من ذاك الزمان، حيث كانت القراءة بحد ذاتها، قرينة خروجٍ على المألوف، وجحود ومروق وهرطقة. فكيف بركوب جملٍ عربي في احتفال تنصيب الملك فيصل الأول. يومها فات شهود "واقعة الجمل" ان الطفلة الراكبة صبيحة الشيخ داود، ستخترق حواجز ومحرماتٍ، فتدخل كلية الحقوق، وتصبح أول قاضية في العراق الملكي.!
يا لتلك البطولة والإقدام من قوة مثلٍ، وريادة في اقتحام المجاهيل.
ويا لأبيها من متانة أخلاق، وبصيرة حكمة، وهو يحمل بيديه صبيته، ويضعها فوق ذلك البعير الذي كان على جهل بأنه سيسجل مأثرة الريادة في تاريخ بعراننا العربية الخاملة.
وسنة بعد أخرى، وطورا بعد آخر، ومثلاً بطولياً للمرأة في أعقاب مثل، خرجت جموع مباركة من النساء على المألوف المتهرئ، يكشفن المستور من ترهل المجتمع، ويقتحمن ميدان العمل، طبيبات ومحاميات ومهندسات، متسلحات بالعلم والمعرفة والدراية بدروب الحياة.
انها إذ نزعت عنها عباءة ذُل سيدها ووحشة قيودها، أدركت أنها بذلك ترسم خطوط تفوقها علينا، تتخطانا بتضحياتها، وتتقدم علينا بجسارتها، وتفك عن المجتمع اغلال عبوديته، بتحررها من القيود البليدة للطاعة البيتية والاجتماعية، وتداعياتهما.
ان الخروج الباهر لأول امرأة في المظاهرات الوطنية، والاقتحام الأول لها للمدرسة والكلية والجامعة، والاعلان الاول لها في منتديات السياسة والعمل الوطني، واول...اول....اول،..كلَّ ما كان يبدو منيعاً، ومستحيلاً ان تجتاز عتباته، كان ذلك كله ترتيلاً وإيذاناً بليغاً بالتحول، تحولها هي، وتحولنا نحن، من الأسر الى بوابة الامل والحرية. ولم يكن ذلك بشيراً بعالمٍ جديدٍ لها فحسب، بل كان في الوقت ذاته نذيراً للجهالة والتخلف، ووعداً لنا باقترابنا من القبض على مواقد مواجعنا.

(٦)

لقد تجاوزنا، بعد عقود دامية، امتحان مقاومة الاستبداد في تحولاته الأكثر قسوة، وحطمنا صنم الدكتاتور. وقد توهمنا للحظة اثر سقوطه، ان تلك مرحلة ولّت ومضت بلا رجعة، ولن يبقى من فضلاتها غير جزءٍ مفيد لإنعاش ذاكرتنا كلما أصابها الوهن. لهذا بقينا، رغم سقوط الطاغية، نتطلع الى اللحظة الحقيقية للتخلص من أشباه الدكتاتور. ورغم الحسرة التي تنتاب جيلنا الذي تعاوده بين فترة واخرى مرارة الخيبة، او الانحسار، فان متعة الماضي، بكل ما فيها من قوة ومضاء وتحدياتٍ وتراجعات، وبما عنته وانطوت عليه من معانٍ ومن قوة دفع لهذا الجيل الظافر، تظل ملاذنا الآمن من اليأس والمرارة، وتعويذتنا للتغلب على الشعور بالضياع.
ان مظاهر كثيرة، تبدو كأنها تسد منافذ الأمل في مشهدنا الراهن. لكنها مظاهر خادعة، وانعكاسات سراب، لا علاقة لها بالحراك الذي يمور في اعماق المجتمع. اذ كيف يمكن لهذا السراب ان يخفي قوة اندفاعات المرأة وهي تعبر سن الرشد والنضج المبكر، وتجسد بصلابة قوة الموقف والمبدأ، والإصرار على المضي لكسر التابوات، وتَجاوز المسافة الفاصلة بين الحق والأباطيل، وهي ذات المسافة الفاصلة بين الحرية وآفاقها الإنسانية، والعبودية ورثاثاتها.

(٧)
ان مجد البداية يظل يزهو بريادته وجسارته وقوة المثل والأنموذج.
تلك هي البدايات الأولى لاقتحام المرأة أسوار التابوات.
وحصاد المؤجل من آمالها وآمالنا وتطلعاتها وتطلعاتنا، رهن المجهول، لكنها آتية لا ريب..
فكم هي قيمة العمل والريادة حين تمنح الكلمات حرارة الفعل والتخطي، وأي قيمة لكلمات لا حرارة فيها، لا تنبض بسعادة العمل والمشاركة بمتعه ومتاعبه ومسراته. أي كلمات يمكن أن تكون ابلغ من جسارة امرأة، تقتحم سوح الكفاح لتعيد الاعتبار لإنسانيتنا التي تُنْتهك تحت لافتات تهَرَّأت لكثرة ما شابها من قيم الاستبداد والقهر والإذلال.
لقد انكفأتُ، وتخليت عن سعادة الاقتحام والتحدي، بدواعٍ لا تعبيرات عنها الآن، لكن انكفائي لم يكن انكفاء خنوع المتخلي أو المهووس بمنطقه الذاتي، إذ ليس في ذاكرتي ووجداني، نبضٌ اشد وقعاً على حياتي، من وقع تلك اللحظات التي كنت أتوحد فيها مع الجموع المتدفقة، الواثقة الخطو، الحالمة بحياة حرة سعيدةٍ، وهي تغذ السير نحو فضاءات الحرية والأمل، وفي مكانٍ أثير من هذه الذاكرة حراكٌ يمور بتدفقات حياة، كانت المرأة المناضلة تحتل مساماتها المضيئة. في اركان من ذاكرتي تطل نزيهة الدليمي وعائدة ياسين (أم علي) وموناليزا أمين وشذى البراك وفوزية الحكيم ورجاء الرحبي وعميدة مصري وعميدة عذيبي وفريال الأسدي والفنانتان فخرية عبد الكريم (زينب) وزكية خليفة وليلى قاسم وروز خدوري، فوزية الاحمر ، وأمينة الرحال ونظيمة وهبي ونازك الملائكة وسانحة أمين زكي ولمعان امين زكي وفكتوريا نعمان ورباب الكاظمي ومقبولة الحلي وحفصة النقيب ونزيهة سليم.
وفي زاوية أخرى لا تزال تنبض بالحياة مشاهد حركة جسورة لرائداتٍ باقيات، بشرى برتو وسافرة جميل حافظ وبثينة شريف ونعيمة الوكيل ومبجل بابان وثمينة ناجي (سلام عادل) وهناء أدور وام سعد دكله وخانم زهدي ووسن عبد الهادي وشميران مروكل وبخشان زنكنة ونقية اسكندر ونجية الشيخ علي ونسرين نوري وناهدة الرماح، والعشرات والمئات من صور البطولة التي تضيء مستقبلنا..
اليوم (أمس) عاد الشجن الرهيف، ليعود بي إلى سنوات مضت، كانت مراراتها، عذبة المذاق لكثرة ما كان الامل يتناثر في ثناياها. كان المعذب والجلاد والمستبد، اشباح ، جبناء، يُسقِطون علينا مخاوفهم ومكامن جبنهم، تعذيباً في غرف مظلمة باردة لا روح فيها..
تذكرت قصوري، عن استعادة مشهد المرأة المتفضلة علينا، عندما قيل لي إن مؤتمراً ينعقد، لرابطة المرأة العراقية، فتعثرت بشجني ومواجعي، ورأيت ان اكتب، لا انحيازا بل اقرار بالفضل، واعتراف بالريادة.
الرابطة ليست عصبة حزبية او طائفية، ومآثرها سجلٌ حافل لكل امرأة تبحث عن ذاتها، وتداري حريتها، وتقاوم شقاوة معذبيها..
ما دام للمرأة كيان يتدفق بروح الشباب، لا خوف من محاولات اسقاط دورها بالتدجين، او التغييب الفعلي، او الانتهاز والتطفل من أشباه النساء، والرجال المقيدين بعبوديتهم الذليلة.
وما نراه اليوم تعبيراً شكلياً عن المرأة ودورها في السياسة وأطرها، لا بد له ان يتحول في لحظة ما، ومن شأن هذا التحول في نهاية المطاف ان يؤكد حضورها وعافيتها، ما دامت تنبض بالحياة والحيوية، وما دامت الحرية تتدفق في عروق وجدانها، ما دامت تصر على اكتشاف ذاتها والتعبير الحر عنه، وما دامت متشبثة بكينونتها الإنسانية السامية، عصّيّة على التكيف وفقاً لما يريدون لها ان تكون عليه.
رابطة المرأة العراقية التي تعقد مؤتمرها، في فضاء متلبد غائمٍ، مهمومٍ،.. ترمز بحضورها إلى المستقبل، بوابة أمل ورجاء..
لكنّ، انتن، شقائق النعمان، بساطاً من الأحلام والأماني، وأغصان زيتون، ووعداً بالمضي.


المدى
العدد (2714)  2/2/2013


 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات