| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الجمعة 29/1/ 2010

 

بنات أبي الأسود الدؤلي

محمد سعيد الصكَــــار

الكسرة : اليوم آخذك الى العشــّار لنرى شارعاً بأسم أبينا، بعد أن مررنا أمس بالبصرة القديمة ورأينا الخليلية وتمثال الخليل بن أحمد، و زرنا موقع العباس بن مرداس والأصمعي . واليوم سنزور شارع عتبة بن غزوان ، وقبل أن نصل شارع أبينا سنمر بشارع أنس بن مالك .

الضمـة : أبو مالك بن أنس الذي تنسب اليه المالكية؟

الكسرة: كلا، هذا أَنَس بن مالك الخزرجي الأنصاري ، صاحب رسول الله (ص) وخادمه، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة 93 هجرية. أما مالك بن أنس الأصبحي الحميري فهو إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، واليه تنسب المالكية، ولد في المدينة سنة 93 ومات فيها سنة 179 للهجرة، وكان صلباً في دينه، بعيداً عن الأمراء والملوك.

الضمة : قرأت أن المنصور ضربه سياطاً أنخلعت لها كتفه.

الكسرة : كان ذلك أثر وشاية به. وكان الرشيد وجـّه اليه ليأتيه ويحدثه ، فقال : العلم يؤتى، فقصد الرشيد منزله وأستند على الجدار، فقال مالك : يا أمير المؤمنين من إجلال رسول الله إجلال العلم، فجلس الرشيد بين يديه ، فحدثه.

الضمة : ما أروعه !

الكسرة : وهو الى ذلك صوت جميل.

الضمة : أكان يغني ؟

الكسرة : أنا لم أسمعه ، ولكنني قرأت في كتاب الأغاني أن حسين بن دحمان الأشقر قال :

كنت بالمدينة، فخلا لي الطريق وَسَطَ النهار، فجعلتُ أتغنى :

ما بالُ أهلك ِ يا رَبـــاب      خُزراً كأنهــــم غِضـــابُ

فإذا خوخــة ٌ ( الباب الصغير في الباب الكبير ) قد فــُتحت، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال : يا فاسق أسأت َ التأدية، ومنعتَ القائلة، ثم أندفع يغنيه، فظننت أن طـوُيساً قد نــُشر بعينه، فقلت له : أصلحك الله ! من أين لك هذا الغناء ؟ فقال : نشأت وأنا غلام حَدَث ٌ أتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي : يا بني أن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يُـلتفــَت الى غنائه، فدع الغناء وأطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه. فتركت المغنين وأتبعتُ الفقهاء، فبلغ الله بي عز ّ وجلّ ما ترى. فقلت له : فأعد جُعــِلتُ فداك ! قال : لا ولا كرامة ! أتريد أن تقول : أخذته عن مالك بن أنس ! وإذا هو مالك بن أنس ولم أعلم .

الضمة : ما أظرفه وأرق ُ حاشيته ! قولي لي أبعيد شارع أبينا من هنا ؟

الكسرة : لا ! العشــّار أصلاً صغيرة، وشارع أبي الأسود الدؤلي يقع قريباً من محلة المربد، أعني في محلة (الصـّــَبة).

الضمة : الصـّبــة ؟ ما معنى الصبــّـَــة ؟

الكسرة : معناها الصابئة.

الضمة : ها .. الصُبــّة .

الكسرة : أنت لست بصرية، وإن كنت ِ ولدت فيها. البصريون يقولون ( الصَــبّة ) بفتح الصاد، وأنتم البغداديون تقولون بضمــّها .

الضمة : نحن أفصح .

الكسرة : ولماذا أفصح ؟

الضمة : هذا هو الحال، وأنت وأختك الفتحة تأخذان مكاني دائماً.

الكسرة : أختنا الفتحة مثلك، بصرية ولكنها لاتقيم في البصرة. أما أنا فموطني البصرة، ولم أغادرها منذ ولدت.

الضمة : ولكن لماذا تأخذان مكاني ؟

الكسرة : يا عزيزتي أنت التي تركت ِ المدينة، وأبقيتِ مكانك شاغراً فشغلته؛ ماذا عساي أن أفعل ؟

الضمة : كان عليك أن تنبهيني و تستدعيني ؟

الكسرة : أنا في مكاني وأنتما لاهيتان بالسفر والتجوال، أليس من المفيد أن أشغل مكانكما ؟

الضمة : ولكنك تجعلين الأمر مضحكاً عندما تقبلين أن يُقال : إقعِد بدل أقعــُد ، و كِــل بدل كــُل، والإبـِلــَّـة بدل الاُبـُلــّة ، و دِقــّة بدل دُقــّـة، و رِدّة بدل رُدّة ، وهكذا ؟

الكسرة : يا إختي هذه لهجة.

الضمة : يا أ ُختي !

الكسرة : يا إختي ، أنا الآن عنوان البصرة، والبصريون يحبونني جداً، حتى أنني صرتُ من معالمهم؛ فما تسمعي عراقياً يقول : كـِلّ الناس ، وخمسة واربــِعين ، حتى تعرفي أنه بصري .

الضمة : أرأيت ، لقد أخذت ِ مكان الفتحة أيضاً .

الكسرة : يا عزيزتي نحن نتبادل المواقع حسب رغبة الناس، لماذا لا تنتقدين الفتحة حين تأخذ مكانك فيقال : إقعـَدْ بدل أقعــُد، في جنوب العراق ؟

الضمة : أنت والفتحة تبتزّان مكاني دائماً .

الكسرة : لا يا عزيزتي، نحن بسطاء لا نتقعــّر، أما أنتم البغداديون فتهتمون بالأبــّهة والتفخيم بأعتباركم أبناء العاصمة المدللين. نحن لا نقعــّر في كلامنا، وكان أبونا يرحمه الله يكره التقعــّر. وقد ذكر عنه الجاحظ هذه الحكاية الطريفة ، قال :

" قال أبو الحسن : كان غلام يقعــّر في كلامه ، فأتى أبا الأسود الدؤلي يلتمس ما عنده، فقال له أبو الأسود : ما فعل أبوك ؟

قال : أخذته الحمّى فطبخته طبخاً، وفنختــُه فنخاً ( أضعفته ) ، و فضخــَته فضخاً ( دقــَته ) ، فتركته فرخاً . فقال أبو الأسود : فماذا فعلت امرأته التي تــُهارّه و تشارّه و تــُجاره و تــُزارّه ؟ ( تهر في وجهه وتخاصمه وتلحق به الجريرة وتعضــّه ). قال : طلــّقها ، فتزوجت غيره، فرضيت وحظيت ْ و بَظيت ْ . قال أبو الأسود : قد عرفنا رضيت ْ و حظيت ْ ، فما بظيت ْ ؟ قال : حرف من الغريب لم يبلغك . قال أبو الأسود : يا بُنيّ ، كل كلمة لا يعرفها عمــّك فاسترها كما تستر السنــّور جعرها " .

الضمة : كان الجاحظ معجباً به، وقد ذكره أكثر من مرة، ومما قال فيه : (( وكان أبو الأسود الدؤلي، وأسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان، خطيباً عالماً ، وكان قد جمع شدة العقل وصواب الرأي و جودة اللسان، وقول الشعر والظرف، وهو يُعدّ في هذه الأصناف، وفي الشيعة ، وفي العرجان، وفي المفاليج، وعلى كل شيء من هذا شاهد سيقع في موضعه إن شاء الله تعالى - يعني كتاب البيان والتبيين )).

الكسرة : رحمة الله عليهما. والله يا أختي لو عرف الناس قدرنا، وأنتبهوا الى تصرفنا في الكلام، وقدرتنا على تغيير المعاني، وتحديد الدلالات، لما كان هذا اللحن في كلامهم ، ولسلمتْ اللغة العربية مما يشوبها من أغلاط.

الضمة : الى هذا الحد ؟

الكسرة : طبعاً . خذي كلمة ( السداد ) التي تأتي السين فيها مضمومة ومفتوحة ومكسورة، ولكن لكل منها معنى بعينه. قال أبو فرج الأصفهاني في ( الأغاني ) عن النضر بين شميل :

(( دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو وعليّ أطمار مترعبلة ؛ فقال لي : يا نضر ، تدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب ؟ فقلت : أن حر مرو لا يُدفع إلا بمثل هذه الأخلاق ، فقال : لا ، ولكنك رجل متقشف . فتجارَينا الحديثَ، فقال المأمون : حدثني هُشــَيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن أبن عباس، قال : قال رسول الله (ص) : (( إذا تزوج الرجل أمرأة لدينها وجمالها كان فيه سَدادٌ من عوز )). هكذا قال : سَداد بالفتح . فقلت : صدق يا أمير المؤمنين . حدثني عوف الأعرابي عن الحسن ، أن النبي (ص) قال : (( إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سُداد من عَوَز )).

فكان المأمون متكئاً فأستوى في جالساً، وقال : السـّـَداد لحن ٌ يا نضر عندك ؟ قلت : نعم هنا يا أمير المؤمنين ، وأنما هـُشــَيم لــَحَنَ ، وكان لحانة ، فقال : ما الفرق بينهما ؟ قلت : السـّـَـداد القصد في الدين والطريقة والسبيل؛ والســـِّــداد : البــُلغة ، وكل ما سددت به شيئاً فهو سِداد . وقد قال العَرْجي :

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعو    ليوم كريهة و ســـِداد ثغر

قال : فأطرق المأمون مَـليـــِّــاً ، ثم قال : قــَبــّح الله من لا أدب له !

  ويستمر أبو الفرج في رواية النضر حتى ينتهي الى قوله : فقال : أسحنتَ يا نضر ! وكتب لي إلى الحسن بن سهل بخمسين ألفاً، وأمر خادماً بإيصال رقعة و تنجيز ما أمر به لي ، فمضيت معه اليه، فلما قرأ التوقيع ضحك، وقال لي : يا نضر، أنت الملحّن لأمير المؤمنين ؟

قلت : لا ؛ بل لهــُشــَيم . قال : فذاك إذن . وأطلق لي الخمسين ألف درهم ، وأمر لي بثلاثين منها )).

الضمة : والســّـُداد ما معناه ؟

الكسرة : مرض يصيب الأنف فيمنع عنه الريح .

الضمة : ومن هو الحسن بن سهل ؟

الكسرة : هو والد بوران زوجة المأمون. وفيه يقول محمد بن حازم الباهلي :

بارك الله للحسن    ولبوران في الخـَـتــَنْ

يا إمام الهدى ظفرتَ ولكن ببنت مَـــــــــن ْ

فلم يُعرف ماذا يعني بقوله : (( ببنت من ؟ )) هل هو في الرفعة أم في الضعة .

الضمة : هذا في البلاغة العربية يسمّى الأيهام، ومثله قول بشار بن بُرْد ، وهو من أهلنا في البصرة، حين قال في خياط أعور أسمه عمرو :

خاط لي عمرو قبـــاء    ليت عينيه ســــواء

فإنه أبهم المعنى في الدعاء له بالدعاء عليه .

الكسرة : قفي .. قفي ! وأنظري ذلك الرجل المربوع الذي غزا الشيب شعره الكثيف.

الضمة : هذا القاعد على دكــّة المكتبة ؟

الكسرة : لا ، ذاك الماشي بأناة في الطرف الآخر مستغرقاً في التفكير .

الضمة : من هذا ؟

الكسرة : هذا الدكتور ابراهيم السامرائي ، اللغوي الشاعر .

الضمة : دكتور ؟ ما معنى دكتور ؟

الكسرة : هي درجة علمية رفيعة .

الضمة : أهو من أهل البصرة ؟

الكسرة : كلا، من العمارة ، وأصله من سامراء، وكان يقيم في بغداد ، وتفرقت به السبل، فهو حيناً في بغداد ، وحيناً في الرياض، وحيناً في صنعاء ، وهو اليوم في عمّان.

الضمة : ولماذا تسردين عليّ سيرته الشخصية ؟

الكسرة : لأنني تذكرت له آراء في لغة أهل البصرة، وهو الذي عارض قول الفرزدق:

لولا أبو مالك المرجو نـــــــائله     لكانت البصرة الشمــــّاء لي وطنا

بقوله :

لولا الزخارف من دنيا شقيت بها     لكانت البصرة الشمـّاء لي وطنا

 الضمة : وماذا عن آرائه في لغة أهل البصرة ؟

الكسرة : يقول : (( إن مجتمع البصرة ضم ّ جمهرة من أمم شتــّى ظهر فيها العنصر الفارسي. ومن غير شك أن العربية في منتصف القرن الثاني الهجري قد عرض لها من اللغات الأخرى ولا سيـّما الفارسية ما عرض ، وقد تبدلت إلى لغة سائرة دارجة )).

الضمة : هذا أمر طبيعي في المدن التي فيها موانيء تأتيها السفن من كل مكان ، ويؤمها خلق من الناس كثير . وأحسب أن اللغات الأخرى كالهندية والتركية والأنكَليزية حضوراً في لغة الناس .

الكسرة : لا بدّ أن يكون الأمر كذلك ؛ ويقول : أن (كتيبان)، وهي من قرى البصرة المعروفة ، ربما كانت (قتيبان) نسبة الى قتيبة بن مسلم .

الضمة : ربما، فالبصريون كانوا يضيفون الألف والنون الى أسماء الأماكن ؛ مثل : سيحان و مهيجران ونظران و عويسيان ... الخ .

الكسرة : والآن دعينا نواصل السير باتجاه شارع أبينا .

الضمة : أين نحن الآن ؟

الكسرة : وصلنا ساحة أم البروم التي كانت مقبرة في أوائل القرن العشرين، أما الآن، أي في منتصف القرن، فهي حديقة عامة كما ترين،تسمّى حديقة الملك غازي. والى يميننا يقع طريق البصرة حيث المخازن والدكاكين والمقاهي وبائعات الهوى في محلة ( الدوب )، وبائعات القيمر والصيدليات ومخبز الأنصاري الكبير ومطعم زينل الشهير وأنكَـــرديــچ بائع الأسطوانات (*) ومخزن قطــّان بائع العرق الذي كتب على باب محله أعلاناً ظريفاً يقول :

(( مخزن قطــّان، عرق خاص تقطير مسيّح، إذا طاب لك فأخبر أصدقاءك ))! ويمتد هذا الشارع من منطقة أم البروم الى ( الداكير ).

الضمة : ما معنى الداكير ؟

الكسرة : أصل الكلمة جاء من الأنكَليزية ( الدوكيارد ) ومعناها المسفن .

الضمة : فهو إذن شارع مهم ؟

الكسرة : هو في الواقع أهم شوارع العشــّار ، ولكن سوق المغايز الذي يتقاطع معه أشهر منه.

الضمة : سوق أشهر من شارع ؟

الكسرة : نعم ، ويسمّى أيضاً سوق الهنود، وبعض الظرفاء يسميه سوق النهود، لأنه يحفل بالفتيات والفتيان، يتجولون فيه ويتنزهون و يتبضّعون. وهو يتصل من جنوبه بنهر العشار الذي يسميه البصريون ( المـَد ّة ) ، وهو من شماله يتواصل بشارع الصيادلة الذي ينتهي بشارع أبي الأسود الذي نتجه اليه.

الضمة : أي محلة الصُبــّة ؟

الكسرة : الصَبــّة ! حيث تقع القــِشلة القديمة التي صارت الآن علاوي المخضرات .

الضمة : القــُشلة، يا حبيبتي ، وليس القــِشلة .

الكسرة : عندما تعودين للإقامة في البصرة حاولي إقناعهم بهذا.

الضمة : وماذا عن شارع الوالد ؟

الكسرة : كما ترين ؛ بزازون و قزازون وخطاط وملهى ومخازن ومصالح مختلفة. وليس فيه مكتبة ولا شيء له علاقة بالثقافة سوى أن الشارع الذي يوازيه شمالاً يضم مطبعة صغيرة تـــُدار باليد، وتطبع جريدة ( آخر ساعة ) التي تطبع ثلاثمئة نسخة فقط. ولكنه شارع حميم يضم طوائف من المسلمين واليهود والنصارى. وسترين فتيان محلة الصـَبّة يتعلمون الخط، ويكتبون بالفحم والطباشير على الأرض والحيطان .

الضمة : هذا هو الخطاط محمد جاسم ، أظننا قد وصلنا ؟

الكسرة : تماماً ! وقبل أن نواصل السير تعالي نزر دكان أسكندر و نتناول قنينة من سيفون زمزم.

الضمة : هيا بنا .

 

21/5/1997

* * *

(*) محل بيع أسطوانات لصاحبه مكرديج .

 

عن / مجلة الثقافة الجديدة العدد 278 أيلول - تشرين الأول 1997 / أدب وفن / صـ 129 - صـ 135 .

تنويه : المقالة هذه يتم تنضيدها ونشرها لأول مرة على الكومبيوتر وبرنامج الأنترنت بتأريخ التاسع والعشرين من كانون الثاني 2010 .  

 تنضيد ونشر .. عبد الجبار السعودي

 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات