| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 29 / 12 / 2013

 

افتتاحية المدى

ادرأُوا الفتنة واعقِلوا صاحبها : فـي وداع عام مخضّب بالدم الزكي

فخري كريم 

كل ما في العراق تغيّر، وغابت عن ملامح العراقيين مع توالي الأعوام المُكرِبة، مسحة الإشراق والابتسامة المتفائلة، لتحل محلها سحنة يغلب عليها الحزن والقلق على مصير مجهول، الموت هو الاحتمال الوحيد الممكن فيه. وتكشف سحنة العراقي بعد عقود من سلب إرادته، والعبث بمستقبله، خطوطاً مبهمة لا تؤدي إلى انفراجٍ قريب.

وجع العراقي وحسراته تتكثف، وهو يتابع كل يوم على مدى عقود حياته التي تتبدد وتضيع في خضم عالم لم يألفه، دون ان ينهض ويقاوم ويغير. كان عجزنا طوال تتابع سنوات حكم البعث والدكتاتوريات المتعاقبة، مقترناً إلى حدٍ ما باللاجدوى، لأن النهوض والمقاومة كانا موتاً لا توصيف له في سجل التاريخ البشري، لفظاعة وسائله.

في لحظة تاريخية نادرة، سقط الطاغية، وولّى نظام حكمه في نيسان عام ٢٠٠٣، فانتعشت آمال العراقيين، وتبّدى لهم كما لو انهم كانوا أسرى كابوس مفزع لشدة المحن التي مرت عليهم. وتألق الأمل في سماء البلاد بولادة قيصرية عسيرة، ساعة انهيار الطاغية المستبد، ولم يكن الامل وهماً، بل إمكانية موضوعية للبناء على انقاض الدولة المستبدة، "امكانية" تشربت بنزيف الدم الذي سُفك عبر اكثر من ثلاثة عقود، ليُرضي غرور وأطماع مستبدٍ معتوه، مصابٍ برهاب السلطة.

بعد عشر سنوات كسيرات، تبددت من جديد آمال العراقيين، لتبدو كما لو أنها اوهام تتوالد، لتتخذ منحى جديداً، عجينته هذه المرة ايضاً رهاب السلطة الملفّعة بكل ما ليس للدين والمذهب علاقة به. واستُدرجنا تحت عباءتها الى وليمة، لم يتغير فيها سوى سدنتها المنتشين، بمراسيم الاحتفاءٍ بتقاسم السلطة، وعراكٍ لا ينتهي على تصدر الوليمة..!

كان الاستبداد الصدامي المهزوم، يحصِّن سلطته بسفك دم من لا يواليه، ويحتفي برعاياه الذين يعلنون افتداءه بالروح والدم، ويمارس طقوس التعذيب والقتل السري في أقبية الأمن والمخابرات، على قرابين وأضاحي لإشباع نهمه وضمان دوام سلطته. ولم يكن مسموحاً لغيره ان يستدرج النذور والأضاحي والقرابين في مواسم القتل والاحتفاء، فكان ذلك رهن إرادته وحده.

في كل يوم نستيقظ متوهمين ان فصول الموت العبثي قد أصبحت في رحم الماضي، لكن سرعان ما نكتشف ان مراسيم تشييع الطاغية، أعشت ابصارنا وحالت دون ان نُبصر بعيون عقولنا ووعينا المكلوم لتوالي سنوات الفجيعة، ان فصلاً جديداً من الضغينة والكراهية المكتومة، قد انفتحت ستارته، لتأتي على ما تبقى في روح العراقيين، من املٍ وتوقٍ وتصالحٍ مع الحياة وفتنتها التي حُرموا منها، في ظل الأنظمة المستبدة المتعاقبة.

لقد أُسدل الستار في نيسان عام ٢٠٠٣ على فصول دموية من تاريخ وحياة العراقيين، كان لها ان تثلم مساحة الفرح في قلوبنا، وتنتزع إرادة الانبعاث من وعينا وإدراكنا.

كان الطغيان ريحاً عاتية اقوى من طاقتنا على الوقوف بوجهه، او هكذا كان يبدو على كل حال، وهو ما هرس إرادتنا وجعلنا فرائس وأضاحي ونذور حاكمٍ مهووس، عبث بمصائرنا قرباناً لسلطته المطلقة. وفاتنا لكثرة خيباتنا وتَنَمُّل وعينا، أن المستبد حيوان يعيش على الدم، وان علينا أن نتنبه لإمكانية إعادة انتاجه في بيئة الاحتقان الطائفي والضغينة المتسترة بالدين والمذهب. وفاتنا ايضاً ان رهاب السلطة مرض يستشري في بيئة ينتشر فيها الجهل والمرض والامية والفاقة والبطالة.

فاتنا ان نمعن النظر في الكيفية التي تتحول عبرها الكراهية والضغينة والثأر الى نظامٍ للحكم، وبيئة لولادة استبداد من نمط جديد.

نَسي العراقيون، مع ما نسوا، تبادل الأمنيات ودعوات الخير في الاعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية، وصار التمني الوحيد القابل للتبادل تعبر عنه الدعوة بغدٍ لا يطل منه الموت الفاجع، والدعوة بموت رحيم لا تتناثر معه اشلاء الجسد الطاهر، فيمسي بلا شاهد قبرٍ يُستدلُ عليه..!

واذ يتثاقل العام الجديد في اتمام دورته، تُطل علينا اشباحٌ تنذر بالمزيد من سفك الدماء وازهاق الارواح. وكأن ارض السواد لم ترتو بعد، ولم تتخضب تربتها بما يكفي من الاضاحي والنذور.
بضعة ايام معدودات بقيت على وداع عام خيم على نهر الدم بسواد لا يُراد له ان ينجلي.

انهم يتفننون في تسويد ايامنا، فيحرموننا حتى من تلك الاحزان الشجية التي تُطفئ لوعة مخبوءة تحت الضلوع على مأثرة الحسين وآل بيته، حين يحولون المأثرة الخالدة الى مغانم غير مرئية، وصراع على السلطة ودعوة ترويع بالثأر من عراقيين يكتم عليهم الحاكم انفاسهم بجور متساوٍ مع الاخرين، او يزيد، تمييزاً وتهميشاً، وتجاوزاً على حقوق المواطنة.

ليس بين العراقيات والعراقيين بمختلف أشياعهم، من يستطيب الارهاب والقتل على الهوية، سوى نفرٍ اختار غواية التكفير وضلله العمى في بصره وبصيرته، واستجاب لاشباه رجال دين وفتاواهم المشحونة باحقاد عهد الجاهلية وعبدة الأصنام، وكدنا نبلغ مُراد العراقيين ونجفف مصادر شياطينهم ونجتث شأفتهم من الجذور قبل اعوام، حين كنا على شفا حرب أهلية او نكاد.

لم يتوهم احد آنذاك بأن الصولات العسكرية المعزولة والتعدياتٍ الامنية هي التي كانت وراء انفتاح الطريق على الاستقرار النسبي الذي ساد البلاد. لقد تداعى الفرقاء المتصارعون لقبول مبادرة التصالح والاصلاح ورأب الصدع. وكانت ادوات الاستنهاض والمعافاة المطلوبة كما اتفقوا يومذاك: ضمان الحقوق والحريات، والمصالحة المجتمعية الوطنية، وتقويم إدارة الدولة، وتسيير الحكم بالمشاركة الحقيقية، بلا انفراد او استقواء بأدوات السلطة على الآخرين، والتوجه لانعاش الاقتصاد، والاستجابة لتطلعات الناس بتأمين الخدمات ومعالجة البطالة، وإبداء الحزم في تصفية الفساد، وتطهير الدولة والمراكز المقررة في الحكومة، من المافيات والفاسدين، واعادة بناء مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش والقوات المسلحة وأجهزة الأمن والمخابرات. وتطبيق الدستور على ما فيه من عِوَر ومثالب، اقرّ بها الجميع، ومساءلة رجال الحكم والدولة على خرقه والتجاوز عليه.

كانت تلك أماني عراقية خالصة، توحد حولها العراقيون دون استثناء، سوى القتلة وتجار الحرب والمليشيات ومافيات الفساد في الدولة الفاشلة، ومن في نفسه طمعٌ في الانفراد وخلط الاوراق. فكان لهم ذلك..

لم تكن الفرصة قد ضاعت، حتى في عز الشراهة على اغتصاب الدولة وتدمير بناها المتهرئة، واسقاط ما يُدعى بالعملية السياسية. فالكل، حقاً او باطلاً، كان يحاول ان يتوسل بالحكمة والعقل في ادارة الاختلاف والخلاف وتحصين الصراع من مغبة الانزلاق الى المواجهة. لكن التدهور على كل صعيد لم يتوقف، والاصرار على الاقصاء والانفراد وحماية الفساد ظل سيد الموقف.

واي امرئ شبه معتوه، كان يمكنه ان يرى في لحظة جفاء مع العته، ان عقابيل الفتنة تطل برؤوسها في ظل الاحتقان الطائفي، وترهيل ما يبدو أعمدة للدولة، وتدمير هيبة القوات المسلحة والاجهزة الامنية، في تخبطات كيفية تنوء تحت ثقلها، وتتجرد بسببها من إرادة الفعل او التخطيط السليم، لعدم كفاية ودراية من بيده الامر والنهي والإيعاز. وطوال سنوات الولاية الثانية للحاج ابي احمد المالكي ظل قضم الوزارات وأركان الدولة ظاهرة لا يتجادل فيها راشدان، حتى ان كانا من حزب الدعوة او دولة القانون.

ثم تلت التفكك في الحصانة الأمنية، موجات الهروب الجماعي لأوباش القاعدة والتكفيريين بكل مسمياتهم، فتحولت خطب الاستنفار للمواجهة الى مجرد تهريج وادعاءات باطلة.

وانتظرنا بفارغ الصبر كشف المستور عن مسببي الخيبة الامنية، والمرتشين المسؤولين عن تأمين اسباب نجاح الهروب، وبعضها في وضح النهار وامام انظار المواطنين. فكان الوعيد، ليعقبه هروب جديد!

وتحول القتل الى مشهد يومي، لا يخدش كرامة من يتحمل المسؤولية السياسية او الاخلاقية، او يجعله يعلن النفير الشعبي العام، ويدعو ممثلي كل المكونات والاحزاب والكتل البرلمانية الى لقاء وطني يطرح فيه اولاً الاصلاح السياسي، كمدخل للمصالحة والتوافق على ايقاف التدهور ومعالجة الانفلات والتصدع.
كان العكس يكبر مثل كرة الثلج ليتدحرج على رؤوسنا ويهدد بالانهيار..

وفجأة استيقظ السيد رئيس مجلس الوزراء، وقد اقترب موعد الانتخابات البرلمانية، ليفتح مغاليق الدولة وما فيها، شمالاً وجنوباً، استرضاءً واحتواءً، ويتحدى الكل، بلا استثناء الحلفاء او تحييد بعضهم، او الأعداء ممن يستعصي على الرضوخ.

وسكتنا على كل هذه الاستباحات المخالفة للدستور، سكتنا على صوره وهي تعلق في كل مكان، مشفوعة باهداءات الضباط والجنود لقائدهم العام. وكدنا نسكت على الاف التعيينات في الاجهزة والمؤسسات، وكذلك على توزيع الهبات واراضي الدولة.

ولم نعد نتناول ظهوره المخل في قناة "العراقية" المملوكة للدولة وليس للحكومة، وتغاضينا عن تدوير (مناقلة) الاموال من ميزانية "المصالحة" الى الصحوات، املاً في كسب اصواتها، لينتبه الان فقط الى وجودها بعد ان فككها وفرط بتضحياتها..

سكتنا عن ذلك كله، املاً في عبور استحقاق الانتخابات، لعل في نتائجها ما يُصلح الحال.
ولكن السكوت سيصبح جريمة ندفع جريرتها كلنا اذا التزمنا الصمت ازاء وعيده بالثأر، لا من الإرهابيين القتلة ولكن من المعتصمين في خيم الانبار.

ان قوله بصوت عالٍ "هذه آخر صلاة جمعة في خيم اعتصام الأنبار" لا يعني سوى انه يتحضر لارتكاب مجزرة شبيهة بمجزرة الحويجة، بل واشد هولاً..

لن ابرئ ساحة قاتل، ولا جريرة متواطئ يبتكر بيئة آمنة للتكفيريين، لكن الدولة على خرابها، والاجهزة على اختراقاتها، تظل تمتلك من الإمكانات والعيون والموالين، ما يؤهلها لاصطياد الارهابي اذا كان يلوذ سراً بخيمة اعتصام. اما تكرار مذبحة الحويجة، فسنكون كلنا اذا وقع، شركاء في الجريمة، سواء في هذا مَنْ يحذر ومَنْ يلوذ بالصمت.

اننا كعراقيين، اذا ما توحدنا، نمتلك من القدرة ما يمكننا من دحر القاعدة وداعش والنصرة وكل تكفيري، وقطع طريق إمداداته الآتية من الخارج. لكن هذا التمكين يتطلب "حساً وإرادة وطنيين"..

بعد ايام سيرحل عنا كئيباً خائباً يتقطر الدم والاحزان من اطرافه، عام النكد والمظالم والاستهتار بالارادة الكلية، عام كدرته المغامرة والتجبر والاستكبار ورهاب السلطة..

وبعد ايام سيطل علينا عام، يختلف عن كل الأعوام، عام يتوشح بأسمال ووعيد عام المواجهة، عام ٢٠٠٧.. !

في ليلة رأس السنة الميلادية، سأتفقد الجميع، لأطمئن على انهم ما زالوا أحياء، وسأبحث عن نحتٍ جديد للتهنئة بالعام الجديد..

لقد وجدتها :
اغفروا لي هفواتي ، وقلة حيلتي ، فلست ممن يقبل الهزيمة ، اذا ما سمعت الخبر:

لا اريد بكاءً، لا اريد عويلاً ..... اريد نشيجاً يفك مسامات الوعي والإدراك...


المدى
العدد (2969) 29/12/2013

 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات