| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 28 / 8 / 2013



افتتاحية المدى

علاقتنا التاريخية مع إيران والحساسية الوطنية العراقية

فخري كريم  

(١)
كانت إيران خلال سنوات مقارعة النظام الدكتاتوري السابق، حاضنة للمعارضة الوطنية العراقية، الفصائل الشيعية منها بوجه خاص. وفي تلك المرحلة لم توفر الجمهورية الإسلامية جهداً لدعمها. وقد لعب انتصار الثورة التي قادها الإمام الخميني، دورا مهماً في تغيير خارطة المنطقة وتحالفاتها، واصبحت سنداً قوياً للثورة الفلسطينية، أمدّها بما يساعدها على النهوض والاستمرار.

ومنذ اللحظات الأولى للحرب العراقية الإيرانية، دانت جميع الفصائل الوطنية، الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والإسلامية، الشيعية والسنية، إلى جانب الحركة القومية الكردية، النظام الدكتاتوري، باعتباره من اشعل الحرب الاستباقية ضد الجارة، مستهدفاً إجهاض الثورة الإسلامية، محاولاً بذلك تصدير أزمة الحكم الى الخارج، وليس بمعزل عن إشعال فتيل الفتنة الطائفية، وتقسيم المجتمع العراقي.

وقد أولتْ المعارضة الوطنية العراقية في وقت مبكر من إشعال الحرب، اهتماما لتحصين نفسها من التورط فيما كان يسعى اليه، من تفكيك قواها طائفياً، او إشغالها بصراعات جانبية حول طبيعة الثورة الإيرانية، وخياراتها السياسية وأيديولوجيتها، واحتمالات انكفائها طائفياً، ومدى تأثير ذلك على العراق المستقبلي. ويمكن القول إن النجاح النسبي كان حليف المعارضة في تلك المرحلة، إذ حافظت على وحدة قواها، ووضوح أهدافها، وأفشلت مناورات صدام حسين، تحت دعاوى المصالحة الوطنية، و"الدفاع عن الوطن" من "الغزو الخارجي".

وكانت رؤى الصف الوطني العراقي، الديمقراطي الليبرالي قبل الإسلامي "الشيعي"، أن الخطر على السيادة والاستقلال الوطني، يكمن في "الاحتلال الداخلي" المتمثل في تسلط البعث على مقاليد الحكم، واغتصابه ارادة الشعب، وتفريطه بالسيادة على شط العرب لشاه ايران، وإضعافه الجبهة الداخلية، بالتصفيات السياسية والجسدية الفاشية التي شملت جميع القوى الوطنية، ولم توفر حتى القيادات والكوادر البعثية التي لم تكن متجاوبة مع ذلك النهج، لاعتبارات تتعلق باستراتيجية البعث "القومية" وفي اطار الصراع على السلطة، ولخوفها من ضياع سلطتها، التي انهارت بعد الانقلاب الدموي في ٨ شباط عام ١٩٦٣.

وحافظت أغلبية الأحزاب والحركات الوطنية العراقية على علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية، واحتفظت لقيادتها، بالتقدير والامتنان لما قدمته الجمهورية من الدعم والتأييد للشعب العراقي لإسقاط الدكتاتورية والانتقال إلى ما نحن فيه، من عراقٍ جديد، أعاننا الله على حكامه وأولياء الأمر فيه من اللصوص والنهّازين وفاقدي المروءة.

ولم يتوقف الامر عند مواقف الجمهورية الايرانية من دعم المعارضة، في مراحل مواجهتها مع الدكتاتورية السابقة، بل اتخذت ايران، خلافاً للدول العربية الشقيقة وبضمنها سورية، سياسة التعامل مع الامر الواقع الذي جرى التعبير عنه بالاحتلال الأميركي والادارة المدنية للاحتلال، منطلقة من مراعاة مصالحها دون شك، ولكن في الاتجاه الذي سهل للعراقيين عبور تلك المرحلة المعقدة من الفوضى والانفلات الامني والعزلة السياسية.

وليس هذا فحسب، ما يدعو العراقيين لابداء الوفاء للجارة ايران، بل لما يربط بين البلدين من الاواصر التاريخية، ومن الحدود الطويلة، ومن المصالح المشتركة والتجارة البينية، مما تشكل كلها عناصر عمق استراتيجي للعراق وامتداداً في التشارك المذهبي للمكون الشيعي، الذي يشكل أغلبية السكان، وتمتد حواضنه على طول الحدود المشتركة.

(٢)
ومثلما استطاعت قوى المعارضة، في سنوات النضال ضد الدكتاتورية الغاشمة ان تحافظ على علاقة متميزة مع الجمهورية الإيرانية، فإن في وسعها أن تطور تلك العلاقات التاريخية، وقد أصبحت فصائلها من الطائفتين، تتشارك في الحكم على أساس المحاصصة وتقاسم السلطة، بتباين وتنافر في المواقع والمواقف.

لكن هذه العلاقات المطلوب تكريسها وتعميقها، باتت بحاجة الى قواعد وأسس تضبط إيقاعها، بما ينسجم ويتماشى مع المصالح المشتركة، على قاعدة احترام خيارات وتطلعات الشعبين في البلدين الجارين، وبعيداً عن اي شبهة بالتبعية، او الإملاءات المخلة. وهذا ما يتطابق مع مصالح ايران، مثلما يتطابق مع مصالحنا الوطنية وتطلعاتنا.

فهذه العلاقات اصبحت بين دولتين مستقلتين جارتين، وليس بين معارضة في خارج البلاد، ودولة صديقة داعمة. والصيغة التي تتحكم بها تراعي خصوصيات دولة، وحساسيات شعب، يتميز بالتنوع العرقي والمذهبي والقومي، الى جانب تعددية مكونية وسياسية وفكرية، تضع عبئاً مضاعفاً على الطرف الذي يشكل انحيازاً من نوع ما، لا ينبغي أن يتم على حساب الهوية الوطنية.

إن الطابع الغالب على السكان من حيث الانتماء الطائفي او المذهبي، لا يُجيز طمس ما هو أساسي لما هو فرعي وثانوي. وبغض النظر عن كل تفصيل يتعلق بما هو فرعي في الهويات، فان الخيار الوطني يظل في كل الظروف الحاضنة الام والخيمة التي لا يمكن استبدالها بأي ولاء آخر.

وقد لاحظنا، ان القوات المسلحة العراقية، ولو على كراهة منها "ولابد من التأكيد على هذه الكراهة" بالاضافة الى دواعي الانضباط، انخرطت في الحرب التي اشعلها صدام حسين، ومرابضة اكثرية الجنود وضباط الصف والضباط "من المكون الشيعي"، على خطوط الدفاع، والمشاركة في العمليات القتالية. ولم يكن تردد الواعين منهم، او احتجاجهم الصامت، او استشهادهم، تعبيراً عن انحيازٍ مذهبي، بل رفضاً وادانة للحرب، وللدكتاتورية، والنهج المضاد لمصالح وتطلعات الشعب العراقي.

ومن هنا لابد من إدانة استهداف أي مواطن، عسكري أو مدني، بدواعي موقفه في جبهة الحرب مع ايران، او ملاحقة واغتيال، عسكريين أو طيارين، ممن ساهموا فيها، رغماً عنهم وعلى كراهة ومعارضة للنظام نفسه.

(٣)
استطيع أن استقرئ، ليس استناداً إلى وهم او تقدير، بل إلى حوارات ومناقشات مع شخصيات محورية إيرانية في اوقات مختلفة، ان ايران الدولة، تريد عراقاً صديقاً مستقراً، يحرص على علاقات جوار فعال، وينأى بنفسه عن محاور وتحالفات تضر بأمنها ومصالحها الحيوية. وقد تفضل الدولة الجارة، او قوى مركزية نافذة فيها، مثل هذه الدولة على دولة طائفية "شيعية" تصبح بحكم الواقع تابعة ضعيفة بلا ارادة ولا قرار. لكنها بطبيعة الحال لن ترفض أو تقاوم نزوعاً نحو هذه الصيغة من العلاقات، إذا ما اندفعت لتكوين قاعدتها، قوى داخلية تابعة بحكم انحيازها وهشاشة قاعدتها الشعبية وضعف إرادتها. وأول ظرف تنمو فيه مثل هذه القوى، ويظهر عندها مثل هذا الخيار، هو اشتداد النفور والاصطفاف المبني على أساسٍ طائفي. وهي تتغذى على المعارك الجانبية على السلطة وامتيازاتها، حين يعم الفساد ويصبح الاستهتار بتطلعات الناس، وتطويع إرادتهم، الشغل الشاغل لمن يريدون الهيمنة على مقدرات البلاد، واغتصاب سلطته، باعتماد تدوير وتعميق الأزمات وإغراق المواطنين في أتونها ومحارقها. وليس افضل في هذا الاطار، من ترويع الطائفة والاوساط الاقل وعياً فيها، وإثارة مخاوفها، من التآمر على نفوذها ومواقعها في قيادة الحكم والسلطة، وإعادتها الى المربع الاول، حيث الرضوخ لحكم جائر، ينتزع منها حريتها في الاعتقاد وطقوسه! وفي هذا السياق يتوجب تقييم اهتمام الأحزاب والكتل والفرق الطائفية بمواسم العزاء الحسيني، وتحشيد الملايين من المؤمنين المأسورين بحب الحسين وآلامه، رغم الإذلال الذي يعانون منه، من قيادات هذه الأحزاب الحاكمة، وحرمانهم من ابسط وسائل العيش الكريم والخدمات والأمن.

إن القيادة الإيرانية، لابد ان تدرك، بان إقامة دولة "شيعية" تعني في المحصلة، تقسيم العراق أو تشظيه، ووضعه على فوهة بركان متفجر، لن تسلم هي من اللهيب والشظايا المتطايرة منه، ومن التداعيات السياسية الإقليمية والدولية. وبهذا المعنى لابد أن تحرص على دولة متعددة، متعايشة، حسنة العلاقات معها، تأخذ بالاعتبار أولوية مصالحها الحيوية. ومثل هذا التكوين يتطلب تكريس التنوع، في اطار الوحدة، وعلى اسس ديمقراطية تراعي تطلعات العراقيين على قدم المساواة، دون تمييز او تعسف او إقصاء او تهميش او تسلط، كما هو عليه الحال في ظل حكومة المالكي وفريقه المغيب عن الوعي.

(٤)
هل يراعي بعض قادة التحالف الوطني، القواعد المناسبة لبناء مثل هذا العراق الديمقراطي التعددي؟
وهل يتفهم هؤلاء الحساسية المفرطة للمكونات الأخرى، من أي مظهر قد يبدو استقواء عليهم بأدوات الخارج، وعلى وجه الخصوص، اذا تمثل في امتداد طائفي، وتعبيرات مصلحية، يرون فيها خروجاً عن السياقات الوطنية؟

(٥)
في اجتماع البرلمان ليوم امس الأول ظهرت أمام أنظار الرأي العام، مبارزة، وتلاسن، وتضارب بالأيدي، بين نواب "الضفتين" العراقيتين، الذين يغتربون كل يوم عن القيم والمبادئ التي عاشتا في أفيائها طوال عقود وقرون، حتى لو لم تكن كلها مساحة للتآخي والتسامح وقبول الآخر كما ينبغي أن يكون عليه.

وحفل "عراك الديكة"، لم يندلع دفاعاً عن حقوق مهضومة للعراقيين، أو صراعاً على قانون يُجَّرم الفساد، ويضع الفاسدين وحماتهم امام المساءلة والملاحقة القانونية، كما لم تشّب نيران الاقتتال بالايدي، اختلافاً على التهاون في اخذ المجرمين المقصرين في حماية ارواح مئات العراقيين الذين يقتلهم الارهابيون. لم ينشب العراك لاي سبب له علاقة بالوطن والدولة الفاشلة، بل اندلع نتيجة سوء تقدير نائب "شيعي المذهب" منتمٍ سياسياً لكتلة معارضة مغايرة الانتماء المذهبي. كان بإمكان النائب "المشاغب" ان يجد أسلوباً للمعالجة، بعيداً عن الاضواء، منزهّاً عن استغلال سلوكٍ سياسي خاطئ، وتوظيفه، شاء أم أبى، في إثارة مزيد من الاحتقان الطائفي.

كان عليه، اذا أراد تحريم ما يراه مساساً "بالكرامة الوطنية" كما ورد في مطالعته، صياغة وجهة نظره في مذكرة توزع دون ضجيج على اطراف التحالف الوطني، يبصرهم بخطأ الممارسة المقصودة بشكواه، وإجراء حوار مع قيادات فيها، قد يؤدي إلى معالجة الأمر.

(٦)
وما دام العراك قد نشب امام عدسات الكاميرات، وتم توثيقه، وما أعقبه من تصريحات ومؤتمرات صحفية، فيصبح لزاماً التوقف أمام المشهد، وتقييم مواقف الطرفين من "نواب الشعب".

لا يجرؤ مواطن عراقي، إلا اذا كان مدفوعاً أو مدسوساً بدواعي اثارة فتنة بين العراقيين، على التعريض بالامام الخميني، او السيد الخامنئي، او اي رمز قيادي ديني ايراني . فكلاهما "قائدان" للجمهورية الاسلامية، بصفتهما يحتلان موقف "الولي الفقيه". والامام الخميني هو من قاد الثورة الايرانية، ووضع المبادئ الدستورية لنظام الولي الفقيه، باعتباره رأس الجمهورية المقرر. وقد اصبح السيد الخامنئي، الولي الفقيه، اي المشرف السياسي على الجمهورية الاسلامية، بعد رحيل الخميني.

وبغض النظر عن الولاية المذهبية، التي يقلدها جمهور واسع من الشيعة في أنحاء متفرقة من العالم، ويختلف عليها اخرون يشكلون اكثرية او اقلية، فان الوظيفة الرسمية للولي الفقيه، هي سياسية بامتياز، ترتبط بقيادة الدولة الايرانية، ومقلدي "ولاية الفقيه" يتركزون في ايران بوجه خاص. وهذه الصفة بحد ذاتها، هي الفيصل في التعامل مع الشخصيتين الإيرانيتين المرموقتين. ومن يزور ايران من القيادات السياسية يدرك ذلك بوضوح.

ويستطيع كل شيعي مقلد "لولاية الفقيه" في اي بلد كان ان يرفع صورته في مسكنه، ويتعامل معه كيفما شاء، ارتباطاً بقناعته الإيمانية، لكن رفع الصور في الشوارع والساحات ودوائر الدولة، منافٍ للضوابط والتقاليد الرسمية لجميع الدول، سواء في العراق او إندونيسيا او ايران. والدساتير تؤكد على رمز واحد للدولة يتمثل في رئيس الدولة لا غيره، ولا يجوز تحت اي اعتبار رفع صورة غيره.

ان آية الله السيستاني هو المرجع الاعلى لشيعة العراق، وربما لمقلدين يشكلون كتلة كبيرة في دول اسلامية اخرى ومنها الجمهورية الايرانية، ومع ذلك لم يجز المرجع رفع صوره، أو استخدامها في المناسبات السياسية، مثل الانتخابات او سواها. فكيف يعتبر اي طرف شيعي سياسي، رفع صورة رمز يمثل اعلى سلطة في دولة اخرى، عرفاً مقبولاً لا يمس السيادة الوطنية، او لا يتعارض مع الدستور والاعراف والتقاليد التي أرسيت عليها؟

ومن الصعب على المدافعين عن هذه الممارسة، تجيير ذلك للجمهورية الايرانية او قيادتها او الولي الفقيه، الذي لا يمكن ان يقبل بذلك، اذا ما احس بانها قد تدفع الى شقاقٍ بين العراقيين، او تكون سبباً لمزيدٍ من الاحتقان الطائفي.

(٧)
لم يكن الصديق السيد الجعفري موفقاً تماما وهو يدافع عن ممارسة خاطئة، باعتماد شواهد ومقاربات غير سليمة. وفي معرض حماسة مفرطة، اورد السيد الجعفري مثال رفع صور غاندي وجيفارا، للتأكيد على صواب رفع صور الامام الخميني والسيد الخامنئي. مشددا على انهما رمزان دينيان للشيعة ينبغي احترامهما.

ولم ينتبه الجعفري الى انه في ايراد مثليه، كأنه اتكأ على وسادة غيره. فجيفارا رمز ثوري خاض كفاحاً باسلاً في اوطانٍ لم يحمل جنسيتها، ورفض ان يستمر وزيراً في كوبا التي ساهم بتحريرها. اما غاندي فصاغ قيما سياسية، وانفرد في استحداث اسلوب غير مطروق في الكفاح من اجل التحرر الوطني. وسوى ذلك، نسي الجعفري ان جيفارا كان علمانياً غير مؤمن، لا يجوز ايراده مثلاً في معرض دفاعه، كما كان غاندي من المؤمنين بالديانة الهندوسية، ما يشكل عبئاً ايمانياً على مثل السيد الجعفري!

(٨)
إن في إقحام ايران ورموزها في الصراع السياسي بين الفرقاء العراقيين، اساءة بالغة لإيران ورموزها، ينبغي ان يكف عنها الذين يزعمون الحرص على ايران وقادتها. ويبدو أن بعض القيادات التي تتنصل طوال الوقت، بمناسبة ودون مناسبة من لوثة الطائفية، وتستنكر اي انحيازات على اسس طائفية، تتناسى هذه الادعاءات في لحظات حساسة، مثل "عراك الديكة" في مجلس النواب، أول من امس.

ويقتضي التأكيد في كل مرة، ان الحرص على ايران والعلاقات المتميزة معها، والحفاظ عليها، يتجسد في سلوك وطني متماسكٍ متوازنٍ، ينطلق من المصالح المشتركة للشعبين والدولتين. على ان لا يُخل ذلك بمقدار شعرة، وتحت اي دواعٍ او ادعاءات، بالحساسية الوطنية العراقية.


المدى
العدد (2877) 28/8/2013


 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات