| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 27/9/ 2009

 

حكاية مدرس

نشأت المندوي
nashmandwee@hotmail.com

يوما شتويا كنا نجلس خلف الرحلات (مصاطب الصف المدرسية) طلاب ننتظر قدوم مدرس اللغة العربية الجديد استنادا للاشاعة التي انتشرت رائحتها بين الطلاب و خصوصا المقربين من الادارة الذين اكدوا ان المدرس القديم قال لهم بانه سينتقل لمحافظة اخرى لظروف عائلية, كنا في بداية المرحلة الثانوية و كانت حصة اللغة العربية اكثرها ضجرا وملللا و قرفا علينا .

فكان المدرس وهو يشرح المادة كما لو يحرث بمعول خشبي منخور في محراب اللغة الصلبة وقواعدها الجافة فنراه ينتقل من (اعراب) الى (تفسير) ومن( حال) الى (نعت) ثم يحول ال (صفة) الى ( موصوف) وبعدها يأتي على (نائب فاعل ) فيرقيه الى (فاعل) ونحن نقف ازاء هذا التنوع المدهش والثري فاغري الفم ملجومي اللسان حيارى لا نفقه من صولاته شيئ وغير حاسين به رغم جهوده البليغه في ايصال المادة ودليل تقاعسنا في الفهم فان نسبة الطلاب الناجحين لا يتجاوز العشرة . ولكن ما كان يثيرنا او يقض مضاجعنا او نتداوله كنكته للتندر حديثه عن ( كان) وجماعتها الذين يرفعون المبتدأ وينصبون الخبر لسبب نجهله ولا يعلمه الا الله ثم ينتقل الى ( ان ) المتمردة على القوانين والاعراف مع رفيقاتها الخطرات هكذا كنا نسميها اذ تعمل هذه المجموعة عكس الاولى لسبب كذلك لا يعرفه الا العلي القدير ونحن نقف امام العصابتين مثل اليتامى نقارن بين الاسماء المتشابهه والتي عند المذاكرة والمراجعة تختلط علينا في لجة الزحام خاصة ايام الامتحان و الذي يكرم فيه المرء او يهان حسب الحكمة المعلقة في لوحة الاسبوع بالساحة الرئيسية للمدرسة .

المهم جلسنا صامتين امام مراقب الصف بكبريائه ننتظر منه اشارة الوقوف احتراما لمجيئ المدرس الجديد . في تلك اللحظة اقتربت اصوات وقع الحذاء الجلدي على البلاط الاسمنتي فعرفنا بقدومه فتهيأنا لاشارة النهوض من المراقب المتزامنه مع دخول المدرس. كان رجل خمسيني اصلع, ابيض الشعر على الجانبين, قصير في عينه اليسري حول بسيط , يلبس بنطالا عريضا وقميص اكبر من جسمه النحيف ,ابتسم بهدوء ودعانا للجلوس رحب بنا وقدم نفسه وطلب منا التعاون مذكرا ان اللغة العربية كالآلة الموسيقية لا تعطي نفسها الا لمن يتذوقها او بتعبير ثان كالمرأة التي لا تهب قلبها الا لمن يعرف مشاعرها . بداية غير عادية هكذا همسنا ثم رحنا نصغي اليه بهدوء فيما راح ينتقل المدرس كفراشه ملونة من روضة لغوية ممتعه لاخرى اكثر جمالا ومن مفردة شهية لثانية احلى واضعا في نفس الوقت لمسة من افكاره الرنانة ومسحة من قفشاته المهذبة , لم يستخدم الطباشير او يلجأ لكتاب او يستعين بسبورة لكنه عرف كيف يموسق اللغة وينقل احساسه الينا كواعظ يعيد خبز الابجديات بعجينة اخرى ويلوكها عبر غناء طربي شهي .

مر الوقت سريعا وكان الجرس شرطيا بالمرصاد ينادينا بإنتهاء الوقت , افقنا من حلم واكتشفنا اننا يوما بعد اخر اقتربنا من الدرس بشغف وحنان فتآلفنا مع القواعد وصروفها و تعمقنا ببحور اللغه وألقها وحاورنا المدرس الذي تحوّل الى صديق واخ كبير اودعناه كل اسرارنا وقصاصات عشقنا وكتابات الجدران عن الخوف والمحرمات في العتمة .اصبحت حصته الاجمل و صرنا نحب (كان) و(ان ) واخواتهما ونحفظ اسمائهم عن غيب الا انا الذي بقي موضوعهما حساس و يذكرني بأمي الحنونة حينما كنت بالمرحلة الاولى من المتوسطه واحببت ان اعلمها شيئ عن (كان ) و(ان) واخواتهما فزجرتني بطيبة وسذاجه قائلة :
- اننا بعثناك للمدرسة حتى تتعلم القراءة والكتابة لا ان تتعرف على بنات الناس واخواتهم


ديترويت




 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات