| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 26/5/ 2010

 

العراقيون وعلم الجمال

ساطع هاشم

علم الجمال , من العلوم الفلسفية القديمة وترجع اصوله النظرية والعملية الى عصر الاغريق القدامى (800-300 قبل الميلاد) ومن هناك انتشر الى كل ثقافات العالم التي نعرفها الان . وهو يعالج بالدرجة الاولى علاقة الانسان الجمالية مع ذاته الفردية والمحيط الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد والفنون كافة باعتبار ان الرغبات الجمالية شئ متأصل وخصلة مجبولة في النفس البشرية لاحياة طبيعية للبشر بدونها .

والجمال مفهوم متغير جدا حسب الزمان والمكان وموقع الانسان في البناء الهرمي للطبقات , ولكل طبقة وفئة اجتماعية نظرتها وتفسيرها الخاص للجمال , وقد قامت واندثرت على اساسه الكثير من المدارس الفلسفية والايديولوجية , وتفسيرات لانهائية ومازال هكذا حتى الان في جدل وتفاعل وحوار عميق لكن المشترك فيما بينها جميعا هو الاحساس بالجمال نفسه والذي ينتج عنه تكوين الذوق والذي هو شئ شخصي تماما يتطور ويرتفع او ينحط ويتخلف حسب الظروف التي تحيط بالفرد ومكانه في المجتمع وثقافته الذاتية ومستواه التعليمي .

وعناصر التعبير الجمالية سواء في الاخلاق اوالسلوك او الاشياء المادية او الفنون وغير ذلك , هي عناصر محلية بشكل عام ( رغم انها قد تكون قادمة من بيئة غريبة او بعيدة ) تتاثر بالتاريخ والجغرافية والمناخ السياسي والاجتماعي السائد , فمثلا نرى في عراق اليوم انتشارا مروعا للرذيلة وفساد النفوس وانحطاطا للضمير الانساني , يقابله قبح عجيب ودمار معماري وفني وبيئي وتصحر في ازدياد مضطرد , فالفوضى والبلادة التي تملأ ادمغة الافراد والضجيج والجلافة الذي تعج به النفوس نتيجة لفساد السياسيين واصحاب السطوة في الحياة العامة واليومية للناس , ينعكس كله بشكل مباشر وغير مباشر على عناصر التعبير الجمالية في المعمار والشوارع والمدن والهندام واختيار نوعية الطعام ووسائل الحياة اليومية , ليقدم الصورة الصادقة لنفوس العراقيين المعذبة والحائرة والباحثة عن الرجاء , لان النفس البشرية تعكس نفسها بالافعال والاقوال وبالمظهر الخارجي والتصميم الداخلي للسكن والمنازل واماكن العمل وفي الطعام والشراب وفي الملابس وهي الاساسيات التي يحتاجها اي كائن بشري لكي يعيش , فهناك تختبئ المأساة وهناك يقيم الشيطان عندنا حاليا.

قد يكون هذا المشهد جميلا واسرا ومفيدا لاولئك الانذال المجرمين الذين يعيشون ويتنفسون ويأكلون غذائهم من تلك الفوضى ومن هذا الخراب , لانها قطعا لم تنشأ صدفة وانما سائرة على اساس خطة رجعية لتحقيق شكل من اشكال البربرية هدفها قتل الذات الفاعلة في بلادنا وادامة التخلف ومصمَمة وتعمل ولحد الان بشكل (جميل).

يتجلى الجمال في ارقى صوره في الفنون الجميلة التي يخلوا وجودها ظاهريا بالحياة وبشكل عام من اي هدف نفعي مباشر يمس الحاجات الاساسية للانسان , مثلا ماهو الهدف من تعليق لوحة على الجدار او اقامة معرض فني ؟ اوتقديم عرض مسرحي للجمهور ؟ او حفل موسيقي بالهواء الطلق ؟ هذه لاتبدو بالظاهر ضرورية للفرد لانه يستطيع ان يعيش ويستمر بدونها , وهذه هي دائما حجج الاذواق الواطئة واصحاب العقل الرخيص , فهم لايعرفون وان عرفوا سينكرون , بان هذه كلها تهدف الى الامتاع وزيادة معرفة الانسان لذاته وتهذيبه لعقله كمشارك فعال في بناء الحضارة التي يقاس تحضر افرادها بدرجة انحطاط او ارتفاع عقولهم واذواقهم وتقديرهم الفعلي للجمال الروحي الذي هو هدف انتاجات الفنون الجميلة قاطبة .

فبحجة ازالة الرموز الثقافية والفنية للنظام السابق جرى محاربة الفن نفسه في العراق وحرب القضاء عليه جارية على قدم وساق , لحرمان العراقيين من اهم عنصر سيكولوجي يستطيع ان يرفع مستواهم الحضاري ويعطيهم الامل والسلوى في ان الحياة يمكن ان تعاش رغم البلاء , فتدمير المسارح وازالة المتاحف وقاعات الفن وتخريب المعمار والتدمير المتعمد للتربية الجمالية وقيم الانسان المعاصر و.و.و.حيث نسمع اخبارها بلا انقطاع , نرى اثارها واضحة وبلا رتوش في كل مكان وزاوية وخاصة في تدني اذواق العراقيين وخرابهم الروحي العميق وضياعهم في الظلام .

الفن يعيش في تجربة الحياة اليومية لاي انسان , شاء ذلك ام لم يشاء ومهما تنكر لهذا ومهما بلغ مستواه من ضعة وانحطاط او رفعة وسمو , فالانتاج العالمي للسلع مثلا التي يعتمد عليها الناس في حياتهم اينما وجدوا يعتمد في ترويجه وتسويقه وضمان بيعه على تصميمه الخارجي والداخلي ودرجة ملائمته للخصائص الجمالية المقبولة عالميا او محليا , وكل هذا انما ينتجه ويبدعه فنانين محترفين كرسوا سنوات طويلة من حياتهم في دراسة الفن وممارسته للارتقاء باذواقهم الى ارفع المستويات وبالتالي لرفع اذواق الناس ايضا من خلال ذلك الانتاج رغم انها لم تنتج لتكون اعمالا فنية بل سلع مفيدة بهيئة جميلة , فقبول الفرد او رفضه جماليا لهذه السلع امر شخصي بحت راجع الى مستوى ذوقه وثقافته الذاتية .وهكذا تستطيع القياس على بقية الانشطة الانسانية التي يلعب الفن فيها دورا اساسيا مثل التلفزيون والصحافة واماكن الراحة ....ولك ان تكمل الباقي .

العراقيون اليوم لايعبرون عن حاضرهم بالفن (الا ما ندر ), كما تفعل الكثير من الشعوب ولايوجد تفاعل فني / ثقافي بين مدارس ومفاهيم واساليب الفن داخل العراق , لانهم مقيدين بفرض التخلف والامية والجهل عليهم وسحق الفنون والاداب والعلوم وازالتها من حياتهم وبلادهم , ويعيش الفنان العراقي في حالة من الحنين لماض ٍ لم يعد له اثر ولامكان له لا في العقول ولا في النفوس , وهذه اليوتوبيا الجديدة تخلق حالة شاذة من انفصال الفنان عن واقع بلاده الحالي ومحيطه وجذره الذي ولد فيه وتخلق حالة من عدم التوازن والقدرة على الفعل الفني الخلاق , فمن جهة تعيش الغالبية العظمى من الفنانين المحترفين الجيدين في المنافي منسيين وعاطلين وغير فعالين في محيطهم الجديد , ومن جهة اخرى تفرض عليهم التطورات العاصفة بالفن الحديث تطوير امكانياتهم وافكارهم وبحوثهم الجمالية بما يتناسب مع هذا الخط الدولي العام لتطور الفنون , وهم بلا سند ولا هوية ولاوطن وجميع نشاطاتهم الفنية لاتؤثر في الاجيال الصاعدة وتذهب كل جهودهم للضياع والتاكل التدريجي والتدمير, فلا تحقق معارضهم مردود معنوي متميز لانهم غير قادرين على المنافسة في بلد غريب مهما بلغت موهبتهم وامكانياتهم , وتفتقد ارادتهم القدرة على التأثير في واقع عراقي مدمر لا شفاء له من هبل وتخبيل بعد ان سيطر المغول مرة اخرى وبعد ان عاد التتار , بينما يتحول الفنانون الاجانب الذين يتناولون مشكلة العراق وكوارثه الى نجوم فنية في بلدانهم لانها جزء من مسؤليتهم الثقافية وامتداد افاقها خارج حدود بلدانهم.

ويفتقد العراقيون الى وجود مثل اعلى اخلاقي سامي وجميل و عمق روحي جمالي يقتدون به في كل مجالات الحياة , وهم المتعودون على بناء ثقافتهم ووعيهم الذاتي عن طريق قوة المثل امامهم , نظرا لتحول الوزارات القادرة على ابتكار هذا المثل الى مياه اسنة ووكرا للاميين والجهلة ونقصد بها وزارات الثقافة / التربية والتعليم /التعليم العالي , فبينما يعمل ابناء الحضارات المعاصرة على دراسة و(تقليد) كل الصفات الجميلة التي اتصفت بها النفس البشرية عبر التاريخ والسعي الجاد لتعميق مضامينها بما يتلائم والعصر الصناعي والتكنلوجي الحديث ونشرها بينهم وعلى اوسع نطاق وبشكل ديمقراطي حر وكما تتجلى عن طريق الفنون والاداب والعلوم , نجد ان الساسة المتسلطين على العراق الجديد, لايعنيهم لاالجمال الاخلاقي ولا الروحي ولا الفني ولا العلمي ولا..ولا.. فهؤلاء هم الد اعداء الجمال ولايهمهم منه غير بريق الدولار وسواد اردية المنكوبين واحمرار الجثث وفراغ العقول وغياب الضمير من صورة العراق , الذي ضحى الالاف من ابناءه بارواحهم لكي يعمروه بلدا جميلا .






 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات