| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 25/1/ 2010

 

تقية فالح حسون الدراجي وقوافي سمير صبيح واغتيال مدينة الثورة

زيدان محسن
zaidanm@hotmail.com

في نهاية العام 2002 كنت متوجها الى دمشق للقاء الاهل , بعدما اخبرني اخي هادي " تره صدام حسبته مطولة , وياريت تجي تشوف الاهل وتكسب بيهم اجر" . جرى الاتفاق ان نلتقي في السيدة زينب . في مطار فيينا وعلى متن الطائرة النمساوية المتجهة الى دمشق , كان مكاني بجانب شابين عراقيين , بعد تبادل التحية و" الله بالخير" توجهت بالسؤال الى احدهما وكان شابا وسيما في بداية الثلاثين من عمره حسب تقديري , من اين الاخ ؟ اجابني بأبتسامة وبصوت واثق :
من الثورة ....!!!
سألته , قصدك من بغداد , لكن اجابته كانت اكثر حدة وتصميم هذه المرة , وكرر مركزا على مخارج الحروف " لا خالي من الثورة ", ثم اكمل ملتفتا الى رفيق رحلته " يبين الاخ محافظات ". بعفوية من لم يعرف السخرية المبطنة في كلامه اجبته " لا والله اني من بغداد " واكملت محولا استفزازه :

" هسة شكو خابصينة بالثورة وشنو بيهه , حتى ما تكولون احنه من بغداد , بعدين هي اسمها مدينة صدام ". كنت اتصور ان رده سيكون عصبيا , لكنه اجابني كالحالم ووجهه يوشي بالفرح :-
- " صارلي خمس اسنين بالسويد , وحتى مكان الولادة بوثيقة السفر السويدية مكتوب الثورة – عراق , لان كل خوش ولد ولد بهاي المدينة و عاش بيها وربى بيها وعرف بيوتها و شوارعها وساحاتها واسواقها , رغم ترابها وطينها , وكلمن عرف ناسها وطيبتهم , رغم فقرهم , صارتله هاي المدينة عنوان وانتماء , واحلف بروح امي يروح صدام ويجي غيره , وما راح اكول غير اني من الثورة" . احسست بالدمع يملأ مقلتي , انا الذي غادرتها منذ اكثر من عشرين عاما حينذاك .

تذكرت كل هذا , وانا أتابع يوم الجمعة الماضي الفضائية العراقية وتحديداً برنامج " قوافي " الذي يقدمه الشاعر الشعبي سمير صبيح وكان ضيف الحلقة الشاعر فالح حسون الدراجي . حسب معرفتي بأن مقدم البرنامج وضيفه هما الاثنان من مدينة الثورة , حيث ولد الاول فيها عام 1970 , وسكن فيها الثاني مع عائلته مع بداية تأسيسها بداية الستينات . ساهمت هذه المدينة, حسب تأكيدهما , في تكوين وعيهما الثقافي والمعرفي ورسمت طريقهما الشعري , منذ انتمائهما , بفارق زمني وتجربة , الى منتدى الشعراء في مدينة الثورة مع شعراء اخرين مثل رحيم المالكي , حمزة الحلفي , حسين الشريفي, جواد الحمراني , طالب الدراجي , محمد الغريب وغيرهم . وتفخر هذه المدينة انها احتضنت وقدمت العشرات من المبدعين ثقافيا وفنيا ورياضيا , حيث انتمى لها كاظم اسماعيل الكاطع, وعريان السيد خلف وشاكر السماوي وجودت التميمي وكريم العراقي وعواد ناصر وشاكر لعيبي وسلمان المنكوب وعبادي العماري وحسين سعيدة وكريم منصور وحاتم العراقي وصلاح البحر وفالح حسن واحمد المختار وقاسم الساعدي وستار كاووش , وكذلك بشار رشيد وستار خلف وفلاح حسن وكاظم عبود وحسين لعيبي وكاظم وعل وسيد حبيب, هؤلاء وغيرهم العشرات من الذين اعتز بمعرفة غالبيتهم شخصيا, كانوا كحال رفيق رحلتي على الطائرة النمساوية المتجهة الى دمشق , يعتزون بشرف الانتماء لهذه المدينة الام , ولا ينادونها بغير اسمها .

في برنامج " قوافي " , الذي كان يفترض ان يكون حديث الاصدقاء والمنبع والتاريخ والبداية وكافة المشتركات " حيث اننا ولد الكرية وكلمن يعرف اخيه " لكنه نحى في بعض منه الى استعراض امكانيات وقدرات تحليلية ونقدية ومجاملات وشهادات كان يمكن للبرنامج ان يستغني عنها . ولكن الذي احزنني واثار نوعاً من الغضب في داخلي , هو هذا الجحود وهذا الاغتيال المعلن , من قبل الشاعرين فالح حسون الدراجي وسمير وصبيح , لمدينة بكل تأريخها وحاضرها حيث كان يجرى الكلام عنها مقترنة بأسم من صادرها واغتصبها بدون وجه حق , او يجري الكلام عنها استحياءا باسم المدينة "حاف" او خجلا حين تكنى " آنذاك " .

لا أريد الدخول هنا في دراسة تأريخية لاصل ونشوء وارتقاء وتحولات مدينة الثورة , لان الغالبية تعرف تأريخها حتى الذين لم يسكنوها , هذه المدينة التي تأسست في بدايات ستينات القرن الماضي , وتكونت من قطعة ارض بمساحة 147 متراً مربعاً شيدت عليها بيوتا بسيطة , يتجاور احد عشرة بيتا فيما بينها وعلى الجانبين ليكون العدد اثنان وعشرون بيتاً يشكلون البلوك ومجموع هذه البلوكات حوالي 45 بلوك حيث تكون القطاع المكون من الف بيت . وزعها عليهم الزعيم عبد الكريم قاسم . وجرت بعض محاولات لتبديل اسمها من حي الرافدين , او الى اشبيلية وصولا الى تسميتها قسرا بمدينة صدام , ومن ثم اغتصابها علناً وعلى رؤوس الاشهاد لان تسمى مدينة الصدر .

لقد جرى اغتصاب مدن عظيمة وخلع عليها الحكام المنتشين بأنتصاراتهم اسماءهم عليها او ربما بمشورة (وعاظهم) او شهود التاريخ زورا. رحل اولئك الحكام وصورهم وتماثيلهم , وبقيت المدن واستعادت اسماءها الحقيقية والتاريخية وعادت بيتروغراد , وكيمنست , وزلين ولم تسمى من جديد باسماء بوتين او شرويدر او هافل . واني على قناعة ستبقى تلك المدينة التي استعصت على التشكيل والتدوير تحمل اسمها الثورة , وسترحل كل العمائم والجداريات والصور الكالحة التي استبدلت محل صور الطاغية وبنفس الحجوم واستبدلت الزيتوني ليحل محله الابيض والاسود، ليست مدينة الثورة استثناء بل جرى اغتصاب الكثير من المدن والمدارس والمستشفيات والجامعات وحتى دوائر الدولة , واني على ثقة بأنها ستستعيد اسماءها وان لم يكن رسمياً فعلى الاقل في عقل ووجدان وضمير ابناؤها الذين لا يخشون شرف الانتماء اليها ولا يخجلون من مناداتها باسمها الاول , وهذا ما بدأت اتحسسه واراه خصوصا في السنتين الاخيرتين (رغم عتبي عليها انها لم تمنح حتى ساحة او شارعا يحمل اسم مؤسسها وبانيها الحقيقي) .

علمني التاريخ وتجاربه ان الشاعر موقف و شاهد عصر , وان ارتضى ان يكون بلا موقف و شاهد زور , فأن التاريخ والناس هم من سيكون الحكم في نهاية الامر . أذا كان الشاعر سمير صبيح ( الذي سأعود معه مرة اخرى ومع كاكة حمة ) لم يرضع كثيرا من حليب مدينة الثورة حيث انه انتقل منها وعمره ثلاث سنوات ثم عاد اليها , فماذا جرى للشاعر فالح حسون الدراجي الذي استفزه واغضبه سؤال احد اصدقائه ، اذا كان يستطيع معرفة الطريق الى مدينته و بيته ( للحد الذي جعله يرد عليه بقصيدة طولها من ساحة مظفر الى سوق مريدي ) ماذا جرى له كي لا يسمي الاشياء بأسماءها ولا يخاطب مدينته بأسمها الحقيقي وهو يعرف كامل المعرفة انها اغتصبت قسرا ولم يدخلها الصدر الا في التسعينات , هل هو زمن التقية والاضطرار والاكراه يعود مرة اخرى ؟ وحسب اعتقادي انه ليس مجبرا عليها , حيث انه يحمل الجواز الامريكي ,ام هو تبدل المواقف والمعاطف وانتهاز الفرص , ام هو ارتباك الذاكرة وبوصلتها في تحديد جغرافيا التاريخ والزمان ودوران الارض وكرويتها مما جعله يعتقد ( آنذاك ) ان " الشمس من أتهل مناك , من العوجة ".

سيخلد التاريخ الشاعر الفلسطيني توفيق زياد الذي قال " ان قلتها تمت , وان لم تقلها تمت , فقلها ومت "
 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات