| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

السبت 24/7/ 2010

     

قراءة متأنية في قصيدة
"ستار رفعة راس"
لقيس السهيلي

فهيم عيسى السليم

بعد أن عدت لقراءة قصيدة قيس السهيلي الجميلة المؤثرة (ستار رفعة راس) وجدت أنني لم أفها حقها من التقريض الذي يحقق كما أتمنى غرضين :
الأول : التفسير الذي يغطي مساحات ومسامات القصيدة وما دار في خلد الشاعر وما رمى اٍليه وكذلك حواشي وأطر القصيدة بما يلتقى مع مضامين وكنوز الأدب الشعبي العراقي والموروث الذي اٍغترف منه الشاعر بما فيه الموروث المندائي الرافديني الأصيل.

الثاني : اٍعطاء الشهيد الكبير مساحة أكبر من الدرس كاٍنسان عراقي مندائي تقدمي على ضوء مضامين القصيدة التي كتبها مندائي أصيل مغترفاً من ظلال المندائية ككيان عراقي موغل في القدم والتعرف على مدى تأثر الشاعر بهذه الخصوصية بالتوازي مع الخصوصية العراقية الأشمل والأعم.
وٍأسير على نفس المنوال من تناول القصيدة على مقاطع وأضمن ما كتبته سابقاً اّذ أنه صالح أن يبقى ضمن هذه القراءة الجديدة  :

اليوم عرس البطل .. ستار رفعة راس
غنَواَ إله قدموا .. كليل الورد والياس
جرحه يداوي الجرح
جرحه ابد ما طاب
من شاف جرح الوطن
رد ونزف عل باب
دم الشهيد البطل ... بلسم إل ضيم الناس
اليوم عرسك عرس ... ستار رفعة راس

في هذه القصيدة الملحمية التي اٍختار لها قيس هذا الوزن الغنائي الحزين الجميل(النايل) الذي أضفى عليها طابع الهيبة وأطرها بأطار المجد وهو يهم بأن يتحدث عن اٍنسان كبير وحدث جلل ووطن جريح ومسيرة نضال طويل.
لابد من التعريج هنا على النايل الذي يتألف عادة من بيت واحد فقط من بحر البسيط ونتيجة لاٍنقسام البيت الى شطرين وعجزين،فقد ظن البعض أنه يتألف من بيتين في حين أنه ليس كذلك.اٍن أول بيت نايل مشهور قالته اٍمرأة من بني عذرة هامت بحب (نائل) فقالت فيه :

نايل كتلني ونايل غيّر ألواني
ونايل بشوكه سجيم الروح خلاني

وقد نسج على منواله شعراء كثيرون وغناه مطربو الغناء الريفي حضيري أبو عزيز وشهيد كريم ووحيدة خليل التي غنته شجياً مؤثراً ولابد من القول أن قصيدة مظفر النواب الشهيرة (مرينة بيكم حمد ) من النايل (1) .
وددت هنا العودة الى البيت الأول من القصيدة وهو عنوانها أيضاً (ستار رفعة راس) و سنجد أن (رفعة الراس) في الممارسة العربية والعراقية خصوصاً تأخذ معنى متصلاً بالكرامة وعزّة النفس والاٍباء والترفع عن الدنايا وتتجذر كما أظن الى أن رفع الرأس اٍيماءة واضحة لتضرع الاٍنسان للخالق لا لغيره .
كما أن الاٍنحناء الذي هو عكس رفع الرأس معروف باٍرتباطه بالخضوع والخنوع والتنازل وهاهو مظفر النواب يقول :

دگ راسك ﺑﮕاع العرس ما ننزل نبوس اﻠﭼف

وفي أحد الزهيريات ورد النص :

...دنگ على اٍيد الزنيم وباسْ

وقد ورد هذا المعنى في الشعر الشعبي العراقي كثيراً كما يلفت النظر أن مطلع القصيدة (اليوم عرس البطل) ينطق بالكثير مما أراد الشاعر أن يقوله فقاله بكلمات ثلاث :
الأولى : اليوم وليس قبل كل هذه السنين.اٍنه اٍعلان أن الذكرى بحد ذاتها هي عرس وأي عرس .اليوم ذكرى مقتل الشهيد اٍذن هو عرس .

الثانية : العرس هو قمة الفرح والبهجة وله نكهة خاصة لدينا نحن المندائيين فهو الاٍرتباط المقدس بشريك الحياة ضمن طقس خاص وطويل ومعقد لأنه شيئ لا يتكرر فهو اٍرتباط لمرة واحدة لاغير وفعلاً فاٍن عرس ستار خضير عرس المبادئ التي اٍعتنقها وجريانها في دمه حتى اٍستشهاده حتمت وتحتم أن تكون ذكرى اٍستشهاده عرساً مشهوداً
ومن الجدير بالذكر أن المندائيين يعتقدون أن مراسيم زواجهم مشابهة لمراسيم زواج الملاك شيشلام الكبير وإزلات الكبيرة، لذلك يعتبرون زواجهم مقدساً كذلك فهم يعتقدون أيضاً أن الزواج هو احد وسائل الوصول إلى عالم النور. وان الطلاق محرّم عندهم إلاّ إذا عملت الزوجة على تدمير الشجرة المندائية (2)
(لاحظ التشابه حد التماثل بين فكرة الزواج المقدس المندائية وفكرة الاٍرتباط المقدس بالحزب الذي ينتهي تلقائياً اٍذا عمل الفرد على تدمير شجرة الحزب).
وقد أردف الشاعر في البيت الثاني ما يعزز ما أقول حين قال في عجزه (كليل الورد والياس) تأكيداً أن العرس فيه من ظلال المندائية الكثير الكثير فلابد من الأكليل والآس في كل عرس مندائي وكما هو معروف فاٍن التسمية المندائية ل الكليلا/الكليلا وهو التاج النباتي أو "اكليل الفوز والنصر" حسب المفهوم المندائي، الذي يُعمل عادة من نبات الآس وذلك لرائحته الزكية وهو مشتق من الأصل الرافديني ل كلمة كليلو الرافدينية القديمة تعني "تاج، أو اكليل".(2)

الثالثة : البطولة في شهادة ستار وحياته هي العنوان والمفتتح.

واليوم ولأن العراق مازال جريحاً ينزف عاد جرح ستار لينزف من جديد فجرحه (أبد ما طاب) و(رد ونزف عالباب) وما أحلى كلمة (رد) هنا التي يردفها بالقول (دم الشهيد البطل بلسم لضيم الناس) ولهذا عاد لينزف من جديد فالناس بحاجة ماسة لاٍستعادة بطولة المضحين من أمثال ستار في هذا اليوم الأغبر ويالها من صرخة حين يكون الدم بلسماً لمداواة القهر والظلم.
وختم المقطع بالقول (اليوم عرسك عرس) التي نستخدمها عادة للتأكيد والتثبت من كون الشيئ فريد ولا يتكرركما نقول مثلاً (الرجل الرجل)

اليوم عرس البطل ... عيد وحزن ثوار
ظل العراق بحيرته .. او دار تاكل دار
خربوا علِيه نومته ... فز او بجة ستار
اكعد يماي النبع
طالت تره الغيبه
ضعنه بضياع الوطن
اكعد يبو الهيبه
حتى الكمر حن إلك ... دنك عليك او باس
اليوم عرسك عرس ... ستار رفعة راس

في المقطع الثاني يتداخل العيد والحزن وتتلاقى حيرة الوطن وتحارُب الجيران بل يأكل بعضهم بعضاً وكم هو موجز ومركز ودقيق القول (دار تاكل دار) مع النقلة الجميلة لتخريب نوم البطل الشهيد الذي (فز وبجى) .ويصدمنا الشاعر فوراً بالقول (أكعد يماي النبع طالت تره الغيبة) وهنا يمضي الشاعر الى القول بشكل غير مباشر وبظلال جميلة أنه نائم وليس بميت ويطلب النجدة من ماء النبع أي الجذور والاٍصول التي اٍستقى منها الشهيد ستار وكل الطيبين من أمثاله المبادئ السامية مكملاً الطلب في المقطع الذي يليه (أكعد يبو الهيبة) فنحن ضائعون اٍذا ضاع الوطن.
وهنا يعود قيس الى جذوره المندائية واصفاً الشهيد بماء النبع المقدس الجاري الذي يغسل الذنوب والخطايا.
أما أن ينحني القمر ليقبل جبين البطل الشهيد فهو قمة الرؤيا العراقية الخفية التي تزاوج بين شهادة الاٍله العراقي سين وشهادة ستار خضير  .

وكما هو معروف في التراث الرافديني فاٍن الآلهة قد إختارت الإله سين (تموز) وإستدعته لينقذ عشتار من ورطتها وهي في العالم الأسفل فذهب ضحية ذلك الإنقاذ وهاهو الشاعر قيس يستدعي الأله المخلص سين مرة أخرى طالباً منه أن يحن وينزل من عوالمه السماوية ويقبل الشهيد حيث تلتقي روحان شهيدتان على مذبح خلاص الوطن من العبودية  :

اليوم عاد الشعب ... دفنك بالعيون
ودجله وفرات وهلك .. لطباعك يعرفون
حلو بحلاة الفكر .. بيك العشك مجنون
نسمه وحنين وكلب
هٍيمن يل حديثات
ستار جلمه وعهد
طيَب يبو الوكفات
واكف يموت النخل ... ما همه ضرب الفاس
اليوم عرس البطل ... ستار رفعة راس

في المقطع الثالث تتجلى مقدرة قيس الشعرية وحلاوة تعابيره (دفنك بالعيون) التي أشار فيها الشاعر أن اٍستذكار الناس للشهيد وبكائهم عليه هي عودة ليوم اٍستشهاده لأن الناس لم يستطيعوا حينذاك اٍعطاءه حقه من الاٍحتفال .
(بيك العشك مجنون)(واكف يموت النخل) (حلو بحلاة الفكر) (ستار جلمة وعهد) كلها تعابير وجمل شعرية راقية شفافة وسامية في ذات الوقت ويضيف الشاعر أن من يعرفون طباع الشهيد ستار هما النهران الخالدان المقدسان لدى أهل الشهيد دجلة والفرات  .

ومن المهم هنا ملاحظة الرابط الخفي بين (طيب يبو الوگفات) وما يليه (واﮔف يموت النخل) وهو الوقوف في كلا الحالتين وكأنه يقول (طيب أنت يا صاحب الوقفات الشجاعة النادرة ولايهمك أن تموت في واحدة من هذه الوقفات كما تموت النخيل منتصبة شامخة وهي حية ميتة):

إليوم عرسك عرس ... يابو المحبه ومي
إنت الشمس و الكمر ... وإنت الدربنه الضي
اشكثر ماتت ناس ... بس انت منهم حي
مرخوص يابو الجرح
تعتب على الطيبين
واحنه العلينه الوفه
بدربك نظل ماشين
ذكراك عرس العرس ... حنه او ورد للناس
ستار عرسك عرس ... ستار رفعة راس

المزاوجة في المقطع الرابع بين المحبة واٍسم اٍبنة الشهيد موفقة جداً ويسترسل في محاورة الشهيد ووصفه بما يستحق من أوصاف ولم يكتف بوصفه بالشمس والقمر بل زاده الى ضياءهما مكرراً أنه لم يمت مضيفاً (مرخوص يابو الجرح) وكأنها (مرخوص بس كت الدمع....) وجاء بالعتب على الطيبين وكلنا نعرف معنى الطيبين ومعنى عتبهم ويسترسل بالعهد (اٍحنه العلينه الوفه بدربك نظل ماشين) وهو أهم العهود وأغناها وأمضاها. والذكرى عرس العرس فهي (حنّه وورد للناس) .

وبهذا يقيم قيس في قصيدته للشهيد ستار عرساً بل قمة الأعراس الذي تتداخل فيه وتلتقي الحنة والورد والمحبة والوفاء وهيام الحديثات وقبلة القمرودجلة والفرات وتمشي كلها مع الناس رافعة الرأس شامخة صامتة مهيبة في درب الطيبين .

المهم هنا تناول حياة وتجربة الشهيد ستار خضير من كل جوانبها كعراقي وطني أصيل و كشيوعي صلب وكمندائي طيب ونحن بأمس الحاجة اليوم للرموز الشامخة التي لا تهتز ولا تتأثر بعالم اليوم عالم النفاق والكذب والدجل والأنانية.


أوكلاند 3 تموز 2010


(1) الغناء العراقي لثامر عبد الحسن العامري /دائرة الشؤون الثقافية العامة بغداد 1988
(2) من كتاب مخطوط قيد الاٍصدار بعنوان (أصل الطقوس والمعتقدات الدينية للمندائيين) للدكتور عصام الزهيري
 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات