| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

السبت 23/4/ 2011                                                                                                   

 

بين قاسيون وأرارات
مرثية لـفاروجان سلاطيان

آرا خاجادور

تتدفق وتضطرب وتتأجج المشاعر والذكريات خاصة في لحظات الوداع الحزين والأبدي، وكأنها محاولة لوقف القوانين الجبرية للحياة التي لا مناص منها. هذه الحالة إنتابتني عند إستلامي لخبر من د. هايك سلاطيان يفيد بأن والده صديقي ورفيقي وعزيزي فاروجان سلاطيان قد رحل.

لقد كان وقع الرحيل مؤلماً للغاية، لأنه مؤلم بذاته، ولأنه خبر غير متوقع على تلك العجالة التي لم تخطر ببالي، حيث حادثني الراحل من دمشق قبل يومين فقط من رحيله الأخير، وكان حديثه زاخراً بما ينوي القيام به من مشاريع وفعاليات ذات بعد وطني عام يتسم بروح إنسانية وثابة وواثقة.

في الحال وأنا أتلقى النبأ الحزين لاح أمامي شريط طويل من الوقائع والأحداث أكاد من خلالها أن أرى الراحل الكبير فاروجان واقفاً أمامي بكل ما يحمله هو من خصائص وصفات نادرة في عالم اليوم، وما يحيط به ويطبع حياته من دأب وعطاء وإنجازات ومن تاريخ مشترك أيضاً. داهمتني ذكريات لقائنا الأول في موسكو عن طريق الرفيق الراحل خالد بكداش. كنت في حينها للتو أرى النور بعد عشر سنين قضيتها في غياهب السجون قبل ثورة 14 تموز/ يوليو عام 1958. وغني عن البيان مشاعر سجين سابق يرى الحرية لتوه، ويتعرف على صديق نبيل، وأين في موسكو. وبعد ذلك اللقاء بسنوات تكررت اللقاءات في دمشق تلك المدينة الرائعة التي شكلت في حقب عديدة بوابة للمناضلين العراقيين إليها ومنها الى العالم. وكان الشيوعيون السوريون كل الشيوعيين السوريين خلال التاريخ المديد المشترك حزمة ضوء في العديد من ليالينا الدامسة الظلمة.

إن اللقاءات بين الشيوعيين العراقيين والسوريين ظلت متواصلة منذ بدايات التأسيس في الوطن أو في المنافي، ببغداد أواخر الخمسينيات وبدايات الستينيات، وبدمشق في فترات أخرى خاصة في أواسط الستينيات وحتى وقت غير بعيد. وكانت اللقاءات في دمشق كثيرة بالنسبة لي خلال التنقل بين الوطن والخارج، خاصة أيام الكفاح المسلح.

إن قادة الشيوعيين السوريين على إهتمام بالغ بكل ما يتعلق بالشيوعيين العراقيين، ولديهم رغبة عارمة في التواصل والتضامن، هذا الى جانب الرغبة في الإطلاع على التجارب السابقة للحزب خاصة أيام الرفيق فهد بما فيها تجربة الفرع الأرمني للحزب الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق كريكور بدروسيان عضو اللجنة المركزية ومسؤول العلاقات الأممية مع الرفيق فهد. يُذكر أني توليت شرف مسؤوليات الرفيق بدروسيان بعد إعتقاله في عام 1948.

لقد كان الرفيق فاروجان فخوراً بأن يلعب العراقيين الأرمن دوراً وطنياً كبيراً في خدمة الشعب العراقي الباسل، هذا الشعب الأممي النزعة والشديد الإعتزاز بأمجاده التاريخية، أليس العراق – أرض الرافدين كان الموقع الأول لبداية الحضارة الإنسانية وعاصمة النهضة العربية الإسلامية حين كانت بغداد عاصمة الرشيد عاصمة الدنيا.  

لقد حفر اللقاء الأول مع الفقيد فاروجان أثراً عميقاً في الضمير والذاكرة، والغريب وأنا أتناول ذلك اللقاء كذاكرة كحدث مر بي نازعني إحساس بأن اللقاء ليس بعيد ولا يندرج تحت وصف الذكريات، حيث لم أجد حاجة الى نفض غبار الأيام عنه، أنه لاح قريباً وقريباً جداً، ندياً ومشرقاً لما فيه من حميمية وروح رفقة وقوة أمل وثقة بالدرب الذي نسير فيه وعليه.

أعقبت ذلك اللقاء الأول لقاءات، ولكن كان للقاء في بغداد خلال إنعقاد إجتماع لمجلس السلم العالمي في عام 1960 طعمه الخاص. وكان أبو آرام قبل ذلك الوقت قد حل في قيادة مجلس السلم العالمي ممثلاً لسورية في تلك المنظمة الدولية التقدمية، وعضواً في السكرتاريا الدائمة لمجلس السلم العالمي في براغ وهلسنكي، وقد عمل في مجلس السلم العالمي في فترات مختلفة الرفاق يوسف الفيصل وموريس صليبي، وفي وقت لاحق تمثل العراق في تلك المنظمة أيضاً.  

في بغداد التي حضرها فاروجان كناشط في حركة السلام الدولية سعى للإطلاع على أوضاع الموطنيين العراقيين عامة والأرمن منهم بصفة خاصة، وعلى الأخص البسطاء والفقراء والكادحين منهم وعلى الطبيعة، وكأنه يريد الإطمئنان عليهم بعد رحلات الإغتراب القسري.

وتواصلت اللقاءات مع فاروجان في دمشق وغيرها، وكذلك المراسلات والتهاتف عبر العقود اللاحقة الى قبل الرحيل الأخير.

ولد الرفيق الراحل عام 1927. وفي سن مبكرة عرف فاروجان سلاطيان النضال الوطني والطبقي بكل أشكاله، السرية والعلنية، في الداخل والخارج، الإجتماعات المحدودة والجماهيرية التي تعبر عن حياة الكادحين أو للتضامن مع أحرار العالم في كل حدث وموقع، وهو إبن نائب في البرلمان السوري عن مدينة حلب عشق مسؤولية الدفاع عن حياة المعوزين والكادحين والفقراء. كانت كلمات وأفعال ذلك الشاب الرائع مملؤة بالصدق والحماسة والإستعداد للتضحية في الإجتماعات السرية كما في الحشود. وحافظ على هذه الروح حتى آخر لحظة في حياته، تلك الحياة التي إتسمت بالحيوية المتدفقة والتوق المتواصل للعطاء وللتعلم وللإطلاع.

في مقتبل عمره الوافر العطاء فصل من كلية الهندسة في الجامعة اليسوعية في بيروت نتيجة لنشاطاته السياسية التقدمية. ومن الصفحات الأولى المشتركة في سجل الراحل قيادته للتظاهرة التي توجهت الى القنصلية العراقية في حلب إحتجاجاً على إقدام الحكومة العميلة في العراق على إعدام الرفيق فهد ورفيقيه حازم وصارم. وإنضم الى قيادة الوفد برئاسة مروان الجندي الذي سلم القنصلية العراقية برقية الإحتجاج على إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي.

إن الإنطباع الأول الذي تركه فاروجان عندي وترسخ مع الأيام بأنه رجل يكافح من أجل تقدم وسعادة الشعب السوري ومن أجل الإستقلال والسيادة الكاملة والتقدم والعدل والرفاهية للشعوب العربية كافة. ويحمل في الوقت نفسه هم أمته "الأمة الأرمنية" التي تعرضت للإبادة والتشريد، الى حد يكاد لا يبتعد عن ذلك الهم في حياته ونشاطه اليومي. إن هذا الهم غذى عنده النزعة الأممية التي تصل الى عمق الروح الإنسانية الحقة. إن فاروجان بدى لي أرمينياً قح في أرض العرب وعربياً قح في أرمينيا، إنها توليفة أممية غذتها تجارب القادة الثوريين الأرمن الأوائل. إن فاروجان يدمج بطريقة مرنة ومتسقة لا إعوجاج فيها بين المنبع والمصب وكأنه نهر جميل، وبين الجذر والجذع وكأنه نخلة بصرية أو ديرية، وتوحد في ضميره النخل والأرز والصفصاف والكروم.

إن فاروجان حافظ على خصائصه البارزة المتمثلة بالطيبة والمحبة الى جانب الإنضباط الصارم دون كلل أو ملل، وهي حياة حافلة بالعمل الدائم والمستمر، فاروجان الطالب يُنظم ويتظاهر ويتضامن، وفاروجان المهندس يخطط لبناء المساكن الشعبية الرخيصة النفقات من أجل الكادحين، فاروجان المهندس كان فناناً بحق، حيث تصاميمه الثورية في الهندسة التي تستوعب ثقافة الشعوب الشرقية بأسرها، موغلاً في ماضيها البعيد عند وضعه تصميم أبنية للعبادة وللعلم والثقافة، وفاروجان السياسي يتابع نشاطه الحزبي في مجالات متنوعة، ففي المجال الاقتصادي كان الداعم لحزبه في سبيل الحصول على دخل مستقر يشد به أزر الحزب لتأمين إحتياجاته.

إن إبن حلب البار كسب العشرات إلى صفوف الحزب وعايش مختلف نضالاته حتى يوم رحيله الأخير، فكان علماً من أعلام الحزب الشيوعي والشيوعية في حلب وسوريا والبلاد العربية. وفاروجان المثقف يشرف على نشرات الحزب وحين يكتب يكون همه الأول حركات التحرر الوطني وسير المناضلين، فعلى سبيل المثال كم هي منصفة وجملية كلمته عن القائد الكبير فرج الله الحلو الموسومة بـ "فرج الله وعائلتي وأنا" التي ولدت قبل رحيلة بوقت غير بعيد، وتحديداً في 06/ 07/ 2009.  

واصل فاروجان في شبابه المبكر عمله في التنظيم السري في اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي السوري في حلب وفي تنظيم المظاهرات والأعمال الإحتجاجية. ومنذ نعومة أظفاره تنوعت مهماته الحزبية في الداخل والخارج. وفي العلاقات الخارجية شارك في مؤتمرات دولية في سويسرا والبرتغال والمجر والإتحاد السوفييتي وفنلندا وبلغاريا.

وهو رفيق ينظر بواقعية للعمل الحزبي. تقوم تلك الواقعية على مبدأ الإعتماد على الطاقات الذاتية، خاصة في توفير المستلزمات المادية، وقد أسس بطلب من الحزب شركة تجارية لتأمين سيولة مالية للحزب بين عامي 1975 و1989.

أما في مجالات النشاط الأممي فقد عُرف فاروجان عضواً في الهيئة المركزية للمنظمة الطلابية العالمية في بكين عام 1951، وكذلك عضواً في اللجنة التحضيرية لمهرجان الطلاب والشباب في برلين من العام نفسه. إن العديد من العواصم العربية والعالمية: بغداد، القاهرة، الخرطوم، وارشو، براغ، نيقوسيا، صوفيا، طوكيو، بودابست وغيرها شهدت نشاطاً ما لفاروجان. حقاً إنه يسعى لإحتضان العالم بأسره من أجل مستقبل مشرق للجميع.

وعلى صعيد نبض الحياة اليومية وإيقاعاتها والحس الإنساني بها الذي يميز الأشخاص، ويحول النظريات الى سلوك إتجاه صغائر الأمور وكبائرها. هنا أتناول قضايا شخصية، ولكنها ذات دلالات وأبعاد. أقول: إن فاروجان صاحب نخوة نادرة فمجرد أنه علم بإنتقال أفراد من عائلتي الى سوريا من الكويت بعد حرب الخليج مد لهم يد العون والمساندة.

وعلى ذات الصعيد فإن صلات الراحل واسعة بكل الفئات الإجتماعية، في أحد لقاءاتنا بدمشق سألني عن صديق رأيته آخر مرة في عام 1948 أنه اوهانيس جيوانيان. وهذا الرجل يعرفه العراقيون من خلال معمله الخاص بالمثلجات الذي حمل إسم "أسكيمو" والتسمية الشعبية لها "دندرمه أبو العودة". اوهانيس الذي ترك العراق منذ زمن بعيد كان أثناء إحدى زيارتي لدمشق على فراش الموت. أراد اوهانيس أن يرانى، خاصة بعد سماعه بما جرى لنا في سجن "نقرة السلمان" الصحراوي وصمود المسجونين فيه بوجه السجانين في إحدى معارك السجون. كان فاروجان ذو القلب الكبير يزور هذا الرجل ويشرف على علاجه في غربته. لقد إكتفى اوهانيس بأن شد على يدي خلال زيارتنا له في المستشفى بعد أن وصلت حالته حد عدم القدرة على الكلام. إن فاروجان بحسه الإنساني النبيل وفر فرصة اللقاء الأخير بين إثنين تربطهما معرفة نضالية سابقة، إنه جو إنساني أجد صعوبة في وصفه.

ولابد هنا من ذكر بضع كلمات بحق اوهانيس جيوانيان بقدر ما تسمح به طبيعة المادة الحالية التي بين أيديكم الآن. أنه كان أحد الشخصيات القيادية بين أرمن العراق سعى لإعادة الأرمن المهجرين الى ديارهم في أرمينيا السوفيتية السابقة. وقد شارك في عضوية اللجنة التي تشكلت لهذا الغرض بصفته من وجهاء الأرمن في العراق. ضمت تلك اللجنة في صفوفها زوكيان صاحب صيدلية العراق في محلة الحيدرخانه ببغداد، وبارتوخ قاسميان وهو مهندس مقاول. تشكلت تلك اللجنة بقرار من رئاسة الملي الأرمني (الكنيسة) بموافقة الحكومة العراقية، وشارك في أعمالها ضابط أوفد من ييريفان لغرض ترحيل الراغبين بالعودة الى أرمينيا. إن جيوانيان كشيوعي إقترح تشكيل لجنة ميدانية من الشباب، وقد إتخذت اللجنة من مدرسة الصليخ مقراً لتنظيم الخدمات.

إن الراحل فاروجان شديد الوفاء لكل من مر في حياته الخاصة أو العامة فقد كان دائم السؤال عن العراقيين الذين عمل معهم في مجلس السلم أو غيره، كان مثلاً كثير السؤال عن الدكتور رحيم عجينه وبشرى برتو وبهنام بطرس وغيرهم. وفي بغداد أصر على زيارة أحد المناضلين القدامى من أرمن تركيا الإشتراكيين الديمقراطيين "هنشاك" مارديروس إسكندريان عضو الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية. وكان للقائه مع مارديروس إسكندريان في بيته أثر يستحق الكتابة عنه على إنفراد. إن فاروجان لا يكل من محاولات إدخال السعادة الى قلوب الآخرين من خلال لمسات تصرفاته الإنسانية الصادقة.

في أحدى الزيارات الى دمشق وكنت قادماً من عمان كممثل للحزب الشيوعي العراقي في حركة الأنصار لدعم المقاومة المسلحة الفلسطينية، والحق يقال أن هذه المبادرة قد جاءت من الحزب الشيوعي السوري، وكانت المنظمة تضم أربعة أحزاب شقيقة، فالى جانب الحزبين الشيوعيين العراقي والسوري كان الحزبان الشيوعيان الأردني واللبناني. وفي إجتماع ترأسه الرفيق بكداش في دمشق قررنا مفاتحة الأحزاب الشقيقة، ولا سيما في البلدان الإشتراكية وطلب السلاح، والحديث عن النتائج سوف أتناوله في موضع ووقت آخر، وكذلك الظروف التي مرت بها هذه المنظمة التي كان يقود إجتماعاتها في عمان الرفيق سكرتير الحزب الشيوعي الأردني فؤاد نصار. رحب فاروجان بهذه المهمة وبتدريب المناضلين على مختلف المهات النضالية، وإعتبر ذلك يتوافق مع ما كرسنا له كل حياتنا من أجل التحرر والتقدم، وهو بمعنى ما كان ينظر الى عملي في النقابات والى جانبه تلك المهمة ذات الطبيعة القتالية لنصرة حركات التحرر بأنها مهمات تخدم الأخوة العربية ـ الأرمنية أيضاً، ويؤكد على الدوام على أهمية الإصغاء للرأي العام بوعي وإبداع وبتواضع وصدق.

كان أبو آرام مولعاً بالتاريخ الأرمني، وأذكر أن السرور قد طغى على وجهه عندما حدثته عن دور مدرسنا في بغداد آرسين كيدور وعلاقاته مع المناضلين العرب في الإستانة وبغداد، وأخبرته بأن الجريدة المركزية للفرع الأرمني في الحزب الشيوعي العراقي (همك - القاعدة) كان شعارها الرئيس: "عاشت الصداقة الأرمنية ـ العربية". قبل فترة غير بعيدة أرسل لي كتاب مذكرات آرسين كيدور باللغة الأرمنية. وقد بدأت بترجمة أجزاء منه الى العربية، وهو حقاً كتاب يحوي معلومات ذات أهمية تاريخية عن علاقات ملموسة بين الشعبين الأرمني والعربي. كتب آرسين كيدور مذكراته بلغة عذبة وبروح أممية صافية على الرغم من أنه قد عاش في أجواء القهر والتشرد ومسالكهما الوعرة والقاهرة والمؤلمة. وأرسل لي فاروجان كتاب سكرتير الأحزاب الشيوعية في فدرالية القفقاس الكسندر ميناسنيكيان، والكتاب يحمل تجربة غنية للغاية نقلت بعض إتجاهاتها العامة الى العربية. إن الكتاب يحمل تجربة غنية للغاية تهم أي بلد متعدد القوميات.

وعلى صعيد الوفاء للأرمن وأرمينيا يذكر لفاروجان الكثير من المساهمات. نشير الى البعضٍ مما نعرفه منها، فقد موّل على نفقته الخاصة ترجمة عدد من الكتب الأرمينية إلى اللغة العربية. وعمل على تنظيم الكثير من الزيارات للإطلاع والتعرف للمهتمين والمعنيين بشؤون الثقافة العربية والأرمنية إلى سورية والعكس صحيح. وساعد إعداداً غفيرة من طلبة الفروع العلمية والتطبيقية على مواصلة دراساتهم وقدّم لهم بعض التجهيزات التقنية الضرورية، وموّل مشاريعهم البحثية والعلمية ومساعدتهم في إخراج منجزاتهم وبحوثهم وإختراعاتهم، وقدّم إلى الجامعات الأرمينية والمراكز العلمية فيها عشرات أجهزة الحواسيب. وجهز مدينة أرمينية بمعمل صغير للخياطة ضم 14 ماكنة خياطة حديثة ودعم منظمات المعوقين فيها بعشرات آلات النسيج الحديثة لإخراجهم من أطواق ظروفهم الجسدية الى عالم الإنتاج الرحب.

وفي أرمينيا بذل جهوداً إستثنائياً لإقامة نصب عملاق للصداقة العربية ـ الأرمينية مع مجموعة كبيرة من الأرمن في سوريا ولبنان وأرمينيا والولايات المتحدة كرد لدين سابق للشعب العربي النبيل من أحفاد أولئك الضحايا السابقين، ولتعزيز الصداقة الأبدية بين الشعبين، حيث إستقبلت بلاد العرب وضمت أكبر جالية أرمينية مهجرة في فترة القرن العشرين. ويبقى ذلك النصب من أهم ما سعى إليه فاروجان مع كوكبة من أصدقائه ومعارفه من الديمقراطيين والوطنيين ورجال الدين، وتحقق ذلك الرمز بجهوده المضنية، وسوف يرتفع في الأيام القليلة القادمة في العاصمة الأرمينية/ ييرفان، ذلك التمثال الذي سيرتفع رامزاً للصداقة القوية وللأخوة الدائمة بين الشعبين العربي والأرمني. لقد كتب المشرفون على هذا النصب العملاق: "في آب 2002 خُصصت قطعة أرض لتنفيذ المشروع عليها ثم نُقلت الى موقع آخر... وقد حرصت السلطات الأرمينية لإقامة المشروع على قطعة أرض مناسبة... وقد سُجلت قطعة الأرض بإسم بطريركية عموم الأرمن في إيتشميازين بتاريخ 2007 وتم تقديم المخططات الى مجلس مدينة ييريفان في 12 آذار 2008.

وقد كتب صاحب القداسة كاركين الثاني ـ كاثوليكوس عموم الأرمن: " يتم تشييد نصب تذكاري في ييريفان عاصمة أرمينيا، وقد أطلق هذه الفكرة بعض الأرمن الذين يعيشون في المهجر ... ويرمز هذا الصرح الى الإعتراف بالجميل للشعب العربي النبيل لمساندته الإنسانية والراقية للشعب الأرمني في الحقبة التي تعرض فيها للمذبحة عام 1915 ... وهذه المساندة النبيلة أنقذت أرواح عدد كبير من الأرمن ... وأبقتهم على قيد الحياة ... ثمة نصب تذكارية عديدة ترمز الى عطاءات كبيرة والى أعمال خيرية كثيرة وجدت أمكنة لها على التربة الأرمنية، إلا أن لهذا النصب مكانة متميزة، إذ أنه يرمز الى إعتراف الأمة الأرمنية بالجميل للشعب العربي النبيل...".

وكتب البروفسور فاهكن ن. دادريان ـ من الولايات المتحدة الأمريكية: " إنني وبغبطة بالغة أحيي مبادرتكم الوطنية وأعبر عن دعمي المطلق لها، حيث أن هذا المشروع. ولو جاء متأخراً. يعتبر مناسباً".  

وقد غادر فارجان قبل أن يكتمل نصب الصداقة بين الشعبين، ويكفي الراحل راحة أن مشروعه يسير صوب الإكتمال. ربما تلمس فاروجان بحسه النبيل الحبل السري الى يربط أرمينيا ببلاد الرافدين والشام.

وكان من أواخر نشاطاته تجاه أرمينيا أنه عندما علم بوجود نية في يريفان لمشاركة قوة عسكرية من الجيش الأرمني في حرب أفغانستان التي مازالت دائرة الى يومنا هذا حشد شخصيات من أرمن الخارج وجهوا مذكرة الى القيادة الأرمنية: رئيس الجمهورية، مجلس الوزراء والوزراء في 2/3/2010 للتحذير من إرسال قوات الى أفغانستان. وضمت المذكرة تواقيع أساتذة جامعات وفنانين وأطباء وعلماء ومثقفين وسياسيين أرمن من كل البلاد العربية.

سارت عائلة أبي آرام على نهجه الكريم والواعي حتى في الظروف المحزنة ففي أربعينيته يوم 24 أيلول 2010 قدمت تلك العائلة مساهماتها الخيرية لصالح المؤسسات التربوية في الشام.

يتجسد تأثير الإنسان الكبير في محيطه الأصغر والأقرب، أي العائلة. ويبرز ذلك التأثير بصفة خاصة فيما زرعه في مجال الوفاء العائلي عند رحلة المعني الأخيرة، بمعنى رعاية الآخر بكل السبل الممكنة من أجل بقاء الآخر العزيز الراحل أطول أمداً. سعت عائلة فاروجان الى ترك أثر لا يغيب عنه إسم وذكرى فاروجان، أي السعي لبقائه وكأنه يعيش دائماً، ليس وسط العائلة حسب، وإنما وسط دائرة إجتماعية أوسع، خاصة وسط أماكن التجمع، ومنها دور العبادة، وضمن هذا المفهوم أقدمت عائلة فاروجان على إكمال بناء قاعة في ساحة الكنسية الأرمنية في دمشق، سميت القاعة بإسمه لتبقى تلك القاعة، قاعة فاروجان موطناً تعقد فيه الفعاليات الإجتماعية من حفلات ومسرحيات وعروض أفلام، كما تزين بطاقات الدعوة للفعاليات المشار إليها بإسم فاروجان. إن العائلة وفاءً لذكراه مؤسسها تحملت أعباءً مادية باهظة إجلالاً لذكره، ومن أجل أن تبقى ذكراه حية أبداً. إنها صورة حية وجميلة للتماسك والوفاء العائلي.

وأخيراً، فإن أوراق سيرة فاروجان المكتملة منها وغير المكتلمة باتت بأيدي أمينة، بيد شريكة حياته ومسيرته الجليلة بحق بأيدي زوجته الرفيقة جولييت وولديه المهندس آرام والدكتور هايك. إن عرض تجربة وسيرة حياة فاروجان تُعد خدمة كبيرة للأجيال الحالية والقادمة، طبعاً تلك السيرة التي خطها المناضل الراحل بنفسه على الورق الى جانب ما خطه في قلوب وعقول وذاكرة كل من جمعته الحياة معه من رفاق وأصدقاء ومعارف. إن سيرة الرجال الإستثنائيين لا تأتي دفعة واحد، إنها أكبر من أن تستوعب في وقت قصير وفي حيز محدود، وفي كل الأحوال تظل كتابة وإصدار السيرة الذاتية لهذا الرجل الكبير الذي أخذ من قاسيون وأرارات الهامة العالية، وبالمقابل منحهما قلبه وعقله وإبداعه. نعم تظل سيرته الذاتية موضع تقدير وإنتظار.

 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات