| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 23 / 3 / 2014

 

افتتاحية المدى
 

في واقعة قتل الدكتور محمد بديوي: أن تكون إعلامياً.. تحمل معك سرّ استشهادك..!

فخري كريم 
 

سقط شهيد آخر، أعزلَ، مجرداً من أيّ سلاح جارح، سوى فكرة يظل يُقلّبُها في ذهنه، ويعيد صياغتها قبل ان تتحول إلى سلاحٍ يرتعب منه الحاكم الجائر، والمُتلبس بالجرم العام الذي يذهب ضحيّته كل يوم مئات الضحايا، ويتحول الشعب الأعزل إلى هدفٍ مُسلٍّ، لا يأبه به وبمحنته أشباه الرجال، أشباه الحكام، أياً تكن هوياتهم الفرعية.

فالقتل على الهوية، واستباحة الكرامات، وامتهان الحقوق، اذ تصبح "عادة يومية"، ومشهداً يتطاير في كل انحاء البلاد، تفقد أهمّيتها، ولا تشكل مدعاة لملاحقة المجرم الحقيقي "المستهتر" بحرمة الروح الإنسانية، ومعنى الفقدان، ما دام ممكناً تحويل النزيف غير المنقطع إلى تميمة تحفظ له كرسي الحكم وما يدره من امتيازٍ وجاهٍ ومالٍ سحت حرام.

الشهيد الدكتور محمد بديوي، سقط أمس مضرجاً بدمه الزكي في بغداد، برصاصة قاتل يحمل بدلة قوات حكومية، وعلى كتفه شارة الحرس الرئاسي، لأول مرة، بغياب الرئيس جلال طالباني الذي لم يكن ليتردّد لحظة واحدة، ودون أن يستمع إلى تبريرٍ أو تفسيرٍ، في وضع القاتل في دائرة الإدانة وتسليمه إلى الجهات القضائية، للتحقيق والمحاكمة وإنزال العقاب الرادع به.

الصحفي والإعلامي أصبح هدفاً غير مكلفٍ، فلا هو قادرٌ على حماية نفسه، وليس له ما يتكئ عليه للذود عن حياته، وخلق البيئة التي تؤمّن له ممارسة مهمته في الكشف عن الحقيقة، ومتابعة المظالم التي تقضّ مضاجع الناس، وتجرح حساسيتهم الإنسانية.

الإعلامي يضع هويته على صدره، دون ان يدري أنها ستكون اينما اتجه، وفي أي حقلٍ ملغوم تحرّك، علامة استشهاده، والهدف الذي يُغري القاتل بالتصويب نحوه بدقة المحترف، وحقده على حامل الهوية. فالقاتل يعرف ان الهدف مكشوف الظهر، بلا حول ولا سلاح. مقتحمٌ بقوة إقدامه على جلاء المستور، واستكمال البحث عن الحقيقة المغيّبة، أياً كان من يسعى للتمويه عليها.

القاتل، لا يحمل هويته على صدره، بل يُشهر سلاحه، ويُكشّر عن انيابه وهو ينظر الى الضحية بدمٍ باردٍ مسموم. وقد تعددت هوية القاتل الذي يبحث عن الاعلامي، لانه مطلوبٌ، يُغري "العلاّسة" الذين يمهدون طريق القاعدة وداعش والميليشيات الاجرامية، للوصول اليه. لكنه هدفٌ لا يحتاج الى "علاسة"، حين تستهدفه حماية مسؤولٍ، او قوات سوات وهي تطارد متظاهرين مسالمين، يحتجون على نقص خدمات او التعدي على الدستور والحريات وانتهاك الحرمات والكرامات واغتصاب السلطة.

ليس بالسلاح وحده يُقتل الإعلامي، بل بالتعدي المجاني عليه، كلما أراد أن يغطي حدثاً أو يلقي الضوء على مسارٍ يبدو غامضاً، أو حتى حين يقوم بمجرد متابعة نشاطه اليومي الذي لا يستهدف جهة بعينها أو مسؤولاً. وأقسى ما يواجهه الإعلامي، قد يراه البعض منهم، أشد وقعاً من الموت نفسه، وذلك عبر محاولة سلب كرامته وامتهانها، والسعي لشراء ذمته وتطويعه لما يتعارض مع قيمه وشرفه المهني، ويُخيّره بين ذاك وبين التحول الى موضوع للشهادة، حياً أو ميتاً.

ليس دم الإعلامي أزكى من دم العراقيين والعراقيات الذي يُسفح كل يوم، بل كل لحظة، ودون ترتيبٍ او تفريقٍ على الهوية، لكنه علامة تختزل معنى موت العراقي في هذا الزمن، حيث القاتل يتخّفى، ويتلون، بزيٍ إرهابي مكشوف أو متستر، أو بلباسٍ وهوية حكومية مسروقة، أو متواطئة. وفي كل مرة، يجري تسجيل الجريمة ضد "مجهول" أو تُمرر بحكم تقادم الزمن، ليطويها النسيان، خصوصاً اذا كانت الجريمة معروفة بالصورة، كما حصل للشهيد محمد عباس، المدرب الرياضي المشهور الذي ترك نعيم الدانمارك، ليُقتل ضرباً وتجريحاً من افراد سوات، وبينهم قريب اكبر مسؤولٍ في الدولة، وليستشهد في "نعيم عبعوب"! والجريمة المروّعة تآكلت بحكم تقادم الزمن!

لقد نسي الناس فواجعهم، بعد ان رأى كثرة منهم، جسد الشهيد محمد بديوي، مضرجاً مسجىً في نثار دمه الطاهر، وربما شعر البعض منهم، بقوة السلطة وهي تتخذ أقصى الجاهزية لاقتحام مجمع الرئاسة بحثاً عن القاتل الهارب، لا لتحمي حرمة القتيل وتأخذ بدمه الطاهر، بل لتدُك آخر ما تبقى من هيبة الدولة الفاشلة في غياب رئيسٍ كان بامكانه ان يمنع الجريمة، ويأخذ بحق البلد التي انتهكت حرماتها، دون مساءلة او ملاحقة او اجراء.

لقد ألقت قوات حرس الرئاسة القبض على الجاني، وهي بذلك قدمت مثلاً في الخضوع للقانون، والامتناع عن حماية الجريمة وتبريرها، مما يجعلها سابقة، يفترض أن تشجع على فضح الجهات التي تحمي قتلة الشهيد المدرب محمد عباس، والشهيد هادي المهدي، والشهيد كامل شياع، وعشرات الشهداء الاخرين، ومنع اسدال الستار على جرائم قتلهم، وتسجيلها على ذمة مجهول معروف الهوية والانتماء.

والقاتل لابد ان ينال ما تفرضه العدالة، والامتثال لها يجب ان يتحول في الوعي العام الى ثقافة، لكن حذار من تحويل دم الشهيد الى قميص آخر، يجري التلويح به في الدعاية الانتخابية، وحذار من السماح لمن يتصيد في المياه العكرة، فيشعل بها فتيل فتنة، لتظل أزمة مفتوحة تشعل نيراناً وحرائق...

القتل المجاني العبثي، صار ثقافة تسود، مع سيادة عسكرة المجتمع، بعد ان جرى اعتمادها، كبديلٍ عن ثقافة الإصلاح، والمصالحة المجتمعية، والتوافق الوطني، والاحتكام إلى الدستور والقيم الديمقراطية والمواطنة الحرة..

ولا سبيل لردع القاتل، وإزاحة ثقافة القتل والجريمة، الا عبر نهوض جماهيري ديمقراطي، يعيد للناس الأمل والثقة بالمستقبل..


المدى
العدد (3038) 23/3/2014


 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات