| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                             السبت 22/12/ 2012

 

احتفال انصاري

عدنان اللبان
Wz_1950@yahoo.com

كنت انقل له الاحساس بالألم الذي يشعر به الانسان عندما يجبر على السير فوق الرمل الخشن بعد ان تورمت وتخدرت قدماه , وأخذت تنزف نتيجة الضرب بالكيبلات الذي يسمونه الفلقة . كانت الضربات تتوالى من الاثنين , ومع كل ضربة تشعر ان جرحا ينفتح , كان الالم لا يطاق , الاعصاب تنكمش الى الداخل , الى القلب , الصراخ لا يخفف الالم , الجسم يكاد ان يجف لكثرة ما ينزف من العرق , يتمزق الوعي ويصبح عاجزا عن تحديد الانتباه , لم يعد الاحساس محسوسا , وعلى حافة الغيبوبة تشعر ان الالم اخذ يخف , لحظات .. ولم تعد تشعر بالألم بقدر ثقل ارتطام الكيبل , لم يعد للضرب فائدة , لقد تليف الاحساس بالكامل . فكوا وثاق القدمين , وأجبروك على السير فوق بلاطات فرشت بالرمل الخشن , الرمل ينغرز عميقا في الجرح , النار تشتعل بآلاف الخلايا في القدمين , وضعوا ملحا مع الرمل , الحافات الحادة لذرات الرمل تشقق الشرايين وتصعد مع الدم , تشابكت سكاكين الرمل بوهج النيران , والألم يفتك بما تبقى من الوجود . لا اعرف كيف يتحمل الجسد كل هذا ؟!  اخذ نفسي يصعد ويهبط , وقطرات العرق تنز من جسدي , وأنا اكرر له المشهد .

كانت رغبتي من التوسع في وصف احدى عمليات التعذيب , لكي يتمكن من بناء درجات الاحساس لتجربة الفلقة بشكل صحيح . طلبت منه ان يتدرب اكثر من الآخرين , المسرحية تتكون من تسعة مشاهد , ودوره معارض لنظام صدام ويقع في قبضة الامن , ويخضع لعمليات تعذيب كثيرة , من الضروري استعراض واحدة منها – رغم بشاعتها – لإيصال فكرة العرض . المسرحية صامتة , والاعتماد فقط على حركة جسم الممثل دون الوسائل المسرحية الاخرى , والاستفادة من تعابير الوجه ايضا لأننا نقدم العرض وسط الجمهور . تحدثت معه عن فن النحت , وكيف ان اهم ما موجود في اي نصب او قطعة منحوتة , هي الحركة التعبيرية مهما تكن الابعاد والقياسات منتظمة , والحركة هي التي تمنح الحجر والبرونز والخشب سر خلودها . كان رزاق وهذا اسمه يحاول ان يفهم , ولكنه لا يستوعب , او يجده صعب التطبيق , ويبرر عدم التمكن من انه يعتقد ان الجمهور سيفهم بحركات بسيطة عذاب التعذيب , ولكني اصر على عدم الاكتفاء بحركات لا تفي بتحسس الالم , افهام الجمهور بالألم شئ , وعدوى الجمهور بالإحساس شئ آخر.

في اجواء قيام الجبهة الوطنية في بداية سبعينات القرن الماضي كنا طلبة في اكاديمية الفنون الجميلة , وصديقي الفنان  ستار دلي من اهالي سوق الشيوخ يمتلك صوت غنائي نادر , كان الفضل يعود لعذوبة صوته وموهبته في ان تكتفي الاكاديمية – وهي للفنون – بالاقتصار عليه في احياء كل حفلاتها طيلة سنوات وجوده فيها , والجمهور الذي يأتي لسماع ستار من باقي كليات جامعة بغداد . الا ان هذا لم يشفع له , ومنع من دخول الاذاعة والتلفزيون , وحرم من اخذ فرصته لكونه شيوعي . ستار كان شاعر شعبي ايضا , كتب قصيدة في وقتها كانت تناجي احاسيسنا ولها شأن فيما بيننا . من بين مقاطعها :

كل جمعة ادكَ حنه

ورد النوب ادكَ حنه

واعجنه بدمعتي التسرح على خدي اعجننه

وحني طرامك الجابك , وكت ونه بأثر ونه

خلص صبري , الوعد يجزي , النفس يكَصر اعرفنه

بشوك اللي احبنه

رغد نايم , ولا مهتم , ولا جنه

عوافي للي يتهنه

نشرت القصيدة كاملة في مجلة الانصار الشيوعيين باسم  مستعار , وقد ظن رزاق انا الذي كتبتها , فأخذ يمتدحها ودونها المعلقات الجاهلية , اكدت له انها لصديق اخاف عليه من نشر اسمه . كان يخاف ان اضغط عليه في التمرين , ويشتد خوفه اكثر عندما اوجه له ملاحظات يعتقد انها شخصية مثل : لماذا يميل بالتوجه الى مقدمة منتصف المسرح ؟ رغم الملاحظات المتكررة عليه بأن : كل منطقة على خشبة المسرح توجد اسباب للتواجد فوقها . او لماذا يتأخر كثيرا عن الآخرين عند تحية الجمهور في نهاية المسرحية ؟

كنا نتهيأ للاحتفال بعيد ميلاد الحزب عام 1984 , والمسرحية الفقرة الاكثر اهمية في الاحتفال . المسرحية صامتة وبدون ديكور وملابس وإكسسوارات وموسيقى تصويرية او مؤثرات صوتية وإنارة , وبدون خشبة مسرح ايضا , وليس فيها اي ممثل , مجموعة من الانصار الشيوعيين ذخيرتهم حبهم للأدب والفن والحياة .

كنت حذرا بالتمرين مع رزاق , واختار المفردات بدقة , وابتعد عن استخدام المصطلحات الفنية كي لا اربك استيعابه , وحاولت بعشرات الامثلة ان نتوصل معا الى فهم مشترك . كان يتهرب من النقاش في اغلب الاحيان , ويوحي بأنه افهم وأكثر ادراكا من الآخرين , وبدل المواظبة على التمرين والإصرار على ايجاد وسائل اكثر سهولة وأكثر تعبيرية لاغناء المشهد وتوضيح ابعاده , يحاول ان يجد تفسيرا يتناسب مع عدم تمكنه الذي بدا واضحا للآخرين . كان يحاول ان يغريني لتغيير قناعتي بكون : الصمود في الامن وعدم افشاء الاسرار هو بطولة من نوع خاص , لها علاقة بالنضوج الفكري والروابط القوية بالحزب . وليس حالة انسانية تضافرت فيها مجموعة عوامل ولا تستحق ان توصف بالتفرد  , وهذا ما اريد ان اثبته , وكثيرين عايشوها , ولا يوجد انسان حقيقي واحد دخل الامن ولم يخفي شيئا عنهم .

قبل يومين من الاحتفال عرضنا المسرحية على مجموعة من الرفاق والأنصار , كان العرض لا باس به , ويمكن ان يكون افضل في الاحتفال لتحشد الجمهور وارتفاع حرارة مشاعر الاحتفاء بالمناسبة .  كان من بين الممثلين الشاعر الكردي الشاب هندرين , وقد ادى الدور بتلقائية تلفت النظر , ويبدو ان بحثه في تطوير امكانياته الجمالية في الشعر منحه الرهافة الكفيلة للإحساس بدقة المشاعر التي عكسها في دوره , وكان يمثل احد الظلال القوية التي تركها الحزب وسط الجماهير . ولفت الانتباه نصير آخر رغم صغر سنه وهو علي ابن مام صالح , ولا اعرف من بين الذين عشقوا المسرح كان فرحا وسعيدا عند حضوره التمرين مثل علي , كان حضوره مثل الاسفنجة التي تمتص التوترات والإجهاد الذي يرافق التمارين التي لم يتعودوا عليها , وفي اليوم الذي لم يحضر فيه شرطي الامن ( دوره ) الى التمرين يظهر التعب واضحا على الباقين . كنت افكر برزاق ودوره الاهم في المسرحية , كان ادائه باهتا , ويتلاشى تأثيره امام تلقائية هندرين , او الحضور الطاغي لبايز وهو احد المخبرين , وبايز رفيق امي استشهد في احد المعارك مع السلطة قبل الانفال . او مع الرفيق ابو احمد الذي مثل دور ضابط الامن . والمشكلة عدم سماح الوقت لاختيار شخص آخر لهذا الدور , ولا بد من اضافة شئ – حتى وان كان من خارج العمل – على اداء رزاق ليكون اكثر ثباتا في ذهن الجمهور.

 ابو احمد الذي مثل دور ( ضابط الامن )  شيوعي من بغداد , ترك زوجة وطفلين ووظيفة محترمة , وعند اشتداد الهجمة على الشيوعيين عام 1978 التحق الى قوات الانصار عند تشكيلها مباشرة , وطيلة فترة  وجوده يعمل في قاطع سليمانية , وجه معروف لكل انصار الحزب في القاطع لقدمه ولتنقله بين اغلب وحدات الانصار . كان دائم الابتسام وراضي عن كل شئ , مقاتل جرئ وحريص على كل شئ , وعندما يكون اداري لأحد الفصائل او السرايا يوفر دائما من المخصصات رغم كونها شحيحة ويعيدها الى الحزب , وعندما يكون مستشار سياسي يحاول ان يعرف عن النصير حتى اموره الشخصية ان امكن , كان حريصا على ان ينقل للحزب حتى التذمرات الصغيرة التي تصدر من بعض الرفاق ويعتبرها جزء من نقاوة الرفيق وأمانته . ابو احمد يؤدي دور ضابط التحقيق بكفاءة عالية , ولديه قدرة في التصور ليروي قصة قصيرة في الحركات , وكثيرا ما انبهه لإلغاء بعض حركاته او تشذيب بعضها لأنها تفهم كإشارات خرسان اكثر مما هو تمثيل صامت . تحدثت معه حول ضرورة تقوية دور المناضل وجعله اكثر صلابة وتحدي بوجه جلادي البعث , خاصة وان المناضل صاحبنا " نص ردن " في التمثيل . ابو احمد في تكوينه يوافق على كل شئ يعتقده يصب في مصلحة الحزب . ارتاح لاقتراحي , وعلى ان يكون رد فعل المناضل قويا عندما يطلب منه ضابط التحقيق التعاون مع جهاز الامن , كنهاية تؤكد اصرار الشيوعيين على رفضهم القاطع لنهج البعث رغم دموية التعذيب .

(كرجال) وادي حجري يبدأ عند نهاية مصيف وشلال " احمد آوه " الشهير , وبعد مائتي متر ينحرف الى اليسار حيث تقع مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني الى يمينه , ومقر قاطع سليمانية والفوج السابع للحزب الشيوعي الى يساره, وبعد المقرات بنصف كيلومتر يبدأ الوادي بالصعود وتبدأ الحشائش والأشجار تنتشر على مساحات واسعة من التربة مودعة قسوة الصخور , وفي هذا الحد الفاصل اختار الرفاق ان يكون موقع الاحتفال . كان قطعا في الجبل نصف دائري ويرتفع لأكثر من عشرين مترا , وأشبه ما يكون بمسرح اغريقي يحتاج الى تنظيم مدرجاته. وهو موقع عصي على السلطة , وقد امن الرفاق المنطقة من غارات الطيران في حالة معرفة السلطة بالاحتفال , وذلك بنشر مقاومة الطائرات حول محيط الوادي .

31 آذار كان يوما ربيعيا بحق , التحم فيه احتفال الطبيعة وهلاهل شمسها بدبكات وأفراح الشيوعيين بعيد تأسيس حزبهم , ومعهم بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني وباقي اصدقائهم في المنطقة . كان تدفق الحياة ومهرجان الالوان والزهور لا يترك الاندهاش يفلت دقيقة واحدة , كان الفرح يتدفق موجات من اعماق ينابيع النفوس , وتلتحم الاحاسيس , فتجري نهرا يغذي كل المحرومين ومن فرض عليهم ان يقارعوا الخوف والألم وسط هذه الجبال , ويحولوه الى طريق يفيض بالأمل . كان الغذاء الاحتفالي يورق انفعالات تشي بأشواق الحنين للقاء الاحبة من الاهل في البيوت التي تركوها بعد غياب طويل وهم يتذكرون طبخ امهاتهم وأخواتهم , وكان اللحم المدخن المطبوخ بأمهر الايادي  يتقلب عاريا فوق تلال الرز , وتحف به وسائد الكشمش واللوز , وتحته شراشف البهارات والفلفل الاسود , كم مضى ونحن نتحرق شوقا لهذا اللقاء . وبعد هذا الغذاء الملوكي بساعتين , اي في تمام الثانية بعد الظهر بدأت فقرات الاحتفال : دقيقة صمت على ارواح شهداء حزبنا وشهداء الحركة الوطنية , تلتها كلمات الحزب والضيوف , وبدأ البرنامج الترفيهي بمجموعة من الاغاني والدبكات وعرضت المسرحية كمسك ختام الحفل .

كان العرض مدهشا لأغلب الموجودين , وبعض  البيشمركة والقرويين يشاهدون مسرحية لأول مرة  , والذي زاد في استمتاعهم كون المسرحية صامتة  ويستقبلون اشاراتها ومضامينها بسهولة , والشئ الذي كان يشغلني ويشغل باقي الممثلين هو كيف سيكون تأثيرها على الرفاق بالذات . وعندما وصل العرض وسط سكون الجمهور وانشدادهم الى المشهد الاخير , وبدل ان يخضع المناضل الى جولة جديدة من التعذيب بعد ان يرفض التعاون مع الامن , يقف ويبصق بوجه ضابط التحقيق الذي تفاجأ برد الفعل هذا ... تفجرت موجة التصفيق من الرفاق , وتبعها كل الموجودين , ورجع الوادي صوت التصفيق وكلمة اعد اعد . ظن رزاق ان هذا التصفيق له , ابو احمد يضحك ويحييهم وهو يدرك انه سبب الحماس الذي ركب الجمهور , فقد كان اغلب الموجودين من الانصار يتشكون من شدته في تطبيق قواعد العمل الحزبي والأنصاري , وكان سعيدا عندما ادخل الفرح والأمل لقلوب الآخرين . ولكنه في اليوم الثاني رفض اعادة العرض .

 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات