| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الثلاثاء  21 / 10 / 2014

 

افتتاحية المدى

تحوّلات مصر بعد 30 يونيو.. بين النهوض السياسي والتشوش الفكري *

فخري كريم 

تعوّدت وانا في القاهرة، أن أتصفح كل الصحف والمجلات، لأطلع من خلالها على المشهد السياسي والثقافي والفكري ومستجداته لأعرف ما سنكون عليه، ولعلي استمد من التطورات الإيجابية فيها، ما يعينني على تحمل تبعات إخفاقاتنا وخيباتنا التي تسد علينا منافذ الأمل، أو التفاؤل بإمكانية فرجٍ عاجل.

لم أكن يوماً أميل إلى أي دعوة تحاول الانتقاص من دور مصر، حتى في أكثـر المراحل مدعاة للتساؤل حول توجهها السياسي أو مكانتها الثقافية ودورها الريادي في ميادين التجديد الفكري والإصلاح الديني. وكانت مثل هذه الدعوات المنتقصة تطغى على المشهد السياسي العربي في مراحل الانتكاسات التي مر بها العالم العربي، حيث يتغّول فيها الحكام الممسوسون بالزعامة، تحت أوهام لافتاتهم القومانية.

وليس في هذا التقييم والمواقف من مصر ودورها القيادي في تقرير مصائر العالم العربي، ما يمكن اعتباره "تحيزاً" أو إفراطاً في الممالأة المخلة، إنما هو تعبيرٌ عن قراءة موضوعية تستند الى تاريخ "الدولة العميقة" وحضارتها، وتماسك شعبها وثروتها البشرية وإرثها الثقافي، التي عوضتها عما يميز دولاً أخرى من ثروات مادية لم يفتتح امام الكثير منها سبل التطور الحضاري، والارتقاء بشعوبها الى مستويات معقولة من التقدمٍ الاقتصادي والسياسي، وتحقيق الاكتفاء والرخاء المادي والاستقرار الامني.

وتأسيساً على ذلك، استغرقني قلقٌ ممض وانا اتابع تطورات المشهد المصري بكل جوانبه، متحركاً على المستجدات السياسية، وصولاً الى انتفاضة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وإزاحة الرئيس الإخواني محمد مرسي وتصفية حكم المرشد..

ودون الخوض في تفاصيل الصراع الذي اثارته التحولات الثورية العاصفة، الإنقاذية بكل معنى الكلمة، فانني رأيت منذ البداية، إن ما جرى في ٣٠ يونيو هو تحولٌ يفترض أي تسمية باستثاء "الانقلاب"، ارتباطاً بجانبين متلازمين فيه، ازاحة أداة تدمير الدولة المصرية المتمثلة بالاخوان المسلمين وحكم المرشد، تمهيداً للاجهاز على البنى الهشة "شبه المدنية" في العالم العربي والاسلامي، من جانب، والوعد باستكمال دولة المؤسسات والحريات الديمقراطية من جانبٍ آخر. ولا يقلل من " هبّة " الشعب المصري دفاعاً عن وجوده المتلازم مع حماية دولته، مبادرة جماعة من شبابه في اطلاق "تمردٍ" كان له بعض الفضل في اضفاء طابعٍ جماهيري عاصف لم يشهد تاريخ القرنين الحالي والماضي، ما يرتقي الى مستواه، من دون الانتقاص من ثورات الشعوب الأخرى التي كانت في صدارتها احزاب وتنظيماتٍ وقياداتٍ مجربة.!

ويمكن التوقف عند مظاهر أخرى للحدث، يشكل كل منها توصيفاً مستحدثاً لحالة النهوض الجماهيري الذي مهد للتحول في مجرى الاحداث، وهي مجتمعة تشكل جوهر التجربة المصرية التي تستحق التعميم للاستخلاص منها، وفقاً للظروف الملموسة لكل حالة، وليس الانسياق وراء وهم الاستنساخ.

ومن بين المظاهر الاكثر إشراقا في الحالة المصرية وتحولاتها، نهوض المثقفين والقضاة والاعلاميين، وانتقال ضباط الشرطة وافرادها الى صفوف الحراك الاجتماعي والشعبي.

ولم تكن اللوحة لتستكمل، دون الانخراط المذهل للمرأة المصرية في الحراك، متلفعة بحجابها أو مزدهية بسفورها، لا فرق بين الاجيال والاعمار والمراكز الاجتماعية والمستويات الثقافية وتنوع الهويات.

1
شهِدتُ هذه المرة وانا ازور أم الدنيا، ان بارقة أملٍ كبُرت في محيّا المصريين، وعادت الابتسامة تشع في وجوه البسطاء من "الغلابة"، وأينما توجهت رأيت باباً يتسع للامل والتفاؤل.

لكنني انتبهت الى قدر من التشوش، يسود الاعلام ويربك المشهد، وبعض التنافر في ما تطرحه الكتابات في الصحف التي تتناول التحولات ولوازمها، والمفاهيم الانتقالية والقيم التي ينبغي أن تسود في جمهورية ٣٠ يونيو. وهو ما رأيت في بعضه تناقضاً لا ينسجم مع قيم التطور التي لا يمكن بدون ترسيخها، عبور مرحلة حكم الاخوان والمضي في ارساء الاسس الوطيدة لنظامٍ ديمقراطي تعددي مدني، يحول دون الانتكاس والإفساح في إحياء المرتكزات الفكرية والاجتماعية للاخوان والاسلام السياسي المتخلف.

2
أحد التجليات المربكة في الحياة الثقافية والفكرية، الخلط في المفاهيم بمحاولة اسقاط مفهوم "الوسطية الاسلامية " على مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو خلطّ يفتقر الى عمقٍ معرفي في كتابات صحفية تسعى الى تأكيده كيقينٍ، وبديهة بهتانية تشوش الوعي العام، وتضعف الحصانة في مواجهة الحملة الفكرية والسياسية الارهابية للتكفيريين من الاخوان وحلفائهم.

ومثل هذا الاسقاط المشوش والإسراف في استخدام مفهوم " الوسطية في الاسلام " يخدم دعاوى القوى التي تسعى لاستنفار النزعات المعادية لحرية الابداع في كل ميادينه وتجلياته، من الفنون بكل أشكالها، والسرد بكل صنوفه، وغير ذلك من مظاهر الخلق والابداع، وإظهار ما يخالف ذلك خروجاً، على " وجدان المجتمع " وتقاليده الذي عُرف بـ"وسطيته"، بل تذهب كتاباتٌ موصوفة الى اعتبار الدعوة الى الانفتاح على حرية الابداع غلوّاً وتطرفاً الى اليسار، يرفضها الفرد المصري الذي عرف بتدينه السمح واعتداله، وكأن تاريخ مصر في مراحل صعوده الحضاري وتقدمه الاجتماعي والثقافي، ودوره الريادي، طوال القرن الماضي الى العقد الثامن فيه، يؤشر الى تخلي المصريين عن سماحتهم وتمسكهم "بقيم دينهم الحنيف"، يوم كان للثقافة والمثقفين، والفكر والمفكرين، والفن والفنانين، ذلك الدور القيادي الذي ساد العالم العربي. يوم كانت ام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الاطرش وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وسعاد حسني وفاتن حمامة وتحية كاريوكا وسامية جمال، يتربعون على عرش قلوب الناس من الشعوب العربية كافة، حيث لعب الفن الاصيل دور السفير فوق العادة لمصر الى كل الارجاء العربية، حاملا قيم التحرر الاجتماعي الى جانب التحرر السياسي الوطني، ويحول اللهجة المصرية الى لسانٍ ثانٍ فيها.!

لم يكن يومها، الرقص تهتكاً أو فجوراً، ولا السفور عرياً وضعفاً بالإيمان، ولا المسرح وافلام عمالقة السينما دعوة الى تخلٍ عن قيم المصريين وتقاليدهم.! وفي مسارٍ منحدر، تعرضت مصر الى تراجعٍ في كل الميادين، ارتباطاً بصعود نفوذ الاسلمة السياسية، والتشوهات التي شابت التقاليد والقيم المصرية الاصيلة، حيث تشَكّلت نواتات مشهده، بفعل مضادٍ تراجعت فيه قيم وفعاليات ومنجزات تلك المرحلة المضيئة، بعد تسلل الاسلمة السياسية، وطليعتها المنظمة الاخوان المسلمين، الى مسامات نسيج المجتمع والحياة السياسية.

3
من العبث الفصل بين استنهاض مصر، وتكريس دورها الريادي الفعال في المحيط العربي والاقليمي والدولي، دون اطلاق الطاقات الخلاقة للمجتمع، والانفتاح على الحضارة الانسانية، وإضفاء قيمها ومنجزاتها على هويته، دون تعارضٍ أو انتهاك. ومثل هذا الاستنهاض والترابط بين الحرية والابداع والتطور، يشكل نسيجاً لا يقبل التأويل والاسقاطات المخلة التي تعارض احدها بالاخرى. ومسار النهوض في الحياة المصرية منذ ثورة عرابي وحركات الاصلاح الديني، والنهضة والتجديد الفكري، شاهد عيان على هذا التلازم والصعود.

إن التطرف والغلو وتوسيع دائرة التحريم، ورفض الآخر، في إطار رفض التنوع والتعدد، هو ما لازم التخلي عن مواصلة نزعات الاصلاح وصحيح الاسلام، واضفاء طابع التشدد على تقاليد الشعب المصري، خارج رحابة القيم الاسلامية، والتحول من تَمَثّله الإيماني الى تكريسه أداة سياسية مباشرة في تمزيق المجتمع، وقمعه والتضييق عليه وتكفيره على اسس عصابية متخلفة، لا علاقة لها بالدين.

4
وفي جانب شديد التأثير، تميز الدور المصري في مراحل صعوده، بالانفتاح على محيطه العربي والاقليمي، وتفاعله مع حركات النهوض والتحرر والحضارة الانسانية. وقد شهدت تلك المراحل تواصلاً حياً مع كل ما يجري في المساحة الممتدة حول مصر. واتخذ التواصل في جانبٍ حيوي منه، تفهماً للحراك الذي يدور في المجتمعات الاخرى ومحاولة رصد تطوراته، والأخذ بالاعتبار المصالح العليا التي تراها وتسعى لتحقيقها. وتبلورت نتيجة ذلك مشتركاتٍ بين الشعوب العربية، بل وابعد من ذلك، في أطراف من العالم الثالث.

وليس ممكناً، في سياقات تأكيد مصالح وأمانٍ مشتركة بين المجتمعات والشعوب الساعية لبناء دولة المؤسسات والحريات وحقوق الانسان وترسيخ الدولة الديمقراطية المدنية، الانحياز الى ما يتناقض معها في التعامل مع قضايا وتشوفات الدول الأخرى، أو تمجيد مستبدٍ ودكتاتور طاغية، أو نظامٍ شمولي باطش، والادعاء بخلافه قدر تعلق الامر بما يراه لبلده ووطنه ومستقبله.

ومثل هذا التناقض للاسف الشديد، برز في أكثر من حالة، عربياً، على وجه الخصوص. فقد رأت شعوب عديدة تناقضاً في توجهات قوى سياسية مصرية، بين نهوضها ضد ما رأته انفراداً في الحكم وتسلطاً او حتى استبداداً في واقعها، وتزكية مخلة في النظر الى أنظمة وحكام لم يكن لاستبدادهم وتفريطهم وتبديهم للثروات أو انتهاكهم للمحرمات من مثيل أو مقارنة.!

5
يخطئ من يتوهم أن العالم العربي، على اختلاف أقطاره وشعوبه، يمكن أن يتعافى من مظاهر التصدع والتحديات البنيوية، دون ان يكون لمصر دور رائد متفاعل على كل صعيد. وفي أحد اهم ما يتعرض له من تحدٍ ومجابهة مع الارهاب والتنظيمات الإرهابية، بمختلف مسمياتها، القاعدة أو داعش أو النصرة او الإخوان المسلمين، ودعواتها التكفيرية، يظل مآل الوضع في مصر، وحسم خياراتها بوضوح وصلابة وبلا تسوياتٍ مخلة، لجهة ارساء أساس طامحٍ وطيد للديمقراطية والانفتاح على الحريات والابداع بلا تحريمٍ مُسف، العامل الموضوعي الضامن للمعافاة الشاملة، وتصفية ادوات الخراب والتكفير، وتجفيف منابع ومصادر الارهاب في المنطقة كلها.

ومن غير الممكن بطبيعة الحال، إنجاز هذه المهمة الملحة المباشرة، سواء في مصر او في غيرها من البلدان العربية، وخاصة في العراق وليبيا وسورية، بالاعتماد على الحلول العسكرية والامنية، دون معالجة القضايا العقدية الاخرى، وفي المقدمة منها تفكيك البيئات الحاضنة للارهاب، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتصفية مظاهر الفقر المدقع، وتنشيط الدورة الاقتصادية، بما يساعد في توسيع فرص العمالة لاستيعاب العاطلين عن العمل.

ويظل، في هذا السياق، بمكان الصدارة من الاهمية الاستثنائية، إنجاز مصالحة وطنية مجتمعية لا تستثني أي فئة أو مكون، ولا تهمش طرفاً سياسياً يتفاعل مع المبادئ والقيم الديمقراطية ومساراتها، ويؤمن بها فعلياً.

وعلى هذا الصعيد، تحتل تجربة مصر في التحول نحو ترسيخ المؤسسات الديمقراطية في إطار الدولة المدنية، وتجاوز تحدي الارهاب الاخواني، واستكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية، بالانتخابات البرلمانية، الدور المحوري في مجابهة قوى الإرهاب، وتمكين الدول التي تخوض الصراع الدموي مع تنظيماتها التكفيرية، والإجهاز عليها.

وهذه مهمة مصيرية، تستحق ان توليها مصر وقيادتها الأهمية التي تستحقها، بالتنسيق والتعاون والتضافر مع الدول العربية المعنية بالصراع ضد الإرهاب.

ومن الخطيئة أن ترى دولة عربية، أنها بمنجى عن هذا الخطر وما ينطوي عليه من تحديات مصيرية على الأمة برمتها.


* المقال كُتب للزميلة "الأهرام" المصرية التي نشرته في عددها الصادر أمس 20 / 10 / 2014.
 

المدى
العدد (3197) 21/10/2014


 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات