| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الثلاثاء 20 / 8 / 2013



افتتاحية المدى

المعيار المزدوج للإرهاب عند اردوغان: تداعيات المركب التركي فـي أتون الطوفان العربي..

فخري كريم  

حقّقت تركيا خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، طفرة اقتصادية مكَنَتها من القفز على مشكلاتها التي حالت دون إيجاد موطئ قدم لها وراء البسفور وجعلتها تراوح داخل حدودها، وحصرت اهتمامها في خلق مناخات استقرارٍ سياسي ونمو اقتصادي، يخفف من خضوعها لتدخل العسكر لتنفيس الازمات والصراع على السلطة. وقد استمر التناوب على السلطة على وقع الانقلابات العسكرية، بين قادة الجيش "المؤتَمن على الارث الاتاتوركي" وأحزاب وقوى شاخت وتراجعت قاعدتها الاجتماعية المنهَكَة، بعد أن تآكلت برامجها ولم تعد قادرة على توصيف حالة البلاد وتحديد سبل الخروج من مسلسل أزماتها.

وثب الحزب الى السلطة بعد مخاضاتٍ لتيار الاسلام السياسي، الذي تَبَدّى بأكثـر من وجه وصيغة، عبر صناديق الاقتراع، وألحق بفوزه هزيمة تاريخية بالاحزاب التقليدية، وعرّضها لعزلة تزايدت مع كل نجاح حققته حكومة اردوغان.

ولم يكن سهلاً على قيادة العدالة والتنمية، التوفيق بين أهدافها النهائية في تكريس برنامجها الإسلامي "المُضْمَر" والمقومات "الاتاتوركية العلمانية" للدولة التركية، وهي محروسة من القوات المسلحة الراسخة. وهذا التناقض وضع الحزب الإخواني امام مهمة انتهاج سياسة متدرجة، تسمح له "بتفكيك" المحرمات المستندة الى الدستور والقوانين والتقاليد الاجتماعية. وقد وجد قادة العدالة والتنمية السبيل لاستدراج المؤسسة العسكرية الى معارك جانبية استباقية، لاختبار ردود أفعالها وقدرتها على المناورة، حول تدابير وتغييرات تتحاشى التعرض لجوهر النظام، وتبيح محرمات لا تتعارض معه، مثل جواز الحجاب ودخول حرم الرئيس المحجبة إلى القصر الجمهوري، وغير ذلك من التشريعات التي مررها في البرلمان. ولم تكن النجاحات التي احرزها الحزب، بمعزلٍ عن نفور الناس من تدخل العسكر وهيمنتهم على الحياة السياسية، وتورط قادتهم في الفساد والامتيازات.

وفي مجرى تعزّز مواقع حزب العدالة والتنمية في السلطة وفي المجتمع، وتوالي انتصاراته الانتخابية، نسي قادته أنهم نتاج مباشر للازمة الاقتصادية والسياسية التي انهكت تركيا طوال عقود وجعلتها في مهب رياح عاتية، أدت الى إفقار فئات متزايدة من المجتمع، ونقلت مراتب كثيرة منها الى ما تحت خطوط الفقر. كما غاب عنها أن الشرائح البرجوازية التي استفادت من الازدهار الاقتصادي، وأصبحت بفعل المصلحة، احد حواملها الاجتماعية، لن تظل في موقع الشريك السلبي او تتخلى عن خيارات سياسية اكثر تعبيراً عن مصالحها وتوجهاتها. ومن بين التناقضات التي حددت خيارات حزب العدالة والتنمية الإخوانية، داخل تركيا، ضعف قدرته على تنفيذ خطواته "الإصلاحية" ذات الطابع "الإسلامي، ليس بحكم سياج الامان التقليدي المتمثل بحراسة الجيش للنظام "العلماني الاتاتوركي"، ومقاومته لأي تشريع أو تدبير ينال منه، بل أيضاً نتيجة انحياز القاعدة الاجتماعية الجديدة إلى ذلك الإرث العلماني، بعد أن تصاعد دورها ونفوذها بفعل التطور والازدهار الاقتصادي وانعكاساته في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

ولم يجد حزب العدالة والتنمية في ظل هذا الوضع، سبيلاً لاختراق الحصار الذي يواجهه برنامجه الإسلامي "المُضمَر" غير التوجه شطر المحيط العربي والإقليمي، للتبشير بقيمه وأهدافه ونزعاته الإسلامية، وتقديم صورته "التركية" كنموذج للإسلام السياسي الوسطي "الحداثوي"، واعتبار ما يتحقق في ظل سلطته، معياراً برنامجياً للاسلام السياسي. وحاول الحزب إيجاد تربة صالحة في البلدان الإسلامية المنسلخة عن الاتحاد السوفيتي، ذات الأكثرية الناطقة بالتركية، ثم في البلدان العربية. وحرصت على تعزيز علاقاتها مع المحيط العربي والإسلامي، وتوظيف ذلك لتوسيع التجارة البينية والاستثمارات الاقتصادية التي كان لها اثر كبير في مراكمة النجاح الاقتصادي في تركيا، والارتقاء به الى مستوى يغري بالانضمام الى الأسرة الأوربية، وهو ما ظل هدفاً لحكومة اردوغان. وقد اثمرت هذه السياسة المنفتحة على الخارج نجاحاتٍ مشهودة، استندت إلى نموذجين متلازمين، اغراء النموذج الاقتصادي وما حققه من طفرات ونمو من جانب، والنموذج السياسي الجامع بين سلطة الاسلام السياسي ونظام الحكم المدني والدولة العلمانية، من جانب آخر.

واصبحت تركيا بفعل ما تقدمه سياسياً واقتصادياً، مثار اهتمامٍ دولي واحتضان عربي واسلامي، لما تجسده من نموذج يبدو كما لو انه "يفتي" بإمكان "تزاوج" سلطة سياسية يقودها حزب "إسلامي"، ودولة مدنية - علمانية! ومن الأهمية بمكان الاشارة في هذا السياق، الى زيارة اردوغان الى القاهرة بعد تنصيب محمد مرسي، والترحيب البالغ الذي قوبل به، ثم ما شهده توديعه من فتور وإعراض، بعد ان نصح الإخوان المسلمين بالحفاظ على الدولة المدنية، وتأكيده بعدم تعارضها مع سلطة الاسلام السياسي!

ان اردوغان الذي اسكرته الانتصارات المتتالية لحزبه في الانتخابات (او بتعبير ادق "غممت" رؤياه، لأنه لا يتعاطى الخمرة)، وأضعفت بصيرته، استقبل "الربيع العربي" بنشوة المتغطرس، اذ بدا له الأمر كما لو انها فرصته التاريخية، ليفرض نموذجه الاسلاموي في "تربة خصبة" خلفتها الانظمة المستبدة في تونس وليبيا المسكونتين بما يراه أداة وثوبا سياسيا. ثم وجد ضالته في الثورة المصرية التي اختطفها الاخوان، وعملوا طوال سنة من حكمهم على انتزاع "روحها" وتغييب تاريخها وتدمير دولتها العميقة، مستثمرين بذلك اكثر من ثمانية عقود من التنظيم السري، والتلاعب بمشاعر المستضعفين المصريين الإيمانية، والاحتيال على جموع الشعب التي لم تر غضاضة في التصويت للمرشح الإخواني كرئيس لها.

وجد اردوغان في تولي الاخوان للسلطة في مصر، اكبر إنجاز، وقاعدة وثوب لحلم ليلة صيفه، بإعادة بناء مجد الخلافة العثمانية، وتخليق سلطتها في الجوار والاطراف، واستخدامها منصات زحفٍ من الخارج الى الداخل التركي، وتسييج سلطة حزبه لما سيتوفر لها من نفوذ وقوة دعم، وتمكينه من فرض برنامجه "المُضمر" على الشعب التركي.

وكان التيه السياسي لاردوغان، البركان الذي هد سورية، والاعاصير التي اجتاحتها من كل صوب. في هذا التيه انزاح الهمّ عنه، ووجد في ما يجري على حدوده، امرا يحقق له تطلعه التاريخي بأقرب مما كان يحلم، فغرق في اوحالها على عجل ودون تروٍ وتدارس، وتوهم بأن الحدود المفتوحة مع جارته المهشمة، تحقق له انتصاراً سريعاً بلا كلف ولا نتائج عرضية، ولا اعباء تتآكل بفعلها صورته كنموذج، كلما ضاقت سبل النجاح. ولم يتنبه الى ان الحدود المفتوحة وما يترتب عليها، تتحرك بالاتجاهين، وان الفسيفساء التي تتجاور على طرفي الحدود تتغذى على ما يجري في البيئتين.

نسي اردوغان ان زمن الخلافة العثمانية، بنسختها العربية او الافغانية او الاخوانية، يتفسخ في مناخ التجاذبات بالتكفير والقتل والتدجين بين فصائل الادعاء الاسلاموي الباطل، فقام بتحويل الحدود التركية السورية الى ممرات آمنة "للجهاديين" القادمين من كل قطر ناءٍ بأسلحتهم ومعداتهم، ووضع "الحراك الوطني" السوري وتوقه لدولة مدنية ديمقراطية تتعايش في رحابها المكونات بتنوعها وتعددها بسلام، أمام مواجهة الموجة التكفيرية، للملثمين القتلة الأفاقين الذين يريدون فرض نموذج استبدادي يحكم بالموت على خبايا الضمائر. وضاقت بذلك سبل الخلاص، عربيا ودولياً أمام السوريين في وضع نهاية لمحنتهم، والعبور الى ضفاف الدولة الديمقراطية التي ينشدون.

وأدت عصبية اردوغان وهو يتابع مشاهد عزلة الاخوان المسلمين وخلع رئيسهم، وملاحقتهم بعد ثمانية عقود، من قبل المواطنين الذين خرجوا بالملايين وهم يطالبون برحيل دُمية مكتب الارشاد، الى فقدان ما تبقى له من توازن سياسي، فراح يستخدم، بدلاً من التعابير السياسية، المفردات التي حفظها عن ظهر قلب حين كان امام مسجد، دون ان يتوانى في آخر خطاب له قبل يومين، عن تشويه الحقائق حول حرق المساجد والمعابد والكنائس والمنشآت الحكومية والمرافق والمتاجر الخاصة، مقسماَ بالله بان من قام بذلك هم اعداء الاخوان، وشاتماً السيسي ومتوعدا اياه بعذاب الله في الدنيا والاخرة، وكأنه ينهي بذلك صلاة الجمعة التي كان يؤم بها مريديه.

تركيا الدولة الاقليمية القوية، لم يجد رئيس وزرائها السيد اردوغان غير "دولة قطر" كشريك فاعل يداري بحلفه معها، شعوره الممض بعزلة سياسته ونهجه في معالجة الازمات المحبِطة التي تضغط من الحدود السورية، وتأتيه رياحها من مصر، الدولة المحورية في التكوين العربي - الافريقي والاقليمي.

في لحظة فقدان توازن سياسي، وغياب وعي بدروس التاريخ، أضاع اردوغان وقادة حزبه، ما كانوا يتفاخرون به امام العالم، وبين العرب والمسلمين: أضاع المعادلة التي وضعها وزير خارجيته "صفر مشاكل"!

وأضاع بريق ما كان يسوقه من نموذج "إسلامي" للحكم، ولم يعد بإمكانه استثمار رصيده الداخلي في دعواته التبشيرية في الخارج.

وفي مواجهة هذا الطوفان الهائج، هل بإمكان حزب العدالة والتنمية تحمل خسارة غيره، وتصريف ما سيواجهه من اضطرابات وأزمات، على الهوية والتعدد الاثني والقومي والمذهبي التي لم يوفر طرفاً فيها من الاستفزاز، بل باتت هي الأخرى تتهيج وتنهض ملتاعة مما تواجهه، نتيجة حماقات السياسة الخارجية؟

هل سيسعى حزب العدالة والتنمية لاحتواء كل هذا الفشل، داخليا، بإعادة صياغة سياسته وخياراته؟

وهل يمكن تحقيق ذلك، تحت قيادة اردوغان وطاقمه المتخم بالفشل؟

 

المدى
العدد (2870) 20/8/2013


 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات