| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 19/3/ 2012                                                                                                   

 

معتصم عبد الكريم فنان شيوعي شهيد

نضال عبد الكريم

قزلر قرية كردية منسية في اقصى شمال العراق، لم يعرفها الا القليل ، وفجأة وقفت دورة الارض عندها ، ودخلت الجنة خالدة فيها بتاريخ 24 آذار 1980 ، باستشهاد خمسة شباب لا يملكون من الحياة سوى حبها ، لم يتعلموا فنون القتال وربما استخدموا سلاحهم لاول وآخر مرة في حياتهم ، اثر مواجهة عسكرية غير متكافئة بين مفرزة من انصار الحزب الشيوعي العراقي وقوات النظام الدكتاتوري السابق مستخدما طائراته وانزال عسكري كبير . معتصم عبد الكريم كان احدهم ، بلغ لحظة استشهاده 26 عاما .

حينما انسحب الجيش العراقي من قزلر هرع اهل القرية وفتشوا في الجيوب لاثبات هوية الشهداء ، الدماء لم تزل ساخنة ، وعند قلب معتصم كان هناك دفتر صغير ( استلمته بعد استشهاده ) غلافه من البلاستك ، وفي هذا الدفتر الصغير كتب معتصم اسماء القرى التي مر بها ، وكتب أيضا ( وفي احدى هذه القرى تجمع الاطفال حولنا ، فأخذتهم الى شجرة كبيرة ورسمنا معا وحفرنا على جذعها ) . وفي آخر ورقة كتب ( وصلنا الى قرية قزلر وتعني البنات الجميلات ، وهي حقا كذلك ) . تحت غلاف الدفتر الداخلي كان هناك ربعيّ دينار عراقي وهي كل ماكان ما يملكه .

معتصم كان طالبا في معهد الفنون الجميلة / قسم التشكيل ، اقام معرضيين شخصيين لاعماله في الكرافيك والالوان في بغداد ، عمل مونتيرا في جريدتيّ طريق الشعب والفكر الجديد .

معتصم كان مشروع شهيد واصبح كذلك ، لانه كان مبادرا في المهام الصعبة ومنها ايصال رفاقه المحاصرين الى جبال كردستان . كتب لي مرة الفنان النحات مكي حسين على قصاصات ورق صغيرة من كردستان يتحدث فيها عن خروجه من بغداد الى نوزنك مع معتصم ، وكيف حمله معتصم على ظهره لمسافة بين الجبال وطرقها الوعرة . كان بطبعه قليل الكلام ، هادئ ، ولكنه يراقب كل شيئ من حوله بحذر ، وهذه الميزة جعلته ينجح في انقاذ مجموعة من الرفاق وتوصيلهم الى كردستان . كتب صديقه الفنان هادي الخزاعي ( سمعت بمآثره الصامته ، أذ كان معنيا بنقل البريد الحزبي من مقرات الأنصار الى الداخل وبالعكس ، كانت مهمة لا تشبه أي مهمة اخرى ، وكان ناجحا في مهمته ، ربما لأنه كان مقلا في الكلام ، ومتجنبا الحديث عن نفسه ) .

كان هو الاخ الذي يكبرني مباشرة، وعن طريقه فقط سمعت لاول مرة في حياتي الفرقة السمفونية العراقية في قاعة الشعب ، لم أفهم ماذا يعزفون ولا اسماء اللآلات ، وكنت مرتبكة المشاعر لهذا الجو الجديد الذي وضعني فيه ، لانه كان فنانا شاملا ، يحب الموسيقى ويتذوقها ، وقارئ جيد ومتنوع القراءات الثقافية والسياسية .
وعن طريقه ايضا دخلت المسرح وتعلمت كيف واين أقف على خشبته ، وتعهد لوالدنا بتوصيلي كل مساء بعد انتهاء العرض المسرحي الى البيت ، وهكذا على مدار شهور وسنوات .

عند اشتداد هجمة اجهزة النظام الدكتاتوري ضد الحزب الشيوعي العراقي ، رفض فكرة السفر والخروج من العراق ، وكان يقول : لم يخرج فهد وسلام عادل اثناء اشتداد الهجمات ضد الحزب ، وواصل عمله النضالي في جريدة طريق الشعب الى آخر لحظة قبل اقتحامها من اجهزة الامن عام 1979 ، وانتقل بعدها الى ذرى جبال كردستان لبدء مرحلة وشكل جديد من النضال .

احتفظ والدي بخبر استشهاد معتصم عن عائلتي الذي بلغه من الحزب الشيوعي العراقي ، وبالأخص عن والدتنا لعلاقتها المتميزة مع معتصم ، لانه الابن الهادئ وغير المشاكس والخدوم ، على خلاف اخوتي الاربعة الآخرون . سافر والدي خلسة الى السليمانية ونقل رفاته من مقبرة البلدية الى مقبرة شيخ محي الدين في السليمانية ، وتوفيت والدتنا وهي تعلم ان معتصم يدرس الرسم في ايطاليا ويبعث التحيات شفاها ، خوفا عليهم من اعين اجهزة الدكتاتورية ، وبعدها ابلغهم بالأمر .

بعد بضعة أشهر التحقت انا ايضا بحركة الانصار وحملت السلاح ، مع رفيقات ورفاق آخرين ، للنضال ضد الدكتاتورية ، وواجهنا الموت وجها لوجه أكثر من مرة ، وفي معركة بشت ئاشان كنا نصعد جبل قنديل المغطى بالثلج على قوة غريزة البقاء ، وفي كل مرة نهرب من الموت باعجوبة أو صدفة ، تصبح الحياة بعدها أرق واجمل. ولكن معتصم لم يستطع الهروب من ستمائة جندي وطائرات مقاتلة .

كتب الشاعر عبد الكريم كاصد ( ان فناننا لا يخوض الحياة بل الموت ايضا ، لا يخوض المعرفة بل جهل الآخرين بحياته وموته وسط عذابه اليومي وعذاب حلمه البسيط ، وكأن مصير معتصم هو مصير الجميع ، فنانين وادباء ) .

في ذكرى استشهاد معتصم فأن النسيان ليس بنعمة بل خيانة .


كوبنهاكن آذار 2012

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات