| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 19/1/ 2011

     

عودة الى النوستالجيا

غني البيضاني

( لندع روما في نهر التيبر تذوب ).
هذا ما
قاله مارك انطوني من اجل ان يموت مع معشوقته كيلوباترا..

لكن هنا، في هذا المكان المفعم بالغموض، لا يوجد اثر لروما، ولا الى نسمات عشق كيلوباترا السابعة، هنا ايها السادة، ليس اكثر من ارواح تئن وتنتحب، ثم تنهض وتتحدى، في مسرحية مضحكة، مضحكة جدا.. جدا بقدر ما فيها من احلام ومآسي، وجدا بقدر ما فيها من جنون وخديعة، وما فيها من انتظار ينهش العقل والجسد.

هذه المسرحية بطلها مجهول، وافقها مجهول، وشيطانها مجهول، انها الشفرة التي لا يستطيع احد فكّ المغاليق فيها.
فلما توارى الشفق وراء الاعالي، وكلٌ انصاع لوهنه، دبتْ فجأة في الارواح قشعريرة، وتسربتْ الى الذاكرة ضجة الليالي المزدحمة، والعشق الملائكي، ذلك الذي كان ازليا ومطلقا في لحظة اطلالته الاولى.
تلك هي رجفة الاحساس باقتراب الموت، وذلك هو الغياب الاخير، اما الذي حصل فنحن ما زلنا احياء، وكيلوباترا ماتت، وروما اثر بعد عين.

الوطن كلمة فضفاضة، جغرافية ضائعة، وناس غابت عنهم ملامحهم وامتزجت في الغبار، فكان ذلك الحوض المسوّر بالقمم هو الوطن الذي نعشقه، الوطن الذي نُدفن فيه دون ان نترك كوة لدخول الشمس.
من تلك البقعة التي تثير العجب في نفوس الذين يتأملونها، يتدفق الجمال كما يتدفق الفرح في وجه عاشقة، في ذلك المكان ينهمر ضوء الخريف الجميل وعتمته القاتمة في آن معا.
بساتين على السفوح، اشجار خضراء واغصان طرية تبتسم للنسيم، ينابيع تفيض صفاءا، طيور تحلم، وشباب مقاتلون يشهرون الحب سلاحا.

لكن القدر ليس واحد في اي مكان، فاغتاض من هذه البهجة التي تملأ الوادي وقرر قتلها، فارسل اليها طيرا ابابيل ترميهم بالقنابل المسيلة للدموع، وقنابل خاصة تحرق العيون، وقنابل اخرى تعمي العيون.
المشهد اتراجيديا، لكنه ليس على خشبة المسرح، لم نشاهده على شاشات التلفزيون مثلما شاهدنا يوم الحادي عشر من سبتمبر، وليس تسونامي مخيف، ولم نقرأ عنه في كتب التاريخ كما لو انه اطلال باقية لهيروشيما.
الذي حدث بسيط للغاية، طائرات مقاتلة تحوم فوق الوادي، هديرها يثير الضحك والسخرية، قذفت بشحنة التموين وهربت، ولاننا جياع فقد تسممنا من التخمة وبدأت السموم بتمزيق اجسادنا.
المشهد كان هنا، على هذه الصخور، وتحت شلالات متين، على حافة الزاب، وفي هذه الاحشاء التي بدأت تنزف قيحا.

تقاطرت الصور، تسللت الى الهياكل المحطمة، والى الاذهان العنيدة التي مازالت تأبى الاستسلام، ولكن كل شئ بات دون ملامح واضحة، وكنا نبحث عن البخور لتعطير جنائزنا.
والذنب الذي ارتكبناه هو اننا نحلم بسماء مضاءة بالنجوم، وفضاء روحي لانسان عراقي تعب من تناسل الحروب، حروب تموت وحروب تولد بسرعة، حروب تحرق السماء وحروب تدفن الحياة، وكل هذه الحروب مرت على اجسادنا ونحن نيام، اطاحت باحلامنا من شدة اهوالها وقسوة ادواتها.

اشحتُ بوجهي وكنت ابحث عن بعض الوجوه التي غابت عني في زحمة الصراع من اجل تحديد المصائر، فابصرتُ رجلا، ادهشني هدوءه، وحيرتني دموعه، ولا ادري ان كان يبكي على الجرحى والشهداء ام انها دموع القنابل، ولكني متأكد بانها اختلطت مع بعضها.

هذا الرجل العملاق المولود تحت هذه الظلال الداكنة، تسلق الحافات الحادة من اجل ان تنام القوش بهدوء ومن اجل عراق لا يصل اليه النحيب، انه المناضل توما توماس.


 

free web counter

 

أرشيف المقالات