| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                 الثلاثاء 19/2/ 2013

     

الثامن من شباط الاسود
جرحٌ لا ولن يندمل

فاضل فرج خالد

في ذاكرتي ان بدايات عام 1963 شهدت سجالاً متشنجاً على صفحات صحيفة ( صوت الاحرار) بين البعض من كتابنا وادباؤنا التقدميين الناشطين وقتها في المجال الاعلامي والادبي ومنهم الراحل (عدنان البراك) واسماء اخرى وكان محور هذا السجال يدور حول (هل ان عام 1963 سيكون عام نحس وشؤم ام عام سعد وانفراج على مسيرة الوطن الديموقراطية).

ان ذلك في وقته جعل قلوبنا تنقبض وعكر المزاج العام لنا نحن الذين كنا نأمل خيرا وولد في قلوبنا شحنة من التشاؤم . ومما زاد الوضع ارباكا ان الاخبار اخذت تأتينا من بغداد نحن سكنة المدن القريبة او البعيدة عن العاصمة(وكنت وقتها اسكن مدينة الحلة وادرس في ثانوية المحاويل) بأن قوى الردة قد بدأت عمليا واعدت العدة للاجهاز على ثورة الرابع عشر من تموز 1958 فافتعلت حادثة معينة مع نجل رئيس (محكمة الشعب) الطالب في الثانوية الشرقية في بغداد لتتخذ من ذلك الحادث المفبرك وسيلة للقيام باضراب طلابي لطلبة جامعة بغداد وثانوياتها من اجل ارباك الوضع العام وللقيام بتآمرهم والقضاء على السلطة الثورية القائمة .

وكنا وقتها منغمرين في استعدادتنا نحن قطاع التعليم في التهيؤ لانتخابات نقابة المعلمين التي ستجري في شباط من ذلك العام فكانت اجتماعتنا تمضي على قدم وساق من اجل جرد القوى المؤيدة ل (قائمتنا المهنية الموحدة) وكذلك التوجه والتحرك نحو الوجوه التقدمية والمقبوله في اوساط المعلمين والمدرسين الذين سيتم ترشيحهم كأعضاء في القائمة المهنية  .

وفي يوم الجمعة الاسود وهو يوم الثامن من شباط 1963 وبعد الساعة التاسعة والدقيقة العشرين من صباح ذلك اليوم المشؤوم انقطع بث اذاعة بغداد وتوقعنا ان ذلك كان بسبب انقطاع الكهرباء ولكن سرعان ما عاد البث الاذاعي ولكن بدأ صوت اجش يلثغ بحرف الراء بقراءة بيان انقلابهم الغادر ولتبدأ بعد ذلك حمامات الدم ومجازرهم الوحشية التي عمت الناس المخلصين الشرفاء الذين آمنوا بالمباديء النبيلة التي جاءت بها ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة ودافعوا عنها بكل بسالة ونكران ذات  .

وعندما سمح بدوام المدارس يوم الاثنين 11/2 والتحقت بمدرستي ثانوية المحاويل تم اقتيادي منها في ذلك اليوم بواسطة ثلة جبانة من حرسهم اللاقومي حيث ادخلت معتقل شرطة المحاويل ثم نقلت الى سجن الحلة والذي افرغ منه جناح على شكل رواق ضيق وزج بنا نحن الوجبة الاولى من موقوفي مدينة الحلة والاقضية والنواحي التابعة لها وحشرنا في ذلك الرواق وكان عددنا يزيد على 300 شخصا جلهم اطباء ومهندسين ومدرسين ومعلمين وذوي مهن وكفاءات اخرى وفي مقدمتهم رئيس غرفة تجارة الحلة وآخرون من الشخصيات المعروفة في المدينة والمدن الاخرى التابعة ، وامعانا بالاذلال فقد خصص مرفق صحي (تواليت) واحد تابع له، لهذا العدد الكبير من الموقوفين فقد كان احدنا يحتاج الى نهار كامل حتى يصل دوره الى ذلك المرفق الوحيد ومما اتذكره بهذا الصدد ان معلما من الموقوفين معنا قد كتب قصيدة شاعت بيننا لوصف معاناتنا حيال الدور ( السرة ) للوصول الى المرفق الصحي الوحيد الملحق بالرواق وكذلك عدد المرات التي يقوم بها شرطة السجن لتعدادنا وجلوسنا ارضا او ما يسمى ب (المسطر) ويقول مطلعها  :

روحي تظل متحيرة    ما بين مسطر والسرة

ومما اتذكره ونحن في ذلك الرواق ليلة ان استدعي الرفيق الباسل ( شهيد محمد سعيد خوجة نعمة ) من مناضلي مدينة الحلة لاجراء التحقيق معه (وكان منامه قريبا من منامي) فانتصب واقفا ساعتها مودعاً ليقول وباعلى صوتهّ
رفاق الوداع ...! انا ذاهب للتحقيق ولن ادلي باي اعتراف للقتلة الاوغاد... حتى لو تطلب هذا ان اضحي بحياتي، وفعلا ذهب ولم يعد.... لقد ضحى بحياته تحت تعذيب الجلادين الاوباش ، وسجل صموده موقفا بطوليا لن يمحى من ذاكرتنا ابد الدهر  .

ويوما بعد يوم يحشر معنا اعداد اضافية من خيرة ابناء شعبنا جيء بهم من المحافظات المجاورة ومدنها ككربلاء والنجف مما اضطرهم الى نقلنا الى جناح واسع من اجنحة السجن توزعنا على غرفه العديدة والتحقت انا بغرفة ضمت ابناء مدينة (المدحتية) البواسل تلك المدينة التي احتضننتني في طفولتي وشبابي وارضعتني حليب الوطنية والثقافة التقدمية ، ولقد عشت بينهم معززا مكرما وسادت بيننا في تلك الغرفة الروح الرفاقية التضامنية .

ومن المشاهد التي لن انساها ماعاناه المربي الفاضل الاستاذ ( حسين صالح ) من تعذيب وحشي والدماء تسيل من مناطق جسمه كافة، بعد كل جلسة تحقيق معه ، وكل جريرته انه استضاف في بيته لعدة مرات ممثل الهيئة التحضيرية لقائمتنا المهنية وممثل قائمتهم المتآمرة من اجل تقريب وجهات النظر بحيث قد يؤدي ذلك الى اتفاق وخوض الانتخابات المقبلة لنقابة المعلمين بقائمة موحدة والتي لم تنته الى تحقيق ذلك الاتفاق نظرا لما عرفوا به من حقد ولؤم وخبث طوية .

لقد بنوا حدسهم على ان موقفه هذا يعبر عن مستواه التنظيمي الرفيع في الحزب رغم انه في واقع الحال بعيدا عن تصوراتهم الحاقدة على شخصية تتمتع بسمعة واعتزاز كبيرين بين اوساط الاسرة التعليمية لشخصية المربي الاستاذ الفاضل (حسين صالح) لقد عانى العديد من الذين شملتهم جلسات التحقيق تلك صنوفا من العذاب والهوان تقشعر لها الابدان عند تذكر واسترجاع تلك المشاهد .

ومما اتذكره ايضا عن تلك الايام السود انه عندما ذهبت للتحقيق معي في مقر الحرس القومي عجبت لطلب القائمين بالتحقيق معي ان اقوم لهم بضبط افادة احد الفلاحين الذين كانوا قد اعتقلوه بتهمة الانتماء الى الجمعيات الفلاحية، ولكني رفضت ذلك الطلب الذي ان دل على شيء فانما يدل على غبائهم وجهلهم الفاحش وتخبطهم بامور كهذه .

لقد امضيت قرابة الثلاثة شهور في التوقيف اطلق بعدها سراحي بكفالة شحص ضامن ، وبعد حوالي اسبوع من اطلاق سراحي وعندما كنت في احد اسواق الحلة للتبضع احاطت بي ثلة من حرسهم غير الشريف وطلبوا مني ان ارافقهم الى مديرية الشرطة وبعدما وصلنا المبنى المقصود سلمني واحد من الذبن اعتقلوني الى احد ضباط امن المديرية المذكورة قائلا له (ان هذا الشخص ويقصدني انه كان مسؤولا المنطقة الجنوبية للحزب الشيوعي فكيف يطلق سراحه) ويبدو ان ضابط الامن هذا كان شريفا فقد طلب منهم الانصراف ليتدبر هو امري وفعلا اتصل بادارة سجن الحلة وهاتفهم هل توجد ادلة جرمية ضدي، فنفوا ذلك عندها طلب ذلك الضابط مني الانصراف والعودة الى البيت. لقد استمروا في جرائمهم بحق الشعب وقواه المناضله حتى اختلفوا فيما بينهم فدبر عبد السلام عارف انقلابه في 18 تشرين الثاني من ذلك العام وقضى على سلطة ذلك الحرس الفاشي  .

 

free web counter

 

أرشيف المقالات