| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                             الثلاثاء 19/2/ 2013

 

بين عزيزين

عدنان اللبان
Wz_1950@yahoo.com

السياج الخارجي للبيت يرتفع عن الشارع قليلا والبوابة تكفي لدخول شاحنة صغيرة الحجم , عند الدخول تظللك قمرية عنب توصلك الى طارمة وضعت فيها عند المدخل الى البيت اريكتا خشب وبعض الكراسي , جلس عند الباب شاب ملتحي يحمل بندقية , ترك الكرسي عند دخولنا ووقف عند السياج الخارجي . لم يمض وقت طويل وعاد الذي اصطحبني وقد تغيرت سلوكيته بالكامل واخذ يعتذر لأنه لم يعرفني , وبدل البندقية التي كان يحملها يحمل صينية فيها استكان شاي وقنينة ماء وضعها على الطاولة الصغيرة امامي , وسألني ان كنت ارغب بشئ ؟

شكرته , وأكدت :  اريد فقط ان ارى مسئولكم .

مثل ما تريد , اجابني : يكمل شغله بيده ويجيك .

تغيّر سلوكيته اعادت لي بعض الاعتبار , وقدرت ان احد المعارف في المقر شاهدني من خلف زجاج الشباك واخبره بشئ جعله يحترمني .

كان معي في السيارة صديقي عباس , توقعت ان لا يتركني وحدي عندما انزلتني المفرزة .

كان يدافع عن حقيقة تملكته , واقسم بالله العظيم انه : متأكد من ان سيد حسن عند شارة , لو جني .

سألته : هل رأيته ؟!

لا, اجابني بانزعاج : شلون واحد يشوف جني ؟! لو تريد تتمسخر ؟

اجبته : اريد اعرف انت بأي طريقة تأكدت ؟! لو غيرك حاجيها اكَدر استوعبها , مو انت .

عباس : ذهبت اسأله من يكون الذي سرق المئتي الف دينار من زوجتي وهي في البيت ؟!

سألني : من دخل البيت في ذلك اليوم ؟

اخبرته : اربعة , وعددت له اسمائهم .

أجابني بانفعال بعد ان عمل بعض الاشارات وتحدث بكلمات لم افهمها : وليد , وليد , ابن اختك وليد .

وعندما جئت بوليد اليه , وليد تفاجأ واخذ يرتجف من الخوف , وسأله بصوت آمر :  وين الفلوس ؟؟؟

وليد تلعثم واخبره بأنه صرف منها اربعين , واخرج المئة والستين الباقية .

سيد حسن معلم , وسمعت بعد ان رجعت الى العراق ان والده رحمه الله كان يشور , وقد كنت اعرف الوالد جيدا( الهبري كاتله ) كما يقول العراقيون  وعايش على الصدقة , ويبدو ان سيد حسن استورث ( شارة ) الوالد بعد ازاحة النظام الصدامي , ومنها (عرف ) ان السارق وليد , ووليد طالب في الصف السادس الابتدائي عند سيد حسن في المدرسة , ويسكنون في ذات الشارع .

ضحكت وهززت يدي .

اجابني بعصبية : والله لو تشوف الجني بعينك هم ما تصدكَ .

لم اعد ادرك الوضع , عباس ما الذي جرى له وأصبح يؤمن بالشارة او بالجني ؟! كان لاعب كرة قدم , وكثيرا ما يسألني ابني الذي يحب اللعبة عن امكانيات عباس الفنية الكبيرة التي حدثته عنها  , ابني قدم من العراق وهو طفل , ولرغبتي في تنمية مشاعره بحب العراق اذكر له الكثير من الذكريات الجميلة مع عباس , وفي بعض الاحيان اكذب واختلق حالات اعرف انها ستغرس وتنمو في ذاكرته , وتجعل من العراق اجمل ما موجود في الوجود . ابني يلح عليّ          بالذهاب الى العراق .

يسألني : لماذا ذهبت انت عدة مرات ؟ ولم تدعني اذهب معك لمرّة واحدة ؟!

ومن الصعوبة عليّ ان اعترف له ان الوضع الآن اسوأ مما كان عليه الحال مع صدام بسبب الاحزاب الدينية وهذه المليشيات الطائفية , وماذا سيقول عندما يراني بوضعي هذا ؟!

عباس كان يرغب بدخول الكلية العسكرية , ولكونه ليس بعثيا رفض طلبه , وعندما كان في السنة الثانية كلية الهندسة كان البعث يخطط لبناء مؤسسة التصنيع العسكري الضخمة , فعرض على جميع طلاب كلية الهندسة ان يقبلوا ضباط برتبة ملازم اول  وراتب من اول يوم اذا قبلوا ان يسجلوا بعثيين . رفض عباس , وسيق بعد التخرج جندي مكلف , وفي الحرب مع ايران سحبت مواليده لخدمة الاحتياط , انفجرت بالقرب منه قنبلة ودخلت شظية كبيرة في جهة اليته اليمنى , ويبدو انها كانت ملوثة مما ادى لاستئصال جزء كبير من اليته .

صديقنا الخياط خضير يقول : آني تك عين يسموني اعور , تك رجل يسموه اعرج , انت شيسموك ؟ تك فردة ؟ لك هاي حتى بالقاموس ما موجودة , حيرتني شلون راح افصل بنطرونك .

ابني يرتاح كثيرا عندما انقل له اجواء الالفة هذه , وتبقى التعليقات الساخرة عالقة في ذهنه .

نظرت الى ساعتي , مضى اكثر من نصف ساعة . كان البعثيون يذلون من يستدعونه للمنظمة او لدائرة الامن بالانتظار لساعات , وبعض الاحيان يصرفونه بدون اي سؤال ويطلبون منه القدوم يوم آخر . ويبدو ان الجماعة تدربوا جيدا على ايدي البعث , والصانع مثل ما يكَول المثل يصير ستاد ونص .

الشاب الذي فتش السيارة سألني : شنو هذا حجي ؟!

اجبته باستغراب : ويسكي , ما شايف ويسكي ؟!

الشاب : اعرف , شلك بيه ؟

سألته : قابل اتشطف بيه ؟ اشربه .

ضحك مع ضحك الجالسين في السيارة , وأراد ان يسمح لنا بالذهاب , الا ان آمر المفرزة الذي جاء بي الى المقر لم يكن بعيدا , وقد استفزه الضحك وعرف بوجود الويسكي فقال بغضب : وجماله تصنف ؟! بهذا العمر وتشرب ؟ بيا وجه راح تواجه ربك ؟! ما تعرف احنه منعنه كل الشرب بالولاية ؟

اجبته : هو لو موجود بالولاية ليش اجيب من بغداد , بعدين انت شنو علاقتك بيا وجه راح اواجه الله ؟! كل لشه معلكَه من كراعها . انت حاسبني اذا اكو قانون يمنع الشرب ؟!

لم يتحمل الجواب فصرخ بوجهي : احنه نمنعه , انزل ( وسحب كيس الويسكي ) , انزل اكَلك ( سحبني بشدة ) . وأمر السيارة بالذهاب .

عباس يجلس بجانبي , وعندما انزلوني ادار وجهه الى الجهة الثانية وكأنه لا يعرفني , وماذا يمكن ان يفعل ؟ احترم نفسه قبل ان يهان مثلي .

سيؤنبني عندما يراني : الم اقل لك ان لا تحمل انت الويسكي ؟ نتفق مع سائق يخفيه لان الجماعة يفتشون , بس انت ما تأخذ كلام .

والحق انه قال هذا , ولكن بدون اصرار , ولو تيسر سلامة القنينتين لما شربت غير نصف قنينة , وهو سيشرب القنينة والنصف الاخرى . عباس يقول انه لا يشرب , ولكنه يشاركني في شربي لأنه لا يريد ان اشعر بالوحشة , رغم ان الطبيب منعه من الشرب الا انه يخاطر لأجلي . عباس صديقي منذ الطفولة , وفي قدومي الاول بعد ازاحة نظام صدام لازمني مثل ظلي , علاقتي بأهل مدينتي تعمقت اكثر رغم اني فارقتها لخمسة وعشرين عاما بين الاختفاء والأنصار في كردستان والغربة , ولم يبق من اهلي في المدينة غير شقيقتي التي اسكن عندها , اقربائي وأصدقائي هم اهلي الحقيقيين , وتتالت الدعوات من المعارف , عباس لم يتركني وحدي , وتولى تعريفي بكل من شقت عليّ معرفته من اول وهلة , كان حريصا على ان لا احرج بتحية الاحبة التي اكلت سنين البعث الطويلة نظارتها , ويوصيني باستمرار : ان لا اذهب وحدي .

خرج من احد البابين آمر السرية الذي عرفني باسمه (عامر) بعد ان صافحني وقبلني , اعتذر عن التأخير , واخبرني ان عباس اتصل به واخبره بضرورة اعادة القنينتين .

وأضاف : استاذ يمكن ما عرفتني , آني جنت طالب عندك بثانوية العزة .

 ثانوية العزة في الجانب الثاني من الكوت , والعزة افقر احياء الكوت .

اجبته : يا اهلا وسهلا , بس اريد اسألك اكو مادة بالقانون تمنع الشرب ؟!

عامر : والله العظيم افهمك استاذ , شتسوي ؟! ( خفض صوته وأشار الى الغرفة ) عقلهم هذا , يا قانون يا بطيخ ؟ شفتك من الشباج وسألته لهذا الجابك  " المن جايب ؟ لك هذا الوكَف بوجه صدام من جنه كلنه طليان , لك هذا ابونا كلنه "  احسبه عليّ ولا يبقى بخاطرك استاذ (و قبلني ) .

علقت : والله ما اعرف شكَلك , تعرف هو هذا شلون جرني من الياخة ونزلني من السيارة !!

عامر : ابوسهه لأيدك استاذ على كيفك ( خفض صوته الى اقصى حد وسحبني الى الباب الخارجي ) هذولة ما تعرفهم , هذا الجابك نفسه جان يركض وره الناس يطوعها بالجيش الشعبي , والعالم صاحت الداد منه , سقط صدام تاب وسجل ويه الجماعة , وباسم الدين ما بقه شي يعتب عليهم . المهم استاذ , بعد صلاة العشه البطلين اذا الله سهل آني اجيبهن  للبيت ,( قبلني ) ودعته وذهبت .

اعتقد لولا الويسكي لما توسط عباس عند عامر , اكد له على قنينتي الويسكي كما يقول عامر . عند قدومي الاول في بداية السقوط عام 2003 كان يسألني عباس عن وضعي , وكيف قضيت هذه السنين الطويلة ؟ كانت رنة صوته تشي بالحرص والقلق كما اعتقدت , وعندما احدثه عن الاشكالات التي واجهتنا في الانصار عندما كنا في كردستان , او الصعوبات في الغربة , يرخي اجفانه , ويشعرك بتعبير وجهه ان لا طاقة له بسماع هذه المآسي . كان حريصا على معرفة عملي , وكم اكسب , وهل ادخرت شيئا يفيدني بالاستثمار في العراق ؟ ولتلطيف الجو يسألني : كيف اتمتع بجمال السويد والدول الاسكندنافية ؟ ويكملها بحسرة : خوما مثلنه . كان يأمل ان يكون معي مبلغ محترم كي نبدأ سوية بمشروع مشترك , وهو يمتلك علاقات جيدة مع الاحزاب الشيعية ويمكن ضمانة الفوز بالكثير من المقاولات . الا انني خذلته , وخاصة حينما اكدت له باني لا املك حتى بيت اسكن فيه , بل اسكن بالإيجار .

كنت انقل لوعة عباس وقلق نبرته الى ابني , ابني قدم الى السويد طفلا وأصبح عباس بالنسبة له العراقي الشريف الذي يتمثل به لكثرة ما حدثته عنه , كنت انفي عن عباس جميع الصفات التي تعوّد ابني من خلال تربيته في السويد  على رفضها  , فهو لا يكذب , صريح وصادق , ولا يسأل عن حجم الراتب , ولا عن الدين , او القومية , ولا عن من انتخب من الاحزاب , ولا اين تقضي اوقات فراغك , ولا عن تفاصيل حياتك , والحرية الشخصية مقدسة بالنسبة اليه . وفي نفس الوقت كانت تجري في عروقه الحنية والانتماء الى الجماعة ( اصدقاء , رفاق , ابناء طرف , عراقيين ..) اكثر من الاستقلال الشخصي . صورت له اسئلة عباس اشبه بالحنايا التي تحمل غطاء الكوخ , وكم كان اعتزازه بهذه الحنايا بعد ان شرحتها له . اكدت له ان عباس صديقي قبل اكثر من ثلاثين عاما , وعندما يسألني عن تفاصيل حياته الحالية , اجيبه بالذي اعرفه عنه سابقا , وكم احرجني بأسئلة معاصرة عنه , والحقيقة اني لا اعرف الآن عن عباس كثيرا , فهو لم يوضح لي وضعه وإمكانياته الحالية , ولكني عرفت ان بيته الكبير الذي يسكنه هو ملكه , وعندما سألته عن شريكه الذي يعمل معه في اخذ بناء بعض البيوت تهرب ولم يجبني , ولكني عرفت انه يعمل مع ابنه المهندس ايضا.

جاء عامر بقنينتي الويسكي , وجلسنا انا وعباس نحتسي سوية . عباس اعز اصدقائي  وكم بذلت من جهد كي اديم تصوري لعلاقتنا السابقة , وكم كذبت على نفسي  وعلى ابني عندما احدثه عن تكافؤ علاقتنا ورفقتنا السابقة على انها مستمرة الى الآن وبنفس الروحية , وكيف كان الوفاء للرفقة والحزب اقدس شئ , وكم ذكرت له من الرفاق الذين دفعوا حياتهم ثمنا في التعذيب كي لا يكشفوا اماكن اختفاء رفاقهم . المشكلة ليست بالعصابات والمليشيات والوضع الامني الذي اتحجج به لابني كي لا يذهب , فهذه كلها ستنتهي , ولكن كيف سيفهم حقيقة عباس ؟! وكيف ان عباس قد تجرد عن الكثير من براءته حاله حال الكثير من العراقيين , وبدل الاثرة التي كانت تسيّره اصبح الاستئثار هو الذي يحركه . . كيف سيحتفظ ابني بعمق مشاعره ونبل رغبته بالعودة الى العراق؟

اوصلت لعباس في لحظة غضب تملكتني بكوني لست غشيم , وقد تكون بسبب تأثير الشرب : باني رغم ابتعادي عنهم طيلة هذه الفترة الطويلة , الا اني افهم وضعيتهم جيدا , وأدرك الانحطاط الذي وصل اليه المجتمع  , الضحالة , والبخل, والكذب , والجدوة , سمات عامة ومشتركة بين الجميع , ونادر من استطاع الخلاص منها وحافظ على جوهره .

 نظر في عيني طويلا , وأخذت ملامحه تتلبد وخفض بصره , لزم ذقنه بيده اليسرى ورفع وجهه , كانت المرارة تنهش ملامحه , احتقن وجهه ولم اره بهذا السمار , ندمت , اردت التراجع , ولكني عجزت عن الكلام , وفهم الكلام جيدا انه موجه  اليه, كان نظره قد تجمع بشعاع عله يساعده في حفظ كرامته .

 خفض بصره , وبصوت بالكاد يسمع : والله العظيم ظلمتني .

وتناول كأسه وأفرغه كاملا في جوفه ,وتناول القنينة وملئ كأسه دون ان يضيف له قطرة ماء , رفعه , ولم يتمكن من افراغه بالكامل , اعاد نصفه الى الطاولة , لم يتناول ولا حبة فستق واحدة , انتظر لتهدأ هجمة الكحول  . افرغت كأسي وتشاغلت بإعادة تهيئته .

 وبصوت متقطع لم اعرف هل هو بتأثير الشرب , ام اراد ان يوحي بعمق المرارة التي تملكته : صار لي .. اكثر من عشر سنين ( ورفع يديه بأصابعه المفتوحة ) .. ما حاط هذا القز القرط بحلكَي .. تعرف اني لخاطرك اشرب .. ما اريدك تشعر بالوحدة .

اجبته : اعرف , كل الزين اعرف .

رفع يده بحدة وقاطعني : ارجوك , ارجوك خليني اكمل .آني اللي اعرف انتوا تختلفون عنا , لان انتوا عشتوا حياة طبيعية رغم كل العذابات اللي شفتوها , لا تكَلي احنه ناضلنه وتأذينه اكثر منكم  .

نظر في عيني مباشرة : لا , احنه ما سكتنه , احنا حاولنا , الأمريكان  , الامريكان مو غيرهم صدكًنه همه ضده من طلعوه من الكويت , والله سقطناه , لكن بخيمة صفوان رجع ابنهم  . تكَدر تفسر لي ليش الامريكان منعو العراقيين بالانتفاضة , وبحجة ايران ؟ تعتقد لو ناجحه الانتفاضة تكَدر ايران تلعب بالعراق مثل ما تتلاعب بيه اليوم ؟!

وبصوت جازم وحركة قاطعة من يده : آني اكَلك لا . صدام مو هو المشكلة بعد تحرير الكويت , الامريكان , الامريكان بعد ان ثبتوا بالحكم  فرضوا الحصار , الحصار اللي هشم كل شي ماكَدر يهشمه صدام , صرنه لعبه بأيدهم  , مثل ما يردون يلعبونه  و دتشوف بعينك الوضعية .

لم اتمكن من السيطرة على نفسي فطلبت منه : ان لا يضع كل شئ في راس الحصار مثل الآخرين .

اجابني بعد ان افرغ كأسه سريعا  : واعرف هم راح تكَلي اعرف الحصار . نعم تعرفه , لكن المعرفه شي والإحساس بيه شي آخر.

يكمل بعصبية : تعرف شيصير بيك وابنك يسألك من يشوف موزة وعمره اكثر من عشر سنين : يابه هم ماكل موزة ؟!

تجاوبه : نعم .

يسألك بلهفة : شلون طعمها ؟

تكذب عليه تكَله : مو حلوه . وحيرتك تنسيك حتى علاقاتك بأعز اصدقاءك .

وزعوا طحين ما اعرف شمخبوط , الخبز ماله اسود , بعد اقل من ساعة  اختلق الف حجة حتى اطلع من البيت , بطني راح تنفجر , وبحجة اتمشى اصرف الغازات لان اخجل اطلع اي صوت وتسمعني مرتي وجهالي , همه يعرفون ليش اطلع لان عدهم نفس المشكلة . هذا بالبداية , اجه الشته والخجل يوم عن يوم قل , والغرفة بعد كل ربع ساعة نضطر نشيل البطانية اللي بمكان الباب قبل ما نختنك , لان الباب بعناها , اطفالك وزوجتك يخجلون ان يتلفظون بأسماء الغازات بصوت وبدون صوت لان يعرفون انت تنحرج . تعرف ؟ اطفالنا مو اطفال غيرنا يبوكَون من عدنا حتى ياكلون , واكو آباء ياكلون بغفله عن اطفالهم , تعرف النسوان شيسون حتى يعيشن اطفالهن ؟! معلمين وأساتذة جامعة يبيعون اسئلة الامتحانات النهائية , ضباط امراء وحدات يبيعون اجازات للجنود , مدراء شرطة يتقربون للبكَاكَيل على كيلو مخضر , والبكَال صار الطبر ما يكص خشمه  . نذّلينه , كرامة ما بقت عدنه , حتى الولد كبروا وهمه ما يعرفون يشترون حاجة لنفسهم , لان آني وأمهم المعلمة لازم نحسب كل فلس من تقاعدي وراتبهه وما نشتري شي الا اللي يبقينا على قيد الحياة .

اردت ان ادفعه لتغير الموضوع  : حتى الكَعده سويتهه عزى .

نظر في وجهي , واجبر نفسه على ابتسامة لم تتمكن من تغطية تقلصات عصبيته , فتشوه وجهه بشكل مؤلم , واخرج صوتا لا هو بالأنين ولا هو بالضحك , وقال : اريد اضحكك , بس لا تحسبهه على الحصار .

لا يمعود  , الله وأيدك .

ابني , ابني الصغير بالألفين ما نقبل بالمدرسة لان ما مكمل الست سنين , لكن يا سبحان الله شكَد موهوب بالغنه , من تسمعه ما تصدك  هذا عمره , كَاعدين آني وأمه وأخوته اثنينهم وأخته , والكل متضايقة من الغازات , الصغير انفجر بأغنية كاظم الساهر :

ضرطت الشط على مودك      خريتك على راسي

كل هذا وكَلت اكثر             يمه اتشكَك لباسي

ضحكت بقوة .

وأكمل عباس : مثل ما انت ضحكت انفجرنا كلنا بضحك هستيري , ومن شدة الضحك الولد ارتبك , خاف , يتلفت علينه واحنه نضحك , هو يعاني من سوء تغذية ولونه مترب , صارلك اصفر مثل النومية من الخوف , حضنته امسد على شعره  , سالته : هاي منو العلمك ؟

اجابني كعادته بخوف : والله ما احد علمني .

كان يخاف ان يقول انه احد اخوته الذي ينقل كل ما يمس هيبة السلطة الى البيت , وفي احدى المرات اضطررت لضربه كي يترك نقل هذه السخريات , واعدت عليه ما كررته عليهم سابقا : ان صوفتنا حمراء , وكلامنا يفسر ليس مثلما يفسر كلام الآخرين , والصغير كل شئ يتعلمه من اخويه يقول انه سمعه من الشارع , وأمه لا تسمح له بالخروج الى الشارع .

ضحكت , وأردت ان يستمر جو الضحك .. شعرت بسذاجة رغبتي عندما استعادتني رهبة صوته وهو يكمل : "كنا نخاف ان نضحك من كل قلوبنا .. "  , وتلاشت ضحكتي في فراغ ذلك السكون الذي سيطر على كل شئ .

خفض رأسه ولزمه بكلتا يديه كمن يضغط عليه نتيجة صداع .

اردت ان اخفف عليه : آني مو قصدي انت , ليش انثاريت ؟!

اجابني بمرارة : حتى اذا قصدك مو آني , لا زم تعرف مو كل العراقيين سوه .

تناول كأسه المملوء الى نصفه : آني مو كحف , وآني ما محتاج وحالتي زينه . لكن الحرمان والفقر والجوع اللي شفناه هو اللي يخليني ما اصرف فلس واحد بدون سبب .  من انت رجعت انتشت مشاعري اللي فقدتها من زمان , ومن تروح ارجع للجفاف اللي تعودت عليه , صدكَني حتى زوجتي وأطفالي يشعرون آني اكون لطيف من انت تجي  .

سقطت دمعه من عينيه .   

وقف , رفع القنينة وأكمل املاء قدحه , افرغه دفعة واحدة  وأعاد الكأس الى الطاولة , تناول سترته وخرج مترنحا.

 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات