| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                     الخميس  19 / 12 / 2013

 

العرب وتزييف التاريخ

حارث النقيب

من يقرأ مقالة المواطن الجزائري غزالي كربادو"إكذوبة الحضارة العربية" يصاب بالنفور والغثيان والتقزز من الاسلوب الذي اتبعه في طعنه وشتمه للعرب، وانكاره عليهم اسهامهم الرائع في الحضارة العالمية لاسباب واضحة وجلية.

فتلك السطور شكلا ومضمونا لا توحي بان صاحبها صحفي وكاتب كما يذكر. فهي لا تعكس موسوعيته، ولا الدقة والموثوقية في عرض مواده الفقيرة بالاستشهادات، ولا الامانة الواجب التحلي بها ككاتب وصحفي، انها تعكس الغلو في روح الشوفينية التي يتشبع بها.

لم يذكر لنا السيد غزالي مظاهر التركة الحضارية للفرنسيين فترة المئة وثلاثين عاما لاحتلالهم الجزائر؟ ربما لا يستطيع ولو ملامسة تلك التركة القاسية من الآلام والجراح العميقة التي لم ولن تندمل ، نتيجة استعباد الجزائريين ونهب ثرواتهم واتباع سياسة الاغتصاب المنظم بحق الجزائريات وقتل المناضلين الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي، ولذلك قدم الشعب الجزائري مليون شهيداً ثمنا لحريتة وكرامته. كذلك فعل الاحتلال الايطالي بالشعب الليبي الذي زَجَ بربع مليون من رجاله في معسكرات الاعتقال في صحراء ليبيا، وجرى الاغتصاب المنظم لليبيات، الامر الذي خلق مشكلة كبيرة للمجتمع الليبي والمتمثلة في حمل وانجاب النساء المغتصبات للاطفال، في الوقت الذي يقبع ازواجهن لفترات طويلة في معسكرات الاعتقال، فجاء الحل من ثنيات العقل المتنور لعمر المختار متمثلا في فتوى"الراكَد". وما فعله الاوربيون من ابادة وحشية ترتكز على نظرة التفوق العنصرية بحق سكان القارات الاخرى وفي مقدمتها الشعوب الافريقية شاهدا اخر على ان الاوربيين يسوْغون كل اشكال القتل والابادة ارضاءً لنزعة الاستئثار بثروات الاخرين وممتلكاتهم وتلبية لقناعاتهم المُستَلهمة من ايحاءات التوراة والتلمود. اغتالوا قادة افارقة واطاحوا بحكومات منتخبة وقتلوا رجالها واذابوهم في التيزاب واحرقوهم لاكثر من مرة، كما حصل مع لومومبا في الكونغو، وعمر المختار واميركال كابرال والمهدي بن بركة ، وبالامس وري الثرى الزعيم العالمي "نيلسون مانديلا" رمز النضال ضد سياسة الفصل العنصري ، تلك السياسة التي كانت اقبح ما افرز الفكر الاوربي على امتداد تاريخه ، واعيقت ولا تزال برامج التنمية ، ولم تُصَّدِر اوربا للافارقة إلا الموت ، وتخلق يوميا دكتاتوريات عسكرية تجيد فقط ادارة القتال نيابة عن اوربا وامريكا.

حصل كل ذلك بعد ان ، وَقَعَتْ اكبرعملية تطهير عرقي في التاريخ تمثل بطرد ستمئة الف عربياً من الاندلس ، ما بين 1602 ـ 1614 اي بعد عشرين عاما من اقامة محاكم التفتيش. وبعد ان أتَمَّ الاوربيون مشوارهم في الضفة الاخرى من العالم إثر غزوهم للقارتين وما قاموا به من ابادة كاملة لشعوب الامريكتين كونها ارض كنعان الجديدة واورشليم وارض الميعاد ، والحرية. فقتلوا 112 مليوناً من السكان الاصليين ينتمون الى 400 ثقافة ومجموعة اثنية، واسبغوا عليهم اسما لا يمت لهم بصلة "الهنود الحمر"، وابدلوهم بشعب اخر، وغيروا تاريخهم وثقافتهم واسماء مدنهم وجبالهم وانهارهم وحقولهم. ولإتمام المشوار وملء الفراغ الذي ولَّده ابادة السكان الاصليين ، خطف الغزاة الاوربيون ثلاثة ملايين مواطن افريقي وحولوهم الى عبيد للعمل في حقول ومزارع الله التي وهبها لمندوبيه في الارض الجديدة ، وبارك رجال الكنيسة والسياسة والاقتصاد والفلسفة ، كل اشكال الابادة. إقرأ ماذا يقول هؤلاء :
"دعى ادم سميث الامة المتمدنة ـ بريطانيا ـ الى استعمار كل بلد بور او قليل السكان، ونادى بضرورة ان يحل المستوطنون الجدد محل السكان الاصليين لان ذلك يسرع في نماء ثروة الامة المتمدنة وعظمتها".

لم يخرج عن اطار التفكير هذا، الفيلسوف جون لوك فهو يقول :
"ان الله اعطى المسيحيين ـ في غرب اوربا فقط ـ حقا طبيعيا في امتلاك الاراضي البور الخاوية او شبه الخاوية من السكان، واوجب عليهم الامتثال لإرادته بغزو المجاهل واستثمارها، ذلك ان مكتشف هذه المجاهل هو مالكها الحقيقي"

اما ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا فقد عبّر في خطاب له امام لجنة بيل الصهيونية عام 1937 عن فلسفته عن حق الفلسطينيين في بلادهم وها هو يقول :
"انني لا اعتقد أن كلبا في مذودٍ يستطيع الادعاء بان له حقا نهائيا في مذوده مهما طالت إقامته فيه، إنني لا اعترف مثلا بان ما اصاب الهنود الحمر في امريكا او الشعب الاسود في استراليا خطأ فاحش.، إنني لا اعترف بان ما اصابهم كان سوءاً لمجرّد ان جنسا اقوى، جنسا اعلى، او لنقل جنسا اكثر حكمة قد حل محلهم". تلمود العم سام لمنير العكش.

هكذا ينظر الغربيون الى شعوب الارض جميعا على انها كلاب وقطعان برية ، لها ناموسها البربري الذي يجب ان يرتد الى نحرها، فكانت الفؤوس هي السلاح الذي يتم به قطع الرؤوس في جنوب افريقيا وزيمبابوي وناميبيا من قبل المستوطنين العنصريين الاوربيين.

يذكر موريس لانجليه في كتابه العبودية نقلاعن رسائل دو سان بيار الرحلة الى جزيرة ايل ـ دو ـ فرانس :
"لا اعلم ما اذا كان البن والسكر ضروريين لسعادة اوربا، لكنني اعلم جيدا أن هذين النباتين صنعا شقاء جزئين من العالم، نزعوا سكان امريكا للحصول على ارض لغرسهما، ينزعون سكان إفريقيا للحصول على امة لزرعهما"

كان بوتولومي قسا اسبانيا. حيث رافق والده كريستوفر كولومبوس. وساهم هو بدوره في اكتشاف العالم الجديد بعد ان ترك له والده ملكا كبيرا في سان دومينغو، إلا ان مساهمته كانت اكبر وابعد في اكتشاف الروح الاوربية الحقيقية التي تتخفى تحت دعوات التسامح والنبل والفضيلة وقيم المسيح في الصفح والمغفرة. اكتشف الروح المتوحشة وذلك التعطش لدماء ولحم البشر، مُجَرَدين من كل اشكال الرأفة والرحمة والطبيعة الانساية، وها هو يقول :
"غشي الاسبان هذه الخراف الوديعة غشيان الذئاب والنمور والاسود الجائعة فقطعوا اوصالها وقتلوها وروعوها، وفتكوا بها وعذبوها وابادوها من اجل الذهب...كل يوم فظاعة جديدة غريبة مختلفة لم نسمع بها ولم نقرأ عن مثلها من قبل، مما احال هذه البلاد الى قفار بعد أن كانت تصخب بالحياة وتعج بالبشر الذين كانوا فيها مثل خلايا النحل حتى ليظنّ المرء بان الله اسكن فيها كل خلقه. لقد قتلوا كل هذه الانفس البهية، وفتكوا بها ليسرقوا ذهبها وينهبوا ثرواته".

حقا كل يوم فظاعة جديدة وعدوان غريب الى اللحظة التي نتنفس فيها. لم يتوقف عدوان الغرب الاوربي ـ الامريكي على بلدان وشعوب العالم من العراق الى افغانستان وفيتنام ولاوس وكمبوديا وكوريا وغواتيمالا والهندوراس وايران واندونيسيا وتشيلي ونيكاراغوا ولبنان وكوريا وفلسطين وغيرها من بلدان العالم، وعاملوا شعوبها مثل كلاب تشرشل، مستخدمين كل انواع الاسلحة التقليدية والكيميائية والبايولوجية والنووية.لا لسبب إلا لان هذه الشعوب اعلنت عن برامج للتنمية الاقتصادية الاجتماعية والنهوض ببلدانها، والتمتع بثرواتها، وهذا يعني عدم السماح للرأس المال العالمي الاستثمار فيها ـ بتعبير ادق عدم السماح بنهب ثرواتها ـ.

وبعد كل هذه الآلام والمآسي والاستباحة والفصل العنصري واسترقاق ملايين البشر ونهب الثروات، واستخدام كل انواع اسلحة الدمار الشامل وسحق ارادة الشعوب على مدى اربعة قرون، والنظر اليها ككلاب في مذاودها، لم تُقَدِّم اوربا مجتمعة او منفردة ولا امريكا اعتذارا ولو مرةً، لشعب من الشعوب. ويطلب الصحفي اللامع والكاتب الذُمَلَق غزالي كربادو من العرب ان يقدموا اعتذارا للهند لاستخدامهم الصفر الهندي بعد سرقتهم اياه. هنا يظهر الجهل الكبير لغزالي وفقره وبؤسه وعدم اطلاعه على المؤلفات العربية والاجنبية قديمها وحديثها بهذا الخصوص.

وقبل ان اشير الى البعض من تلك المصادر لتبين لنا كم ان غزالي يجهل جهله، وان الحقد يعمي بصيرته، اقول:
إن العرب شعب من شعوب العالم ادلوا بدلوهم في مسيرة التاريخ البشري، فهم ابناء بيئة نشأت فيها حضارات عريقة لعبت دورا في نقل البشرية الى مراتب متقدمة في حياتها، فكل شعوب تلك الحضارات بإستثناء السومريين هم ابناء المنطقة. وهؤلاء من جنوب الجزيرة العربية، وساحل الخليج العربي مرورا بالعراق واستمرارا الى الشمال السوري وساحله الاوغاريتي والفينيقي وصولا الى قرطاج، اخترعوا الكتابة والابجدية التي تبناها الاغريق بعد قرون طويلة، واستغرق منهم الوقت لمنحها الصوائت قرنين من الزمان، كما يذكر الفيلسوف هانز غادامير في كتابه بداية الفلسفة.

فاضافة للنظام الستيني المعمول به الى يومنا، صنعوا المدرعة القتالية والبطارية الخازنة للطاقة والعجلة، ورمز الصيدلية في اي زاوية في العالم ـ الافعى ـ يعود لبلاد الرافدين، كذلك الكم الهائل للتشريعات القانونية المُنَظِمة لحياة تلك المجتمعات، وعشرات الملاحم الادبية التي تعكس احد اوجه الثراء الروحي لهذه الشعوب. اول قضية تحكيم سياسية عرفها التاريخ قام بها "مسيليم" ملك كيش، عندما نشب نزاعٌ بين مدينتي لجاش وأما، فامر بوضع حجر منقوش كعلامة فاصلة بين المنطقتين. واول مصلح اجتماعي هو الملك "اوروكاجينا" من اسرة لجاش، الذي استخدم اول مرة في التاريخ كلمة "الحرية"، وشن حربا على الجشعين والمرابين واللصوص والقتلة، وتكلف بدفع معونات للفقراء والارامل والايتام. كذلك فعل ملك اور "أور نمو". وكانت طريقة الاسرة الحاكمة في لجاش في حفظ الارشيف، اول محاولة في كتابة التاريخ. كل ذلك حصل قبل 45 قرناً. والمسلات التشريعية لسرجون الاكَادي وحمورابي موجودة في متحف اللوفر في باريس كذلك ما قام به الملك كَوديا احد ابرز حكام لجاش، المشهور بكثرة كتاباته واصلاحاته الاجتماعية ومنحه المرأة حقوقا متميزة. وابرز ما يشتهر به هذا الملك هي ملحمته "ملحمة الملك كَوديا"، التي سُرق ثلثها وعرض في الكتاب المقدس تحت اسم "نشيد الاناشيد" باعتبار ان الملك سليمان هو مؤلفها، ذلك الادعاء الذي ينسفه الكثير من علماء الاثار وعلى رأسهم صموئيل كريمر في مقارنته بين نشيد الاناشيد وملحمة "كَوديا" في كتابه طقوس الزواج المقدس عند السومريين. هكذا تجري سرقة التاريخ وتغييره وتشويهه وتزيفه.

فحري بسليلي هذه الحضارات ـ العرب ـ ان يبدعوا، عندما تتآتى الفرصة. وعندما ظهر الاسلام كان العرب يعيشون حياة تحكمها العهود والمواثيق التي يحترمونها، كذلك كانوا يتميزون بتعدد المعتقدات الدينية وتعدد الالهة واحترام ذلك التعدد. كانوا يمارسون التجارة ـ تلك المهنة التي كانت احد العوامل المساعدة على انتقال اوربا وخروجها من اقتصاديات القرون الوسطى الاقطاعية كما سنرى لاحقا ـ فانطلقوا واطلقوا العنان لعقولهم فانتجوا علوما ومعارف خلال اكثر من ستة قرون، كان خلالها العالم، واوربا تحديدا يغرق في ظلام دامس.

فجابر ابن حيان احد علماء العرب الذين عملوا في الكيمياء. تمكن من اكتشاف الزئبق والكبريت كعنصرين مستقلين. واعتمد على التجربة العلمية، ووصف التبخير والتقطير والتسامي والتكليس والتبلور، كما ابتكر عددا من الادوات والتجهيزات المتعلقة بهذه العمليات. وله مؤلفات كثيرة اهمها كتاب "الخواص الكبير" وقد ترجمت الى اللاتينية خلال القرون الوسطى. قال عنه الفيلسوف باكون:"لإن جابر بن حيان هو اول من علّم علم الكيمياء للعالم ، فهو ابو الكيمياء". وقال عنه عالم الكيمياء الفرنسي مارسيلان برتلو:"إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما لارسطو في المنطق".

اما من نقل الصفر من الهند الى العرب ومن ثم انتقاله الى اوربا واسس علم الجبر والحساب فهو الخوارزمي، وهو ليس عربي النسب ، إلا انه عربي اللغة والنشأة والثقافة والعلم والحَسَبْ، ولا يضير ان هناك الكثير من علماء الحضارة العربية الاسلامية، في مختلف صنوف المعرفة، ليسوا عربا في مقياس النسب، بل عربا من حيث اللغة والثقافة والروح والفكر والحسب، وهذا ليس نقيصة للعرب، بل العكس، هي من محاسن ومزايا القيم العربية وفضائلها، وتساميهم في بعدهم الانساني وفي انفتاحهم على وقبولهم للجميع، ولذلك اطلق العرب على حضارتهم "الحضارة العربية الاسلامية" فهناك علماء ومفكرين ومبدعين وفلاسفة عرباً مسلمين ومسلمين ليسوا عربا، فالجميع ساهموا في هذا البناء، والجميع يحمل لواء هذه الحضارة.

يقول الشاعر الكبير الجواهري رحمه الله واصفا انفتاح حضاراتنا :

على الحضارةِ ما انفكت تصب بها
شتى الحضارات تستبقي وتختمرُ

لم يدّعي الخوارزمي بانه ابتدع الصفر كما لا يدّعي غيره. تقول فدوى طوقان في كتابها " العلماء العرب وما قدموه للحضارة" ص 111 : ( ولم يفطن أحدٌ قبل الهنود لاستعمال "الصفر" في المنازل الخالية الارقام. وقد اطلقوا عليها لفظة"سونيا" ومعناها:"فراغ"، واستعملوا النقطة"." كعلامة للصفر. وقد اخذها العرب عنهم واستعملوها في معاملاتهم، ويقال ان الهنود لم يلبثوا ان عدلوا عن استعمال النقطة واخذوا يكتبون الصفر بصورة دائرة).

اقتبس العرب من الهنود الارقام الهندية ، فكونوا منها سلسلتين من الارقام ، عُرفت الاولى بالارقام الهندية، وهي التي استخدمت في المشرق العربي ولا زال استخدامها شائعا الى اليوم، وسميت الثانية بالغبارية وهي التي استخدمت في المغرب العربي والاندلس، وانتقلت الى اوربا لاحقا ومعروفة باسم الارقام العربية.

اما جون ماكليش في كتابه القيّم "العدد" فيقول: قدمت اعمال الخوارزمي إضافات جوهرية جدا أدت الى تطوير الرياضيات العالمية، وقد تمخض عن ترجمة كتابه في الحساب الى استخدام الارقام العربية التسعة مع الصفر، وكانت سببا لمعركة ايديولوجية استمرت ثلاثة قرون في اوربا مع الحساب الجديد وضده".

قوام هذه المعركة وهو ما لم يذكره ماكليش: ان الكنيسة حَرَّمتْ استخدام الصفر والارقام العربية على التجار الاوربيين الذين وجدوا اليسر والسهولة لدى استخدامهم الارقام العربية بدل الارقام اللاتينية او الرومانية. تعلل الكنيسة موقفها بانه طالما يقول العرب بان الصفر خالي القيمة، وعند وضعه امام يمين اي عدد فانه يرفع من قيمته، فمعنى ذلك ان هناك لغزا يتخفى فيه، وقد تختبئ فيه قوة سحرية.

ترجمت اعمال الخوارزمي الى اللاتينية، والى اليوم يستخدم اسم الجبر الذي وضعه ، واللوغوريتمات التي تعني اسم الخوارزمي.

ويشير ماكليش الى مسألة مهمة :" أن العالم الهندي براماكوبتا تبنى في القرن السابع م. طريقة لاعطاء عدد من الحلول للمعادلات غير المحددة. وان الكثير من امثلته لا تختلف جوهريا عن معادلات ديوفانتس اليوناني القرن الثالث م. وهذا يدفع الى الظن أن لاعمالهما مصدرا مشتركا يمكن ان يكون جبر البابليين".

ويطول الحيث وتتوسع الكتابة فيما لو اردنا ذكر اسماء كل العلماء العرب وما ابدعه عقلهم في كل حقول المعرفة. فابن الهيثم كان واحداً من اولئك العباقرة الذين تركوا بصماتهم في علم البصريات، والضوء . كتب اول رسالة في "طبيعة القاء الظل"، واول من اجرى تجارب على الالة ذات الثقب، وهي التي اصبحت تسمى فيمابعد بآلة التصوير. وقد بين ان الضوء يمشي في خطوط مستقيمة ، وان الصورة تظهر مقلوبة رأسا على عقب، وتكلم في انكسار الضوء بسبب اختلاف الكثافة للاوساط التي يمر بها مثل الماء والهواء. وألّفَ كتاب "المناظر"، الذي استمد منه روجر بيكون وفيتللو، كما كان لافكاره تاثيرا كبيرا على اعمال ليوناردو دافنشي، كذلك كبل وفياردو. وقال عنه عالم امريكي:"إن ابن الهيثم اعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة، بل اعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله...". وقال عنه ماكس ماير هوف :"إن عظمة الابتكار الاسلامي تتجلى لنا في البصريات...". اما مصطفى نظير بك فيقول:(ما كنت اظن ان للعرب اثرا في كشف الطريقة العلمية او التمهيد لكشفها حتى بحثت في مآثر العرب في الطبيعة واطلعت على كتاب"الحسن ابن الهيثم"بحوثه وكشوفه). وكان اول من عمل نظارة طبية.

اما ابن النفيس فقد اكتشف الدورة الدموية الصغرى. بينما البوزجاني فقد برع في الفلك والمثلثات، وما كتبه في الجبر زاد فيه على الخوارزمي، وهو ما يعتبر اساسي في علاقة الجبر بالهندسة، وحل المعادلات من الدرجة الرابعة.

وكان تاثير الادب العربي وخصوصا رسالة الغفران لابي العلاء المعري كبيرا في مؤَلَف الشاعر الايطالي دانتي "الكوميديا الإلهية". كذلك تأثير شعر المعري في رباعات الخيام. اما دور ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، وتأثيره في كتابي ميكافيلي "الامير" و"مطارحات ميكافيلي" فجلي. وتأثير ابن طفيل من خلال كتابه "حي ابن يقظان" في كل الاعمال الدرامية والمسلسلات والافلام الغربية التي تتحدث بلغة الحيوان، اضافة الى كونه فيلسوفا وفلكيا وطبيبا له بصماته في الفكر الانساني. وهناك الفارابي وابن سينا والزهراوي والرازي وثابت بن قرة والبيروني وابن البيطار وعباس ابن فرناس الفيلسوف وعالم الكيمياء الزراعية، اذ استخدم المواد الكيمائية في مكافحة الافات الزراعية، كذلك محاولته الطيران التي اودت بحياته ولم يسبقه اليها احد. اما الفلاسفة كابن باجة والغزالي وابن حزم والكندي وابن رشد، الذي كان له الدور الريادي في كشف الحُجب عن دور العقل وابراز الفلسفة العقلية في حقل المعرفة، وتأثير ذلك لاحقا على تطور الفلسفة الاوربية والثقافة العقلية. وقال الفلاسفة وقتها: أن ارسطو فسر الطبيعة وابن رشد فسر ارسطو". فقام باستكمال وحل المسائل الفلسفية التي لم يتسن لارسطو انجازها. انه واحدا من اهم الركائز التي نهض عليها الفكر الفلسفي الاوربي خلال عصر النهضة، بالرغم من كل محاولات التنكر لدوره.

كان ذلك في فترة شهدت فيها قرطبة في زمن الخليفة "الحكم المستنصر" منتصف القرن العاشر، حركة توفير وترجمة المؤلفات في كل صنوف المعرفة، حتى وصلت اعداد كتب مكتبة قرطبة اربعمئة الف كتاباً. وكما يذكر الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان في كتابه ابن رشد والرشدية، ان الخليفة الحكم قرأ كل تلك المؤلفات وكان ينطوي على معرفة والمام بكل العلوم. وتذكر المصادر التاريخية انه اسس 27 داراً لتعليم ابناء الفقراء والمحتاجين في قرطبة، مع تكفل الخلافة بكل النفقات، واسس جامعة قرطبة، التي عمل بها كبار العلماء.

يذكر عالم الطبيعيات والفيلسوف الالماني فريدريك انجلس في كتابه القيِّم "ديالكتيك الطبيعة" :"بخلاف حدسيات القدامى العبقرية في الفلسفة الطبيعية، واكتشافات العرب التي كانت بالغة الاهمية، لكنها جاءت متقطعة، وضاع معظمها بدون نتائج...."

"وتهاوى استبداد الكنيسة بعقول الناس، فخلعت اغلبية الشعوب الجرمانية دكتاتورية الكنيسة، واعتنقت البروتستانية، بينما كان الفكر الحر المتفائل والمفعم حبا بالحياة، الذي انتقل من العرب..."

"وكان العرب قد خلفوا نظام العد العشري، ومبادئ الجبر، والكتابة الحديثة للاعداد، والخيمياء، في حين لم تترك القرون الوسطى المسيحية شيئا وراءها".

وما تلى تلك القرون كان سوداويا في اوربا، التي كانت تلاحق علماءها ومفكريها وتضطهدهم وتحرقهم في نار الارادة الإلهية المسيحية، كما حصل مع سرفيتيوس و جوردانو برونو وغيرهما. كذلك لم تسلم مكتبة قرطبة، فطالتها نار الارادة الإلهية الاسلامية، فاحرقوا كل المجلدات التي تمس العقل، و سَلِمَتْ الكتب الدينية فقط ، وتمت ملاحقة الفلاسفة والمفكرين واضطهادهم، بعد زحف التطرف الديني وما قاده من استبداد لم يتوقف الى يومنا.

كان فريدريك الثاني، اقوى ملوك اوربا واكثرهم استهزاءً وسخرية من الدين، المسيحي تحديدا، وابرزهم شغفا بالعلم والمعرفة وتقديرا للعلماء والفلاسفة، يبعث اسئلته الفلسفية الى ابن سبعين المرسيِّ، اشهر فلاسفة المغرب والاندلس وقتها، وهي المسماة "الاسئلة الصقلية"، وكان الفيلسوف يطلب مواجهة الملك شخصيا، او ان يرسل الملك من يُسَلِّمُ إليه الجواب، حذرا من الوشاة وسلطتهم.

اخيرا لا بد من الاشارة الى مسألة مهمة وان كان لا يتسع لها المجال في هذه السطور، ألا وهي النشاط التجاري الذي لعبه التجار العرب مع المدن الاوربية الساحلية تحديدا والايطالية بوجه اخص. كان الربح وهو الدافع الاساسي للنشاط التجاري ، قد دفع الاوربيين إلى ممارسة التجارة بهدف الربح الفردي غير المرتبط بالارض والذي قاد الى انفصال الافراد عن ارتباطهم بالكنيسة المالكة لاكثر الاراضي، والمتحكمة بمصير ملايين الفقراء. هذا وّلد بدوره السيولة النقدية نتيجة النشاط مع التجارة الخارجية. وقد رافق ذلك دخول آليات وميكانيزمات جديدة في الحياة الاقتصادية الجديدة ، والتعامل مع عملات تملك قيما اكبر مما كان سائدا. كان لدخول المفاهيم الاقتصادية العربية دورا كبيرا في تسهيل الممارسات الاقتصادية والنشاط التجاري، كالتعريفة والشيك والمناكة والمئات غيرها، وما تؤديه من تسهيلات ووظائف جديدة غير مالوفة ، خصوصا الصكوك"الشيكات"، حيث امكانية الشراء هنا والدفع في مكان اخر. اضافة الى بلوغ التجارة من كِلا الطرفين أحجاما قياسية غير مسبوقة. ادت بالنتيجة الى التمهيد لظهور المقدمات الاساسية للرأسمالية ـ المشروع الفردي والتسليفات والارباح التجارية والمضاربات ـ وتوجيه جزءاً من الارباح لجهود الاختراعات في مجال الصناعة الحرفية لغرض زيادة الانتاج. ويستشهد جين هيك في كتابه "الجذور العربية للرأسمالية الاوربية"، بعدد من المؤرخين الاقتصاديين الاوربيين الذين يؤكدون على أن ولادة الرأسمالية تم داخل المجتمعات التجارية والنقدية، وللمرة الاولى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

يقول جين هيك:"تتقبل الدراسات الغربية الان من دون اعتراض يذكر الزعم القائل بان العلماء الاسلاميين حافظوا خلال القرون الوسطى على العلوم المادية الاساسية والفلسفات الماورائية التي ساهمت في تطوير مفاهيم العصور الاغريقية الرومانية القديمة التي غرقت فيها اوربا خلال العصور المظلمة، ثم اعادت ارسالها الى الغرب بعد ان خَرجت من الهاوية الاقتصادية السحيقة التي وقعت فيها. وتعتبر هذه الحقيقة جزءأً من الارث الفكري غير القابل للجدال في الشرق والغرب معاً.
ص 290










 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات