| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 18/11/ 2012

 

قسوة الظمأ في مجموعة
( جذور الفجر )

رحمن خضير عباس

عن مؤسسة دار الصادق الثقافية . صدرت المجموعة الشعرية الثانية للشاعر العراقي عبد الأله الياسري . وتحمل هذه المجموعة القصائد الشعرية التي كتبها الشاعر في بواكير حياته , حينما كان يلج هذا العالم الشعري وكأنّه ينحت صخرا , في بيئة ادبية ومناخية , اقل ما يمكن ان يقال عنها : إنها بيئة الأضداد . النجف الأشرف باحة روحية شاسعة , تحتضن سمو المعتقد الموغل بالتأريخ الأسلامي , وسمو الأبداع الشعري , من المتنبي الى الجواهري . بيئة مكتظة بالقسوة والصرامة , من طقسها الجغرافي الى طقسها الديني . لعلها المدينة الوحيدة التي يفر سكانها الى اعماق جوفها في السراديب , وكأنهم يلمسون بطن الأرض ويتشربون بروحها . هذه المدينة التي يتجاور فيها الأحياء والموتى في ثنائية غريبة . ويتعايشون في أزلية يتوهج فيها الموت , ويتغلغل في جنبات الحياة . حتى ان مقبرة السلام تكبر على حساب المدينة , وحتى ان المدينة تتسع على حساب المقبرة , في تموج غريب وحركة من المد والجزر , وفي بحر لم يبق منه غير اليباب والصخور القاحلة التي رسمت لأنسانها , روحه العطشى , سماته , ومجموعة قيمه وعاداته . ورغم افتقار المدينة الى نهر يروي عروقها , استعاضت عنه بالشعر , الذي اصبح نهرها المتدفق وفي هذا النهر/ الشعر اتخذ شاعرنا عبد الأله الياسري صاريته .يصارع جدب الحياة . سلاحه روح معذبة تبحث عن الخلاص .

كان الرحيل عن الوطن في هجرة طويلة ,امتدت عقودا , جعلت بينه وبين بواكيرقصائده الأولى جدارا من العزلة . كانت يده تتدلى في زمن حلزوني لتلتقط هذه القصاصات الصغيرة التي تركها في لحظة منسية . وحالما تصفحهن حتى احسّ بعبق الماضي ,من رجولة مبكرة واحلام متشظية .لقد دفنها الأهل خوفا عليها وخشية من سلطة متجبرة . هذه السلطة كانت تتوجس من كل شيء وتعتبره محرما , حتى من كلمات وتشبيهات وصور بلاغية !

تغطي هذه المجموعة عقدا من السنوات . تمتد من نهاية الستينات الى نهاية السبعينات من القرن الماضي . وكانت قصائده الأولى تنبيء عن شاعر متمكن من ادواته الشعرية . ملم بالَنفَس العمودي للقصيدة العربية الكلاسيكية , قادر على ترويض القوافي . آنذاك كانت قامة الشعر العمودي في اوج عطائها , يمثلها عملاق الكلمة الشاعر الجواهري . لكن شاعرنا عبد الأله الياسري , لم يبق اسيرا لعمودية الشعر , بل حاول ان يكتب قصيدة التفعيلة التي تمردت على القافية الموحدة . لذالك جاءت مجموعة اشعاره الأولى نسيجا جميلا , ما بين متانة البناء العمراني للقصيدة التقليدية , وما بين رشاقة ورقّة القصيدة الحديثة .

في فاتحة الفجر , اول قصائد المجموعة ، يتحول الأحتراق الى محاولة للخلاص ، رغم ان الموروث الأجتماعي يجعل منه عذابا وعاقبة لغير ( المتّقين ) . ولكن شاعرنا يجعل منه وسيلة لأمتصاص الخطايا وكأن النار الأزلية , هي الوحيدة القادرة على غسل الآثام .

"أريد أن نغسل العالم بالحريق .."

ولكن الحريق ليس اسلوبا تدميريا , بل يدخل في لغة التمهيد لعالم اكثر نقاءا . عالم يتجدد ولايظل مرهونا بالماضي . او اسيرا لجملة من المفاهيم والرؤى .

تترجم قصائد الشاعر غربة روحية عميقة , جعلته يختار الغربة اسما لأحدى عشرة قصيدة. يعزف من خلالها وبأوتار خافتة , عن حالة من الحيرة تجعل الماء ظمآنا :

"ظميء الماء / كاد – من الوردة – يطلب ماءْ "

أية محنة تتسلل كقطرة سم في كأس الحياة التي نترشفه رغما عنّا . حتى أنّ الغيمة تتوسل في باب القحط , وعطر القدّاح لاينفذ من خلال الصخر , والعصفور الذي يأبى ان يتضفدع , والنخل الذي تأسره الفسائل الحمقاء .. انها ثنائيات مبثوثة بين القصائد , تكشف فداحة الواقع وقسوته على القيم الجميلة التي تجد نفسها اسيرة لعوامل موضوعية اكبر منا , وبعبارة اخرى هو الصراع المتنامي ما بين الجمال والخير وما بين القبح والقسوة . ورغم ان سلاح القسوة قادر على تدميرالجمال ولكنه غير قادر على هزيمته . فاالقيم والمثل العليا لابد ان تنتصر . لقد قدم الشاعر منظومة اخلاقية وحسية . يمثلها : النخل والعطر والعصفوروالحمامة والغصن .. لكن هذه المفردات تخبيء خلفها دلالات انسانية لم يشأ الشاعر ان يبوح بها مباشرة , كما ان التأزم الذي شهدناه يسري في عروق القصائد , ينبيء عن حالة من التأزم الروحي الذي يجتاح جيلا كاملا , وجد هذا الجيل متاهات عصيبة . والكثير من الأزمات والأحباطات التي ما انفكت تدمر كل احلامه . لقد اضحى جيلا جريحا , يلمس – بأسى- اختلال القيم العامة في المجتمع وكأنه وجع النخل الذي اصبح اسيرا لما هو اقل منه منزلة .

" ملتف في شَرَك الدمع النخل ْ
ملتفٌّ بعباءة ذل . تأسره للجدب فسائل حمقاء.
لم تبلغ أنْ تتهجى لغة التمر .
"

قد تبدو المرأة في هذه المجموعة الشعرية المبكرة شاحبة الملامح , تختفي وراء فكرة ما , او تترآى كغرض شعري , دأب الشعراء على سلوكه فنيا . المرأة في القصيدة انثى عصية على اللقاء . المرأة علاقة مستحيلة , في ظل علائق اجتماعية محفوفة بالحذر والعزلة . الشاعر يرى المرأة جسدا رائعا شهيا , يستوطن الأخيلة والأحلام . المرأة رسم مجرد تخطها رغبات محبطة يتجلى فيها الجوع الجنسي والحرمان :

" ارسم انثى. البسها فستانا ازرقْ
وبأسناني الجوعى , بأصابعي المشبوبة , انهشها
أجعلها تتعرى
"

ولكن صورة المرأة تبدو اكثر حسية في قصائد اخرى .حيث يلتقط اوجه الترابط الأنساني بها من خلال الوضع الأجتماعي القائم , ومن خلال العلاقات العاطفية والأنسانية المسوّرة بأبعاد أُسرية ودينية :

" خوفوك الأهل مني وأنا منك بإسم الدين اهلي خوّفوني "

يستغرق الموتُ النَصَ الشعري ويهيمن عليه . حيث يطفو على سطح القصائد , وكأنه اكثر بريقا من الحياة . وقد تكون المدينة والبيئة باعثا لذالك الموت الذي يتغلغل احيانا بين فجوات الحياة . وقد يكون الموت انتصارا على حياة قاحلة وذليلة :

" فإقتلوني واقفا كالنخل في وجه الرياح .
واقفا اني اموت
"

او قد يكون الموت مستحيلا , يتمناه فلا يجده .

" لا أغرودة تعشب في الصمت . لاموت .
حتى الموت باب ينسدُّ بعينيه
"

لقد وردت مفردة الموت وتكررت في اكثر من موضع , كما استخدم الشاعر بعض دلالات الموت كالمقبرة والتوابيت والجنازة ..الخ وقد كانت هذه المفردات تنبثق بعفوية من خلال التعايش مع النص . في مدينة تتعايش مع الموت بشكل يومي . حتى يتحول الموت الى سلعة .

رغم انّ كل قصائد المجموعة كتبت قبل هجرة الشاعر عن الوطن , الآ أنّ قضية الرحيل كانت تراود الشاعر وتتراءى من خلال ثنايا النص . قد يكون الرحيل هو الهجرة المفترضة للروح المثقلة بحزن اللحظة المتأزمة . او قد يكون الحلم بسفر سندبادي الى تخوم عالم لايعرف الخوف . او قد يكون الأمل في الخلاص . ولكن سفرة الشاعر السياحية الى اسطنبول في منتصف السبعينات جعلت من الرحيل عن الوطن وجعا آخر :

" انا الآتي . اجرُّ حقيبتي تعبا ب اسطنبولْ
وجرح الطير في عيني
"

وهكذا يحمل الأنسان صخرته على ظهره . فهو معذب في الوطن , وحالما يتسلق اسوار الوطن هاربا . حتى يتحول السفر الى جرح ومنفى .

في المرحلة الجامعية للشاعر , والتي إمتدت من (1968 -1972) كان يدرس في جامعة بغداد/ كلية التربية . وقد كتب عدة قصائد القاها في مهرجانات شعرية . وقد شهدت قاعة ساطع الحصري في كلية التربية , هذه الأعراس كلها . وكان الشاعر عبد الأله الياسري من الشعراء الذين اشاعوا جوا من البهجة الأدبية والحبور الفني اضافة الى شعراء آخرين ومنهم على ما اتذكر : حميد الخاقاني ونبيل ياسين وحسن المرواني وآخرين .

وقد ضمت مجموعته الشعرية ( جذور الفجر ) هذه القصائد تحت اسم البغداديات .

وكنّ على التوالي (بين يدي بغداد ) ومطلعها : " آهٍ وعينيك يا محبوبة الصغر ما إبتل رملي ولا ندّى الهوى شجري "

اما القصيدة الثانية فهي ( قافلة الأحزان ) ومطلعها :
" حملت شراع الموت في صمت آلامي وأرضعت من ثدي التباريح أعوامي "

والقصيدة الثالثة , ( نزيف الشمس )
"حزين مسائي . خطوتي ما لها درب ولا شفتي بين الكؤوس لها شرب "

اما القصيدة الأخيرة في سلسلة بغدادياته فهي ( الضياع ) ومطلعها :
"ملّت من النغم المحزون ناياتي واتعبت فرَس الأحزان آهاتي " .

وقد اكتسبت تلك المهرجانات شهرة كبيرة . وشهدت قاعة الحصري اجمل الأصوات, سواء من الشعراء الشباب او من الشعراء الكبار الذين شاركوا بقصائد عصيّة على النسيان , مثل الجواهري والسياب والبياتي ونازك الملائكة .ونتذكر جميعا الشاعر يوسف الصائغ وقصيدته الرائعة ( اذكريني عند تخوم البحر ) كما تضمّ كليتنا نخبة من الأساتذة الكبار الذين تركوا بصماتهم على الفضاء الثقافي مثل المخزومي وجواد علي الطاهر وعاتكة الخزرجي والسامرائي والحمداني وعناد غزوان وغيرهم . وكان الشاعر صالح مهدي عماش - وقد كان نائبا لرئيس الجمهورية انذاك – يصرّ على حضور هذه المهرجانات . ومن الجدير بالذكر ان نقول ان الشاعر عبد الأله الياسري قد القى قصيدته ( قافلة الأحزان ) بحضور هذا النائب .وقد كانت القصيدة صرخة احتجاج مدوية ,اطلقها الشاعر في وجه السلطة . لم يكن خائفا او وجلا , معتمدا على الصدق مع النفس والصراحة امام الملأ , زوّادته التشجيع الكبير و التصفيق العارم من الحاضرين , واغلبهم من الشباب . مما حدا بعميد الجامعة الدكتور محمود غناوي ان يسرع الى المنصة وكأنه يعتذر امام الحاضرين قائلا :الحالة المأساوية الذي وصفت بها القصيدة اوضاع العراق مبالغ فيها , فالدنيا بخير . ولكن كلمات عميد الكلية المتلعثمة ضاعت بين هتافات الأعجاب الذي شارك فيها صالح مهدي عماش نفسه . لقد استطاعت هذه القصيدة ان تتغلغل في وجدان تلك اللحظة التأريخية المؤطرة بشتى الأحتمالات .

لقد قدّم الناقد المبدع خالد جواد شبيل دراسة عن قصيدة ( الضياع ) ونشرها في مركز النور . هذه الدراسة المعمقة تجعلني عاجزا عن اضافة اي حرف آخر . وقد عقد مقارنة بين هذه القصيدة وبين قصيدة ( انا وليلى .. واشطبوا أسمائكم ) للشاعر حسن المرواني التي ذاع صيتها بعد ان غنّاها المطرب العراقي كاظم الساهر . ولاشك ان الأستاذ خالد قد حلل القصيدتين تحليلا فنيا واكاديميا , والقى الأضواء على الظروف التي احاطت بتلك المرحلة .

وعلى العموم فأن الشاعر عبد الأله الياسري في بغدادياته , يجعل من بغداد عاصمة للفرح . استقبلت عشاقها من جميع اصقاع العراق واصبحت امّاً لهم . كما انهم نسوا مدنهم الصغيرة والمترامية , واليابسة من كل شيء وذابوا في مدينة الحلم واليقظة , الطفولة والشباب . مدينة ابي نواس والمنصور وحكايات شهرزاد . انها المدينة التي استعصت على اليأس . وانها ستحتضن أبناءها يوما وستمسح عنهم غبار الغربة .وكما قال الشاعر عبد الأله الياسري :

" قد أتعبتني قفار اليأس واستلبت حُلم الطريق , وقد طالت مسافاتي
وأنكرتنيَ يا بغداد جاحدة حتى لدات الصبا حتى حبيباتي
"

 


اوتاوه / كندا
17/11/2012

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات