| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 17/5/ 2012                                                                                                   

 

بأنتظار كوبرنيكوس: التوجه الى ما بعد الأقتصاد المتمركز حول وول ستريت

جون فيفر *
ترجمة كفاح عادل عن موقع         truthout.org  

أن هذا التوجه يحصل في بيونس آيرس, يحصل في باريس و أثينا و كذلك يحصل في رئاسة البنك الدولي!

على ما يبدو أن الأقتصاد العالمي أخذ يبتعد عن النموذج الذي ساد في العقود الثلاثة الأخيرة. فأوربا رفضت سياسة التقشف و أميركا اللاتينية أخذت تأمم مؤساساتها و رئيس البنك الدولي أخذ يعمل بجدية لتطوير العمل في البنك الدولي.

بعد أنهيار الأسواق المالية في 2008 سارع الكثير من الكتاب و المحللين في كتابة النعي و اعلان موت النموذج الأقتصادي السائد و المعروف بأسم اللبرالية الجديدة. كتب كل من مايكل هدسون و جفري سمرس ,في نهاية عام 2008, مايلي " أن أنهيار سوق وول ستريت أشر لنهاية عصر. أن الذي أنتهى هو مصداقية مبدأ أجماع واشنطن- المبدأ المبني على فتح الأسواق للمستثمرين الأجانب و سياسة التقشف الحادة (مع رفع نسبة الفائدة على الديون) لمعالجة العجز في الميزانية و تضخم الأسعار".

كان أستنتاجاُ مغرياً! و من المنطقي أن تصل رسالة النعي الى وول ستريت بصفته "مركز الكون الأقتصادي".

لكن فعلياً الذي حصل هو بعض الأصلاحات التعديلات الجزئية على آليات عمل وول ستريت و عملية أنقاذ للمؤسسات المالية الكبيرة مصحوبة بحزمة من الدفعات التحفيزية للأقتصاد لغرض دفع الدورة المالية و منع "السقوط الحر" للأسواق المالية. هذه الأجراءات مكنت واشنطن من الأستمرار في العمل بالطريقة القديمة ذاتها. لقد أدركت أدارة أوباما, مثل ما أدركت أدارة كلنتون قبلها, القوة الحقيقة لسوق السندات المالية. لم يطرأ أي تغيير جذري على سياسات صندوق النقد الدولي و البنك الدولي أثناء الأزمة. أوربا و الخاضعة للقبضة الحديدية الألمانية, هي الأخرى أتجهت بل و تبنت سياسات التقشف الشديدة لمواجهة الأزمة المالية. بأختصار, فأن اللاعبين الكبار بقوا على نهجهم التقليدي لمواجهة الأزمة و بصورة أرثوذكسية بخلاف الواقع و المنطق.

أستمرت وول ستريت على نهجها في توزيع الحوافز المالية الكبير و الفاحشة على النخب من مدراء المؤسسات المالية و رفض أي محاولة لتقنين عملها مما يؤكد أستمرار النهج و التفكير القديم على أساس أن وول ستريت و أجماع واشنطن هما مركز الكون الأقتصادي و على الجميع أن يدور في فلكهما- هذا هو نموذج بطليموس (نموذج بطليموس – هو النموذج الذي أفترض أن الأرض هي مركز الكون و الذي سائداً لمدة 1300 سنة قبل أن يظهر نموذج بطليموس لينفيه – ك.ع). نموذج بطليموس ظل سائداً طيلة فترة ما بعد أزمة 2008 و لم يفسح المجال لنموذج كوبرنيكوس ليدفع هذه المؤسسات المالية من موقعها المركزي و أمتيازاتها. علينا أن نتذكر بأن هذا النمط الثوري في التفكير لم يحدث بين ليلة و ضحاها. لقد ساد نموذج بطليموس حول الكون لمدة 1300 سنة و حتى بعد أن نشر كوبرنيكوس أفكاره و نموذجه بأكثر من 100 عام فأن غاليلو دفع الثمن غالياً أمام سلطة الكنيسة و جبروتها و ذلك لتبنيه أفكار كوبرنيكوس. بأختصار النمط التقليدي الأرثوذوكسي لا يستسلم و ينتهي بسهولة.

أن الهجمة الأولى على النموذج التقليدي للبرالية الجديدة تمثل في هجوم مؤيد "نموذج كوبرنيكوس" على سياسات التقشف بأعتبارها ليست سياسات غير مرغوبة فحسب بل غير منطقية و غير علمية. الحائز على جائزة نوبل في الأقتصاد, بول كروكمان, أكد مؤخراُ في صحيفة النيويورك تايمز " أن الحظوظ في أعتماد تحول حقيقي في الممارسات الأقتصادية, بعيداً عن الهوس في التقشف و الذي ساد مؤخراً و التوجه نحو التركيز على خلق فرص عمل حقيقية, هذه الحظوظ هي أكبر و أحسن من أعتماد نمط التفكير التقليدي السائد".

ليس هناك مثل أكثر وضوحاً , في هذا المجال, أكثر من النموذج الأوربي و الذي أعتمد سياسة تقشف قاسية في مواجهة أزمة 2008. كتب هارولد مايرسون في صحيفة واشنطن بوست عن سياسة التقشف الأوربية بأنها " بدأت عندما أعتمدت الحكومات الأوربية مبدأ تقليص النفقات و تقليص العجز أملاَ بجذب المستثمرين لغرض الأستثمار في أقتصاداتهم المنتجة . لكن الذي حصل هو العكس. ففي اليونان و آيرلندا و البرتغال و أسبانيا و حتى بعد تقليص الميزانية, لم يبد المستثمرون أي رغبة في شراء السندات الحكومية  لهذه الدول. و أستمرت أقتصادات هذه الدول في الركود مما أعطى أنطباع لدى المستثمرين بأن أقتصاديات هذه الدول غير صالحة للأستثمار الآن و لسنوات عديدة قادمة".

لقد رفض الناخبون في فرنسا و اليونان سياسات التقشف في الأنتخابات الأخيرة ليسوا لأنهم, كما يحلوا للأعلام الأمريكي أن يصفهم, "أطفال مدللون لا يريدون أخذ دوائهم" بل لأدراكهم أن المزيد من سياسات التقشف يعني الدخول عميقاَ في مستنقع الركود و بالتالي فأن الثمن سيكون مضاعفاَ. أنهم يدركون جيداَ بأن هناك ثمن يجب أن يُدفع و لكن يريدون أن تكون هناك عدالة في دفع هذا الثمن الغالي. فرانسوا هولاند, الرئيس الأشتراكي الجديد لفرنسا, دعى الى فرض نسبة ضريبة 75% على الذين يزيد دخلهم على 1.3 مليون دولار سنوياً.

ليس من المتوقع أن يعين هولاند وزيراَ من حركة "أحتلوا" في وزارته  و هو لا يحمل "برنامجاً راديكالياُ بصورة كافية لأصلاح الأقتصاد في فرنسا أو أوربا" كما كتبت جين كاي في مجلة  FPIF و التي تضيف " لكن الذي يمزه عن سلفه ساركوزي هو  مبدأ: الأنفاق الحكومي. فبالضد من سياسة التقشف التي أتبعها ساركوزي, يقترح هولاند أسلوب الكينزية (من الأقتصادي الأنكليزي كينز - ك.ع) في خلق وظائف في القطاع العام و ربط تحديد المعدل الأدنى للأجور مع نمو الناتج القومي الأجمالي و ليس مع معدلات التضخم و الأستثمار العام".

لقد صحى اليسار من سباته في الوقت المناسب لأن الملعب مفتوح للجميع الآن. اليمين المتطرف هو الآخر يرفض خطة التقشف و لديه حل بسيط و سطحي: طرد المهاجرين. لقد حقنت الجبهة الوطنية في فرنسا فايروس كره الأجانب في صفوف اليمين التقليدي الفرنسي من أتباع التجمع من أجل الحركة الديمقراطية (حزب الرئيس السابق ساركوزي- ك.ع). و في اليونان تمكن "شقاوات الشوارع" من أتباع حركة "الفجر الذهبي" النازية من دخول البرلمان لأول مرة. و في هولندا تمكن حزب كييرت فلدرز و حزبه المعادي للأجانب و للمسلمين من أسقاط الحكومة في الشهر الماضي. بأختصار في مكان أو منطقة في العالم يفشل اليسار في طرح بديل فعال و جماهيري تزدهر حركات اليمين المتطرف. (التشديد من عندي- ك.ع)

أن الكثير يقع على عاتق فرنسوا هولاند و الأشتراكيين الفرنسيين اليوم في بناء يسار أوربي قادر على أعادة أوربا الى جذورها المتمثلة بأقتصاد سوق أجتماعي و الحفاظ على الوحدة من خلال التنوع. على هولاند, لكي يُخرج فرنسا من ركودها و كربها, أن يعمل بجدية و يكون طموحاُ و جسوراُ من خلال الأقناع و لوي الذراع أن تطلب الأمر لكي يعيد كتابة القواعد التي تساعد على نهضة أوربا من جديد. أن رفض سياسات التقشف هو أول خطوة في هذا الأتجاه (التشديد من عندي- ك.ع)

ممكن أن يتعلم الأوربيون من تجربة أمريكا اللاتينية في هذا الخصوص و خاصة التجربة الأرجنتينية. فبعد أن غرقت الأرجنتين في بحر المديونية في نهاية التسعينيات, تلقت الأرجنتين حزمة من النصائح و الأرشادات التقليدية من المؤسسات المصرفية العالمية مثل: خفض الميزانية, الخصصة للمؤسسات الحكومية, فتح الباب على مصراعيه للأستثمارات الأجنبية..الخ. كان جواب بيونس آيرس هو الرفض و و تخلفت عن دفع ديونها المقدرة بما يزيد عن 100مليار دولار.

من المنطقي و بعد تخلف الأرجنتين عن دفع ديونها أن يتم عزلها من المجتمع الدولي و من اللعب في النادي الأقتصادي لحين الأيفاء بدفع ديونها. الذي حصل هو عكس ذلك. حيث تبتت الحكومة الأرجنتينية على موقفها و قبل حوالي 93% من الجهات الدائنة بمقترح الحكومة دفع 35 سنت مقابل كل دولار لها. تدفق رأسمال الأجنبي, و خاصة من البرازيل, و كذلك فقد تدفق السواح الباحثين عن صفقات جيدة الى البلد. توحد العمال و أخذوا يسيطرون على المؤسسات التي تخلى عنها أصحابها (مثل فندق باون في قلب مدينة بوينس آيرس)

مع قليل من الحظ و نتيجة لأرتفاع سعر فول الصويا - محصول التصدير الرئيسي للأرجنتين - في الأسواق العالمية أستطاعت الأرجنتين أن تتعافى أقتصادياً. فمعدل البطالة أنخفض من 25% في 2001 الى 8% في 2010. و البرامج الأجتماعية نجحت في خفض نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 51% الى 13%. و لكن كأي تعافي فأنه يبقى هشاَ و ضعيفاً حيث يعتمد بالأساس على أسعار السلع التي تصدرها الأرجنتين. لهذا السبب قررت الأرجنتين أن تخطو خطوة أخرى من أجل أحكام سيطرتها على عملية التعافي الأقتصادي. بهذا الخصوص فقد عمدت حكومة الرئيسة كريستينا كرجنر على تأميم الخطوط الجوية الأرجنتينية و صندوق دعم المتقاعدين و كذلك أتخذت أجراءات للتقليل من هروب رأس المال الى خارج البلد. مؤخراً أممت الحكومة الأرجنتينية أحدى الشركات النفطية, YPG, و أحكمت سيطرتها كاملة عليها بعد أستعادتها من الشركة الأسبانية و التي كانت تسيطر على معظم أسهم الشركة. أستطلاعات الرأي الأخيرة اظهرت دعم الرأي العام الأرجنتيني لخطوات الرئيسة كرجنر في تأميم شركة النفط و بمعدل 62% من آراء المستطلعة آرائهمو ذلك لقناعة الجمهور بأن الشركة الأسبانية لم تستثمر بما فيه الكفاية داخل الأرجنتين.

الأرجنتين هي ليست الدولة الوحيدة التي أنقلبت على هوس الخصصة في أمريكا اللاتينية. فالبرازيل زادت من سيطرتها على شركة النفط بتروبراس قبل سنتين و حكومة أيفو موراليس في بوليفيا أممت شبكة نقل الكهرباء بعد أن أممت قطاع التوليد الكهرومائي و الأتصالات قبل ذلك. هوغو شافيز في فنزويلا جعل زيادة حصة القطاع الخاص هدفاً جماهيرياً و الأكوادور حذت حذو شقيقاتها في أصدار تشريعات تتيح للحكومة السيطرة على شركات النفط و الغاز في حالة عدم أمتثال هذه الشركات للضوابط و الشروط المعمول بها في البلد.

على الرغم من هذه التوجهات الأقتصادية الجديدة في المنطقة فأن الأستثمارات الأجنبية أستمرت في التدفق على المنطقة بل زادت حيث شهد عام 2011 زيادة في الرأسمال الأجنبي بمعدل 31%.

هناك سبب وراء عمليات التأميم في المنطقة. فحسب تقرير صدر مؤخراً من الأمم المتحدة " فأن معدل تحويل الدخل الناتج من الأستثمار الأجنبي المباشر الى البلدان الأصلية قد أرتفع من حوالي 20 مليار في السنة بين عامي 1998-2003 الى 84 مليار سنوياً بين عامي 2008 -2010. هذا الشئ ليس بالغريب على منطقة أمريكا اللاتينية فقد سبق للكاتب الأرغواني أدواردو كاليانو أن نبه الى هذه الحقيقة في عام 1973 " أمريكا اللاتينية هي شريان مفتوح. منذ الأستكشاف و حتى هذه اللحظة كل شئ يتحول الى رأسمال في أوربا - وبعدها الى أمريكا - ليتراكم من بعد ذلك هذا الرأسمال في مراكز القوة الأقتصادية البعيدة".

قادة أمريكا اللاتينية على ما يبدو يريدون وقف هذا النزيف من خلال عمليات التأميم.

من المحتمل أن يجد هؤلاء القادة دعم من مكان غير معتاد- البنك الدولي. الرئيس الجديد للبنك الدولي جم يونغ كم كان يعمل في القطاع الصحي و ليس من قطاع المال مثل روبرت زوليك أو من اللبراليين الجدد مثل وولف فولفوتز. بالتأكيد فأن شخص واحد لا يغير مؤسسة و لكن هناك من ينتظر هكذا شخصية من موظفي البنك الدولي. فالرئيس الجديد كم يؤمن بالتوجه نحو الفقراء و دعمهم بدل دعم المؤسسات المالية و المضاربين.

أن الوقوف بوجه سياسات التقشف في أوربا, و التوجه نحو المزيد من سيطرة الدولة في أمريكا اللاتينية و التغيير في قيادة البنك الدولي كلها ملامح بسيطة للتوجه نحو ثورة كوبرنيكية في الأقتصاد. لربما ظهرت أول البوادر لهذه الثورة الكوبرنيكية ,و الأبتعاد عن أجماع واشنطن,  بعد الأزمة الأسيوية في 1999 حيث كانت مؤشرات حول ظهور التعددية الأقتصادية. مضاف الى ذلك أن بعض القادة مثل باراك أوباما يحاولون أن يكونوا مثل الفلكي الدنماركي تايكو براهي – الذي حاول تبني نموذج يجمع النموذج البطليموسي مع النموذج الكوبرنيكي. هذا النموذج, و الذي لا يمكن تبريره و ضمان أستمراريته, ببساطة يحاول المحافظة على آليات عمل أجماع واشنطن مع بعض التعديلات الثانوية.

فيما العالم يتأرجح بين أزمة و أخرى و كذلك فأن الأزمة البيئية و أرتفاع حرارة الأرض هي الأخرى تضرب أطنابها, فأن هناك شئ واحد مؤكد: ليس هناك أجماع في واشنطن على ما يجب عمله. اللبرالية الجديدة بقت فقط كتحصيل حاصل لعزم الحركة الموجود فيها و ليس لأنها مقنعة و تمتلك الحلول. في نفس الوقت فأن الكثير من أتباع النموذج الكوبرنيكي الأقتصادي, في مكان ما في عالمنا, يعملون بدأب لأعادة بناء و ترتيب الأمور.

 

* جون فيفر: استاذ محاضر و زائر في العديد من الجامعات الأمركية (مثل جامعة ستانفورد) و الجامعات الكورية و مقيم سابق في أوربا الشرقية و مختص في العلاقات الدولية.

 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات