| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                     الخميس  17 / 4 / 2014

 

من تاريخ الفكر الاقتصادي
التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية
في المجتمعات الرأسمالية

د. عدنان عباس علي  *

الحلقة الثالثة : نظرية روزا لوكسمبورغ

رغبة منها في الرد على توكان بارانوفسكي ومناصريه، ومن أجل إقامة الدليل على زيف ما توصلوا إليه، حاولت روزا لوكسمبورغ (Rosa Luxemburg) (1919-1871) إحياء نظرية ماركس في الأزمة وتجريدها من التناقضات، التي تطرقنا إليها، في الحلقتين السابقتين، وذلك من خلال توكيدها على نقص الاستهلاك، كسبب في نشأت الأزمة.

ورأت روزا لوكسمبورغ، أن تحويل فائض العمل إلى فائض قيمة، هي المشكلة الجوهرية، في عملية تراكم رأس المال. ففي ظل عملية إعادة الإنتاج البسيط، أي في الاقتصاد الساكن، لا توجد مشكلة، بخصوص تحويل فائض العمل إلى فائض قيمة، إذ سيباع هذا الفائض للرأسماليين أنفسهم، كسلعة استهلاكية؛ أما في ظل عملية إعادة الإنتاج الموسع، فإن الأمر يختلف، فهاهنا، تساوي قيمة الناتج الكلي - كما بينا في الحلقة الثانية - مجموع الرأس المال الثابت (اندثار رأس المال) زائداً الرأس المال المتغير (أجور قوة العمل) زائداً مجمل فائض القيمة. فرأس المال الثابت والمتغير لا يسبب لعملية إعادة الإنتاج، مشكلة تذكر – كما ترى لوكسمبورغ عن حق – وذلك لأن الرأسماليين، يقتنون بضائع إنتاجية جديدة، للتعويض عن الرأس المال المندثر. وكذلك الأمر بالنسبة للرأس المال المتغير، إذ أنه سيعود إلى الرأسماليين، من خلال قيام الطبقة العاملة بإنفاق كافة الأجر الذي حصلت عليه، لشراء السلع الاستهلاكية.

المشكل الأساسي يكمن في تحويل فائض العمل إلى فائض قيمة، أي تحويل فائض العمل، إلى رأس مال نقدي. فالرأسماليون سيشترون جزءاً، فقط، من البضائع، التي يتبلور فيها فائض القيمة لأغراضهم الاستهلاكية، وسيبقى، بالتالي، جزء آخر لا يجد مجالاً للتصريف، إذ أن الرأسماليين لا يستطيعون بيعه إلى الطبقة العاملة؛ لأن هذه الطبقة قد أنفقت مجمل أجورها أصلاً. كذلك فإنهم لا يستطيعون أن يستهلكوا هذا الفائض شخصياً، وذلك لأن هذا يعني أن الاقتصاد المعني، قد أمسى اقتصاداً ساكناً، لا يوجد فيه تراكم رأسمالي.

السؤال هو إذن، مَنْ هو الطرف الذي سيستهلك ذلك الجزء من البضائع المنتجة، لكي يتحقق فائض القيمة بصورته النقدية، ولكي تتم عملية التراكم الموسع؟ إن السؤال الذي تطرحه روزا لوكسمبورغ يدور في حقيقة الأمر حول نفس المشكلة التي انطلق منها فيما بعدُ دعاة نظرية نقص الاستهلاك، أي أولئك الذين اعتقدوا أن الطلب الفعال لا يكفي لشراء البضائع المنتجة.

كما لا تأخذ لوكسمبورغ بالفكرة، التي جاء بها ماركس، في سياق عرضه لجداول تشابك فروع الإنتاج. فكما قلنا في الحلقة الثانية، كان ماركس قد علق على المشكلة في مؤلفه الموسومDas Kapital II، الصفحة 335، فأعرب بصريح العبارة:

"نعم، إنه لأمر متناقض فعلاً بحسب ما يبدو للوهلة الأولى، إن الطبقة الرأسمالية، هي التي تزود عملية التبادل بالنقد الضروري لتحقيق فائض القيمة المتبلور في البضائع. وعلى فكرة: إنها لا تطرح هذا النقد كرأسمال مخصص للاستثمار. إنها تنفقه على البضائع التي تستهلكها شخصياً."

كما ترفض لوكسمبورغ الفكرة الزاعمة أن الطبقة الرأسمالية نفسها ستشتري ما يتبقى من الإنتاج، وذلك بغية استثماره وتنمية الطاقات الإنتاجية. فهي ترى أن نقص الاستهلاك لا يمكن تفاديه من خلال زيادة الاستثمار وخلق دخول جديدة، لأن الرأسماليين سيواجهون نفس المشكلة في الفترة الزمنية القادمة، ولكن بصورة أعمق، إذ أن الاستثمار الجديد سيوسع الطاقة الإنتاجية، بحيث يتوفر المجتمع على سلع استهلاكية تفوق قيمتها قيمة السلع الاستهلاكية التي توفر عليها المجتمع قبل زيادة الاستثمار، أي أنه لن تكون هناك فرصة لخلق الطلب الاستهلاكي، المواتي لتصريف مجمل السلع الاستهلاكية.

وغني عن البيان، أن هذا التطور يحتم، والحالة هذه، على المنتجين زيادة استثمارهم مرة أخرى، وبصورة أكبر، لكي تتحقق زيادة في رأس المال المتغير (أجر قوة العمل)، ولكي يتحقق، أيضاً، ارتفاع في الطلب الاستهلاكي. إلا أن هذه الزيادة لن تنفع في حل المشكلة، إذ أن العرض السلعي سيتوسع مجدداً. من هنا، ترى لوكسمبورغ أن جداول تشابك الإنتاج الماركسية غير واقعية، وذلك لأنها تفترض أساساً أن فائض القيمة سيتحقق من خلال ما يقوم به الرأسماليون أنفسهم من استثمار في الآلات والمعدات، ومن خلال توسيعهم للرأس المال الثابت والمتغير.

إن مثل هذه الفرضية أمر ممكن تحققه نظرياً فقط، إنها غير ممكنة التحقق في ظل علاقات الإنتاج الرأسمالية. فالرأسماليون لن يستثمروا رؤوس أموالهم في استخدام قوى عمل جديدة، إذا ما لاحظوا، مسبقاً، أن الطلب السلعي المتحقق في الأسواق، يستوعب إنتاجهم بنحو كاف. من هنا، تؤكد روزا لوكسمبورغ، بأنه، والحالة هذه، لن يكون هناك سبب، يحفز المنتجين، على الشروع باستثمارات جديدة. فجداول تشابك فروع الإنتاج الماركسية، لا توضح، كما ترى روزا لوكسمبورغ، العوامل التي ستدفع المنتجين على الاستثمار، إنما تكتفي بإثبات أن السوق ستكون في حالة توازنية، وذلك لأن إنتاج البضائع الرأسمالية، سيخلق القوة الشرائية الكافية. إن ماركس يفترض، كما تعتقد لوكسمبورغ، أن الرأسماليين يستثمرون لا لشيء إلا لاعتقادهم بأنهم سيشبعون الطلب، الذي سيخلقونه هم أنفسهم من خلال نشاطهم الاستثماري.

إن النتيجة، التي استخلصتها لوكسمبورغ من تحليلها لعملية الإنتاج الموسع في المجتمعات الرأسمالية، هي أن دراسة العملية الفعلية لتراكم رأس المال تستلزم، إن تُؤخذ بالاعتبار عوامل خارجة عن النظام الرأسمالي ذاته.[1] فالحل الذي افترضه مالثوس (Thomas Robert Malthus) لمشكلة نقص الاستهلاك في هذه المجتمعات، أي الحل الذي يفترض وجود طبقة ثالثة مستهلكة ولكن غير منتجة، لا يتسم بالمنطقية أبداً، كما تلاحظ لوكسمبورغ، وذلك لأن دخول هذه الطبقة لا يمكن أن تكون إلا أجراً أو ربحاً، أي أنها إما جزء من رأس المال المتغير، أو جزء من فائض القيمة (ربح الرأسماليين).

فمالثوس كان ينفي إمكانية حدوث توازن بين العرض والطلب في حالة وجود طبقتين فقط – الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة – وما كان يرى أن الطبقة الرأسمالية ستكون – والحالة هذه – قادرة على تحقيق الربح الذي تتوخاه. فالرأسمالي يدفع للعمل الإنتاجي، الذي يشتريه، سعراً هو دون السعر الذي يطلبه الرأسمالي عند بيع منتج ذلك العمل. وهذا الفرق هو بمقدار الربح الذي يهدف للحصول عليه، فالطبقة الرأسمالية لا تستطيع إذن أن تحصل من الطبقة العاملة على ذلك السعر الذي يحقق الربح المنشود، إذ، طبقاً للتعريف، يقل مجموع أجورهم عن مجموع قيم منتجاتهم بمقدار الربح الذي تضيفه الطبقة الرأسمالية على تكاليف الأجور والمواد الأولية ورأس المال.

كذلك لا يعتقد مالثوس بإمكانية تبادل السلع المنتجة بين الرأسماليين أنفسهم، بحيث يتحقق الربح المنشود، ويكون بالإمكان ضمان استمرار عملية الإنتاج والتطور الاقتصادي، وذلك لأن جميع الرأسماليين يبيعون منتجاتهم بسعر يتضمن ربحاً. وهكذا، لن تؤدي عملية تبادل السلع المنتجة بين الرأسماليين أنفسهم إلى ربح صافي. ولما كان من غير المتوقع أيضاً أن يستهلك الرأسماليون أنفسهم الفائض من منتجاتهم، وذلك لأن مثل هذا الاستهلاك لا يتفق – كما يرى مالثوس – مع العادات الفعلية التي تسير عليها غالبية الرأسماليين، الذين كانوا يحاولون، دائماً وأبداً، ادخار ثروة كبيرة، والذين لم يُتِح لهم انشغالهُم بأعمالهم ونشاطاتهم الاقتصادية، الفرصة المناسبة لإنفاق ثرواتهم في مجالات غير إنتاجية.

الحل الأمثل للخلاص من النقص في الاستهلاك الذي يتوقع مالثوس حدوثه في المجتمع، الذي يتكون من الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، يكون في وجود الاستهلاك غير الإنتاجي، الذي تقوم به ارستقراطية الأراضي. من هنا، كان مالثوس على اعتقاد تام، بأنه لن يكون هناك تطور اقتصادي بدون وجود أصحاب الأراضي، بدون وجود الإقطاعيين. فوجودهم هو الذي يجعل بمستطاع الرأسماليين تحقيق الربح المنشود، الذي لولاه لما تولوا عملية الإنتاج. ولهذا السبب اعتقد مالثوس أن الإقطاعيين يقدمون خدمة جليلة للمجتمع.[2] وغني عن البيان أن الأفكار التي يطرحها مالثوس كانت في غاية الرجعية، فهو أراد الإعلاء من دور الإقطاعيين ورجالات الكنيسة في المجتمع.

وبعد أن بينت روزا لوكسمبورغ زيف تحليل مالثوس، أسدلت الستار على فرضية الاقتصاد المغلق، وراحت تمعن النظر في العلاقات الاقتصادية الدولية، مؤكدة على أن التجارة بين الدول الرأسمالية لن تنفع، أبداً، في التخفيف من نقص الاستهلاك على مستوى النظام الرأسمالي العالمي، وذلك لأن نقص الاستهلاك ليس مشكلة طرف معين من أطراف هذا النظام، إنما هي مشكلة النظام ككل. من هنا فإنها ترى أن استمرار عملية التراكم الرأسمالية يتطلب وجود مشترين من خارج حدود المجتمعات الرأسمالية ذاتها، يمكن للرأسمالية أن تبيعهم أكثر مما تشتريه منهم، بحيث يكون في الإمكان تحقيق فائض القيمة. بهذا تكون التجارة بين المجتمعات الرأسمالية والمجتمعات غير الرأسمالية الشرط الأساسي للوجود التاريخي للرأسمالية.[3]

وتدعم لوكسمبورغ رأيها هذا مستعينة بالملاحظة، التي أدلى بها أنجلز في مخطوطة الجزء الثاني من رأس المال، بشأن نظرية ماركس بالتراكم الرأسمالي الموسع، فقد قال بأن ماركس لم يستطع أن يصوغ النظرية بشكل متسق، وأنه نقض وجهة نظره في الجزء الثالث من رأس المال، وفي مؤلفه الموسوم "نظريات حول فائض القيمة". على الصعيد نفسه، تستعين لوكسمبورغ بالتطور، الذي مرت به النظريات الاقتصادية عبر التاريخ، فتؤكد أن قصور الطلب السلعي عن استيعاب فائض الإنتاج، ما كان ماركس أول من أشار إليه، بل هو أمر كان مدار نقاشات مسهبة في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي.

وتشكل هذه الفكرة منطلق روزا لوكسمبورغ في تفسير الامبريالية، فتنافس الدول الرأسمالية، فيما بينها، في الحصول على الأسواق الخارجية الضرورية لتحقيق فائض القيمة، يحتم عليها السيطرة، بقوة السلاح، على ينابيع الطلب السلعي الفعال. إلا أن انتشار الرأسمالية على المستوى العالمي، يؤدي إلى تقليص عدد المجتمعات غير الرأسمالية، وبالتالي، إلى تقليص غزارة الينبوع الأساسي للتراكم الرأسمالي. وهكذا يصبح اتجاه المجتمعات الرأسمالية نحو الأزمة أشد والصراع فيما بينها للهيمنة على ما تبقى من الأقاليم غير الرأسمالية أعنف. إن الأزمة على الصعيد العالمي والحروب الإمبريالية والثورات العارمة ستكون، كما ترى لوكسمبورغ، من جملة النتائج الحتمية، التي ستتمخض عن هذا التطور.

إن هذه الفكرة، التي صاغتها لوكسمبورغ عام 1913 في مؤلفها الموسوم "تراكم رأس المال"، تشكل، في الواقع، جوهر نظريتها في الإمبريالية. وغني عن البيان أن نظريتها هذه وثيقة الصلة بنظرية نقص الاستهلاك، التي طورها، في الزمن السابق على لوكسمبورغ، الكاتب والاقتصادي البريطاني جون أتكنسون هوبسون (John Atkinson Hobson) (1858-1940). فانطلاقاً من نظريته في نقص الاستهلاك، كان هوبسون قد أكد على في مؤلفه المنشور عام 1902 بعنوان “Imperialism: a study“ أن الإمبريالية "ضرورة تاريخية، وآخر مرحلة في التطور البدائية التي لا تزال تسودها علاقات إنتاج تعود إلى عصور ما قبل الرأسمالية، وسينعكس أثره، أي اثر نمو المجتمعات الرأسمالية، ليس على داخل البلدان الرأسمالية فحسب، بل وعلى أقاليم العالم الأخرى. فروزا لوكسمبورغ ترى أن تاريخ الاستعمار يبين بجلاء، أن هيمنة المجتمعات الرأسمالي.[4]

إلا أن من نافلة القول التأكيد على أن نمو المجتمعات الرأسمالية سيكون على حساب الاقتصاديات الرأسمالية على اقتصاديات لمناطق غير الرأسمالية يؤدي إلى تحولات جذرية في البلدان المُستَعمَرة، فهذه الهيمنة تتسبب، أولاً، في تفكك عرى اقتصاد الاكتفاء الذاتي، وتتسبب في انتشار الملكية الخاصة للأراضي في المناطق المعنية من ناحية، وفي تراجع أساليب الملكية الجماعية للموارد الطبيعية، من ناحية أخرى. وثانياً، في دفع اقتصاديات الاكتفاء الذاتي إلى الأخذ بأصول الإنتاج السلعي، أي تنفيذ طرق الإنتاج الضرورية لتحقيق إنتاج يفيض على إشباع الحاجات الخاصة. وتفعل فعلها، ثالثاً، في يقوض تدخل الدول الرأسمالية أسس الاقتصاد الزراعي، وتمهد، رابعاً، الطريق أمام الإنتاج الرأسمالي الواسع، وذلك من خلال الرأس المال، المقدم من القوى الاستعمارية بنحو مخصوص. أي وبعبارة واحدة، أن هذه الهيمنة تقدم للدول الرأسمالية المكاسب التي هي بأمس الحاجة لها، في سياق سعيها لتحويل فائض الإنتاج إلى فائض قيمة. وللتدليل على وجهة نظرها هذه، تتناول روزا لوكسمبورغ بإسهاب، الصراعات الدامية التي رافقت الجهود المبذولة لتحقيق فائض القيمة، مستشهدة، في هذا السياق، بحرب الأفيون في الصين واستعمار جنوب أفريقيا، والحرب الأهلية الأمريكية ومحاولات الرأسمال الألماني للهيمنة على بلدان شمال أفريقيا وأسيا الصغرى.

وغني عن البيان، أن نظرية لوكسمبورغ في الامبريالية، تختلف عن نظرية لينين بنحو بين. وتظل هذه الحقيقية قائمة، حتى إن أخذنا بالاعتبار أن لينين استعان بنفس المصادر التي استعانت بها لوكسمبورغ في صياغة نظريته في الامبريالية، أعني، أولاً، مؤلف هوبسون (John Atkinson Hobson) “Imperialism” (الامبريالية) المنشور عام 1902. وثانياً، مؤلف رودولف هلفردنغ (Rudolf Hilferding) (1877-1941)، المنشور عام 1910، بعنوان "الرأسمال المالي"، (Das Finanzkapital). علماً بأن هذا الماركسي النمساوي كان يتمتع باحترام واسع في صفوف المفكرين الماركسيين وكان مؤلفه المذكور المرجع الثاني بالنسبة لهؤلاء الماركسيين، بعد كتاب كارل ماركس الموسوم "رأس المال".

وكيفما اتفق، فقد لخص لينين وجهة نظره في الامبريالية، من خلال عنوان دراسته، المنشورة عام 1917: "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، علماً أن الرأسمالية المقصودة هنا هي الرأسمالية الاحتكارية.

ويتضمن هذا التعريف للامبريالية أهم العناصر، التي تتصف بها أعلى مراحل الرأسمالية. فمن خلاله يُراد الإشارة، من ناحية إلى أن إن الرأسمال المالي هو الرأسمال المصرفي المتداول بين بضعة مصارف احتكارية عملاقة، والمتلاحم مع رأسمال الاتحادات الصناعية الاحتكارية، ومن ناحية أخرى، إلى أن اقتسام العالم بشكل تاماً تقريباً، كان بداية التحول من سياسة كولونيالية سيطرت بقوة سلاحها الحربي على مناطق كانت لا تزال غير خاضعة للقوى الاستعمارية، إلى سياسة كولونيالية تسعى، من خلال الهيمنة الاحتكارية، إلى بسط نفوذها على ما تبقى من مناطق العالم بغية اقتسام هذه المناطق فيما بينها. وبرغم اعترافه بأنه لا يزال بعيداً عن تقديم نظرية متكاملة، يسوق لينين، في سياق سعيه الحثيث لتحديد مصطلح الامبريالية بنحو دقيق، خمسة عناصر أساسية للامبريالية :
1. تركز الإنتاج ورأس المال، بنحو يساهم في نشأة احتكارات ذات تأثير حاسم في الحياة الاقتصادية.
2. تشابك الرأسمال المصرفي مع الرأسمال الصناعي ونجاح عدد ضئيل من المؤسسات الاحتكارية في الهيمنة على أسواق المال، من خلال ما لديها من رأسمال مالي.
3. مقارنة بأهمية الصادرات السلعية، يكتسب تصدير رؤوس الأموال أهمية أكبر، مع مرور الزمن.
4. سيطرة الاتحادات الاحتكارية على السوق العالمية، واقتسامها هذه السوق فيما بينها.
5. نجاح القوى الرأسمالية العظمى في السيطرة على المعمورة بنحو تام وبسط سيادتها على أقاليم العالم المختلفة.

إن "الامبريالية ما هي إلا رأسمالية، تمت فيها هيمنة الاحتكارات والرأسمال المالي على العالم، واكتسب فيها تصدير رؤوس الأموال أهمية عظيمة، وبدأ فيها تقاسم العالم بين المؤسسات الاحتكارية (Trust)، وانتهت فيها الدول الرأسمالية العظمى من تقاسم كافة ربوع العالم."[5]

إلا أن وجهة نظر لينين لا تنتقص من أهمية آراء لوكسمبورغ، فحين تقيم روزا لوكسمبورغ الدليل على أن الاستعمار ضرورة حتمية بالنسبة للرأسمالية، فإنها لا تجرد نظرية الأزمة الماركسية من التناقضات فحسب، بل هي تضفي على هذه النظرية بعداً جديداً أيضاً، تضفي عليها بعداً لم يخطر على بال ماركس. فحسب ما أكدته، فإن نظريتها في الاستعمار

"تطرح جانباً التناقض الأساسي بين القدرات الإنتاجية والإمكانيات الاستهلاكية، السائد في المجتمع الرأسمالي، والناجم عن التراكم الرأسمالي أصلاً، والذي ينعكس في أزمات دورية، ويحفز رأس المال على توسيع نطاق السوق بلا انقطاع."[6]

ولم تحظ آراء روزا لوكسمبورغ بتأييد المفكرين الماركسيين، وإنما على العكس من ذلك، فقد كانت معارضتهم لها شديدة جداً. وكان لينين في مقدمة أولئك الماركسيين، الذين حاولوا تفنيد آرائها والدفاع عن ماركس. إلا أنه لم يستطع أن يضع أسس نظرية في الأزمة ذات طابع خاص به. وتبقى هذه الحقيقة قائمة، حتى إن أخذنا بالاعتبار التطبيل الذي قابل به الماركسيون رده على روزا لوكسمبورغ.

فشغف روزا لوكسمبورغ في الوصول إلى الحقيقة ساهم في ارتدادها عن الفكر العقائدي، لاسيما بعد تحول الماركسية إلى عقيدة تجمدت الدماء في عروقها وفقدت الروح. وبصفتها تلميذة حقيقية لماركس، فإنها أبت أن تسجد أمام "السلطات المعصومة من الخطأ"، وأصرت على التفكير والتصرف بشكل مستقل حتى عن أستاذها نفسه - عن كارل ماركس. كما أنها اختلفت مع لينين اختلافاً شديداً، إذ أنها أخذت تشنع عليه بأنه يريد فرض دكتاتورية الطبقة العاملة على المجتمع، وبات يتعامل مع الشيوعيين أنفسهم بنحو دكتاتوري.

فروزا لوكسمبورغ دافعت بقوة عن المبادئ التي أذاعها كارل ماركس وفريدرش أنجلز على الملأ في مؤلفهما الموسوم "البيان الشيوعي". لكنها، مع هذا، لا ترى أن الواجب يفرض عليها أن تؤمن بنظرياتهما كما لو كانت مقولات منزلة من السماء، وأن تردد وجهات نظرهما بلا تمحيص وتروٍ. فهي تقول، في مؤلفها "تراكم رأس المال":

"إن الماركسية عقيدة ثورية، ديدنها يكمن، دائماً وأبداً، في السعي الدءوب لاكتشاف حقائق ومعارف جديدة، عقدية تستنكر بشدة التحجر في صيغ نالت الاعتراف في سابق الزمن، عقيدة تحتفظ بحيويتها من خلال تسلحها بالنقد الذاتي وتجاوبها مع الأحداث والانعطافات التاريخية."[7]

ومهما كانت الحال، فقد تركز رد الماركسيين الرافضين لنظرية روزا لوكسمبورغ في الأزمة على أمرين:

فأولاً: لا يمكن للدول الرأسمالية أن تبيع للدول غير الرأسمالية أكثر مما تستورد منها، إذ لا بد أن تعجز مجموعة الدول غير الرأسمالية، في يوم من الأيام، عن شراء البضائع من الدول الرأسمالية.

وثانياً: تجاهل روزا لوكسمبورغ أهمية توقعات المنتجين بخصوص الأرباح، فتحليل ماركس لعملية الإنتاج عامة، ولعملية إعادة الإنتاج الموسع بنحو مخصوص، يوضح، بصورة مسهبة، استحالة وجود نقص في الاستهلاك، إذا كان الرأسماليون واثقين من أن استثمارهم لرؤوس أموالهم يدر عليهم الربح المنشود، ومادام استثمارهم هذا يحقق لهم، فعلاً، هذه الأرباح. فتطورات إيجابية من هذا القبيل تدفعهم فعلاً إلى زيادة الاستثمار طلباً لتحقيق أرباح أكثر. وهكذا، وإثر ارتفاع مستوى استخدام قوى العمل وزيادة ثروة الرأسماليين، سيرتفع مستوى الاستهلاك السلعي بكل تأكيد. وبهذا المعنى، لم يكن ارتفاع الاستهلاك هو العامل المسبب في إسباغ النشاط على عملية الاستثمار، بل كان النتيجة التي ترتبت على هذا النشاط.

وكيفما اتفق، فإن ما عجزت عن تفسيره النظريات المختلفة، لم يبق لغزاً وخيالاً، بل سرعان ما أصبح حقيقة واقعية. فقد ازداد عمقاً واتساعاً الجدل حول الأزمة وكثرت الآراء والنظريات المتداولة في صفوف الاقتصاديين – وفي صفوف الاقتصاديين الماركسيين بنحو مخصوص، وكأن حدساً كان يدفعهم للخوض في هذه الأمور، التي ستكون عما قريب واقعاً ملموساً. ففي عام 1929 اندلعت أزمة اقتصادية جديدة شملت - بعمق لم يعرفه التاريخ وبشدة غير معهودة - المجتمعات الرأسمالية على الصعيد العالمي. وظلت هذه المجتمعات تعاني من وطأة هذه الأزمة على مدى سنين كثيرة، واتسمت اقتصادياتها بركود اقتصادي يزداد تفاقماً من يوم لآخر، وزيادة عظيمة في أعداد العاطلين عن العمل، واتساع دائرة الفقر المدقع بنحو مثير للقلق. وهكذا، استعاد النقاش حول أسباب الانتكاسة أهميته من جديد.


[1] R. Luxemburg: Die Akkumulation des Kapitals oder was die Epigonen aus der Marxschen Theorie gemacht haben. Eine Antikritik. 1917, S 16.
[2] د. عدنان عباس علي: تاريخ الفكر الاقتصادي، الجزء الأول، بنغازي 1991، الصفحات 246 -248.
[3] R. Luxemburg, Die Akkumulation des Kapitals ... a.a.O. S.17.
[4] Rosa Luxemburg: Die Akkumulation des Kapitals, S 363; Paul Frölich: Rosa Luxemburg – Gedanke und Tat. Berlin 1990, S. 212.
[5] W. I. Lenin: Der Imperialismus als höchstes Stadium des Kapitalismus. 6. Auflage, Dietz Verlag, Berlin 1962, S. 94f.
[6] Rosa Luxemburg: Die Akkumulation des Kapitals. S. 296.
[7] Rosa Luxemburg: Die Akkumulation des Kapitals oder Was die Epigonen aus der Marxschen Theorie gemacht haben. Eine Antikritik. S. 523.

 

 * أستاذ جامعي من العراق
 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات