| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

                                                                                     الثلاثاء 14/8/ 2012

 

الهوية القلقة ، وراء تشوّه المشهد الحضري العراقي

د.هاشم عبود الموسوي *

من بين أهم المشاكل الحضرية التي نشعر بها نحن المختصون بجماليات المدن في وقتنا الراهن ، هي تلك المتمثلة بتردي معظم المشاهد الحضرية في المدن العراقية , وقد يكون ذلك ناشئ أيضا الى حدٍ كبير من جراء ضعف دورنا كمصممين حضريين في تشكيل البيئة الحضرية المناسبة في مدننا, وهو ماقاد بالتالي الى ظهور مشاهد غير مدروسة ومرتبة عشوائياً وغير متناسقة فيما بينها, مما ساهم الى حدٍ كبير في الغاء كل ما من شأنه تعزيز مفهوم هوية العمارة فيها. وهنا يجب التشديد والتأكيد على أن التصميم الحضري يلعب دوراً مهما في تنظيم المشاهد البصرية في المدينة ، ويعمل على صياغة متسلسلة ومرتبة لمشاهد حضرية وفق صيغٍ جمالية تسر الناظر وتشيع في نفسة البهجة والشعور بالراحة والسرور. وكما قيل سابقا بأن البشر هم الذين يبنون مدنهم ، وهي التي بالتالي تبني شخصياتهم .

إن الإختلال في الكثافات السكانية والإسكانية، ومشاكل التلوث والازدحام، وقبح وبشاعة مشاهدها الافقية، إضافة الى ضعف مستوى ومكونات شبكة الخدمات والمرافق العامة: الاسكان، والمؤسسات التعليمية، والخدمات الصحية، والمتنزهات والمناطق المكشوفة، والمواقع السياحية، وقنوات مياه الشرب والمجاري والصرف الصحي وأنظمة جمع القمامة، وشبكة المواصلات والغاز والكهرباء. الى جانب ضعف الأجهزة والهياكل الادارية التنظيمية والتنفيذية والفنية المسؤولة، ،لكل ذلك تأثيرا مباشراً على ظاهرة إنعدام الهوية و عدم الشعور بالمسؤولية لدى قطاعات عديدة من المجتمع ، حيث بدأنا نرى أنه تحت وطأة الفقر والأزمات الأقتصادية والنقص الحاد في قطاع السكن ، إضطر الكثيرمن الموطنين من ذووي الدخول المتوسطة الى شراء قطعة أرض لا تتعدى مساحتها(40-50)مترا مربعا ، بعدما إرتفع سعر الأرض وبلغ المتر المربع الواحد في بغداد وبعض المحافظات، أكثر من مليون دينارا عراقيا ، ويوافقهم بعض المهندسين بوضع تصاميم لهم مشوهة وخالية من أي إبداع ، وغالبا ما تكون هذه البيوتات الصغيرة لا تحتوي على نوافذ ولا تهوية كافية ، مما يؤثر ذلك الى إحتباس الهواء الفاسد فيها وزيادة ثاني أوكسيد الكاربون ، ويؤدي هذا الى حالة من الكآبة لدى الساكنين .. وليس الأغتراب الذي يعيشه المواطن العراقي حاليا سوى إنعكاس لوضعه السكني ، إضافة الى التلوث البصري وتشوه المنظر البصري الذي يعيشه يوميا خارج منزله. .. كل ذلك يجعل الناس يشعرون وكأنهم يعيشون جنب بعضهم البعض كأفراد منعزلين .. وبهذا يتعذر الكلام عن شئ إسمه إنتماء أو هوية .

هنالك قول مأثور مفاده بأن كل مجتمع وبلا مواربة ، يجب أن يتمتع بالعمارة التي يستحقها ولا يمكن إنتاج عمارة جيدة في بلدان ذات نظم رجعية أو إستبدادبة أو بالية ، في حين أن النظم الديمقراطية "وبحكم الواقع" و انعكاسا لوضعها فقط هي التي تدعم التقدمية في كل مناحي الحياة ومنها الفن والعمارة والعمران.

وهذا التبسيط الشديد يفيدنا في إجلاء حقيقة إن كل المعماريين يعملون ضمن إطار اجتماعي سياسي قائم ، والذي إلى حد كبير أو قليل يشجع أو يحد لا محالة من دوافعهم الإبداعية ، وهي حالة قد لا تصح بالضرورة في نظم التصميم الأخرى مثل الهندسة الميكانيكية على سبيل المثال ،"والتي حدث أنها في أزمان ما ، إزدهرت في ظل النظم الاستبدادية "وهذا يوصلنا إلى رأى أو قول مأثور آخر تبناه المعماريون التقدميون وهو أن فن العمارة بخلاف الهندسة الميكانيكية يستجيب ويتفاعل إلى حد كبير مع الأوضاع الأجتماعية، وسايكولوجية أفراد المجتمع . وعند النظر الى المجتمعات البشرية المستقرة والراقية ، نستطيع أن نشعر بحالات الأفراد وسلوكياتهم ، وهمومهم ، حيث نجدها منسجمة مع هموم المجتمع ، ومنضبطة بمؤسساته .. وحيث يتعامل الأفراد في تلك المجتمعات مع الحاجيات بموجب توازن معقول( والبيئة المبنية التي تمثلها " العمارة" ، تعتبر واحدة من تلك الحاجيات ) التي أثر المجتمع المتماسك بتوجيهها بشكل مناسب عن طريق وجدانية جمالية يتحلى بها ، وتنظيمات إدارية محددة . ولكن عندما يقلق الفرد (مثلما هو حال الأنسان العراقي في ظرفه الراهن) ، ويتعرض للتهديد فقد تصبح هويته قلقة ، ويكون مضطرا الى اللجوء لدعم فئوي أو طائفي أو طبقي أو اثني ، من أجل أن يحمي هويته المبتسرة . وبهذا يكون قد أهمل تفاعل همومه مع التماسك الأجتماعي بعامته. وبذلك إنفصل همه ومحتوى حاجاته عن محتوى حاجات المجتمع ، ولا يمكن لنا في هذا المجال ، أن ننسى ما أفسدته الحروب من ترابط مدني ، حين أبدلت الحوار المدني بحوار حربي (أي حوار العنف بدلا من حوار المنطق) .

وكنتيجة حتمية لهذا المسار نجد الفرد يحاول أن يختزل تذاوته مع المجتمع ، وحصره في المنفعة الأنانية الذاتية ، ويقوم بشكل لا واعي بافساد مقومات هويته ، .. وبذلك ظهرت صورة اللاإنسجام في كل مرافق الحياة وصيغها المتنوعة .

ولو نظرنا الى المشهد الحضري الحالي ، نجد إن ما ينتج من المشاريع العمرانية في السنين الأخيرة قد توجه الى إرضاء الحاجة النفعية ، كسلعة ترنو الى الحصول على مربح جشع منفلت ولا أخلاقي .

ومن هنا فقد تم إهمال أهم مطلبين اجتماعيين من تلك المشاريع المعمارية و العمرانية ، الا وهي ( رمزيتها وجماليتها ) ..

 

* رئيس قسم هندسة العمارة / الجامعة الملكية البريطانية / أربيل


 

 

 

free web counter