| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

السبت 15/5/ 2010

 

مرثية اللون
في رثاء الصديق الفنان رحمن الجابري

ماجد الخطيب


"أن النازلة التي حلّت بصاحبي تقض مضجعي
آه، لقد غدا صاحبي الذي أحببت ترابا
إنه أنكيدو، خلّي وأخي الاصغر
الذي أمسك بثور السماء وقتله
صاحبي وخلّي الذي أحببته حبا جما
فبكيته في المساء وفي النهار
ندبته ستة أيام وسبع ليال
معللا النفس أنه سيقوم من كثرة بكائي ونواحي
".
(
جلجامش)

لا عجب أن يراود جلجامش وصديقه أنكيدو أحلام يقظتي كلما فارقني خل عزيز. فمشهد القتال ضد الثور السماوي، الذي رسمه الراحل رحمن الجابري في التسعينات، بقي راسخا في عقلي الباطني، تثير ألوانه المتصادمة وخطوطه الحادة ذكرى تلك الواقعة الاسطورية العظيمة، وتستدعيه الذاكرة في مرثية الراحلين.

في يده، إلى ريشة الفنان رحمن، المصنوعة من شعر ذيل الثور السماوي ذاك، تسللت قوى أخرى مستمدة من أساطير الهلينيين. لم يحمل رحمن الأفاعي على رأسه، لم يحمل في يده قوسا ونبالا، ولم تحّول نظرته الناس إلى حجر، لكن لمسته"المدوزية" كانت كفيلة بتحويل كل شيء جامد إلى عالم حي من الألوان.

كان ملوّنا من الصنف الأول يضع يده المدوزية على الأشياء فتغدو طافحة بألوان الطيف الشمسي وتدرجاتها. يدخل فضاءا أجرد، يضع لمساته عليه، فيكسبه ألوانا لا تحصى، متداخلة، متفائلة، تعانقها الكلمات. يقتني من على ناصية الطريق خزانا خشبيا أجرد، فتحوله الألوان إلى صندوق دنيا رائع الألوان. يمسك ابريق الشاي الذي لا يفارقه، يمرر عليه فرشاته السحرية، كما يمرر صانع القبعات السحر عبر قبعته في بلاد العجائب، فيسيل الشاي في الاقداح متعدد الألوان حلو المذاق.

يخلط اللون بروحه، يمزج المواد بخلايا عقله وينسج اللوحة سجادات وتشكيلات لم تبتعد يوما عن نبض الحياة والناس. كانت اللوحة لديه قصيدة لسعدي يوسف تنعى حاج عمران، عمالا عائدون إلى بيوتهم بعد يوم عمل قاس، امرأة تنتظر اللاشيء قرب شباك، عصفورة تبحث عن الأمان، أو وجوه تتجمع في حديقة وصفها السياب.
كان مليئا بالحياة، بحب الحياة، بحب الآخرين، بحب الأطفال وبحب الرسم، وحب الألوان. ينظر الجابري إلى العالم والاشياء والأصدقاء من وراء كاليدوسكوب يحول اللون الواحد إلى ألوان، ويحول الألوان إلى حديقة من الأزهار والفراشات والوجوه. كان خصبا كالأخضر، مسالما كالأزرق، حرا كالأصفر، وشجاعا كالثور أمام الأحمر.

وإذا كانت ألوان الاسود والأبيض والبني والرصاصي، وكل ما هو قاتم، قد تخللت حياته، بسبب موضوعات الحروب والتشرد التي أقلقت باله طويلا، فأنه منحها صرخة ضد الظلم والحروب والطغاة. منح اللون في تلك الفترة صوتا، أنه صوت اللون الممتزج بروحه، ذلك الصوت الذي تفجر لاحقا بالألوان كالألعاب النارية.
تشبث بالحياة برغم المرض وحرص على أن لا يفوته يوم دون أن يرسم . وبينما كانت المواد الكيمياوية، ذات الألوان المشعة، تتسلل إلى جسده بالضد من طغيان الخلايا البيضاء، وبينما كان اللون الداكن يتسلل خلسة إلى عينيه، كان الجابري يتفجر باللوحات الزاخرة بالأحمر، لون كريات الدم، والأخضر لون الحياة ، والأزرق الصافي لون السماء.


رحل الفنان والخل رحمن الجابري وترك ذخيرة هائلة من اللوحات والكاريكاتيرات والمقالات. وحينما يوارى التراب في الأرض الباردة البعيدة عن" كميت" و"الزبير"، سيلفه الظلام بالأسود، الكفن بالأبيض، الخشب بالبني الغامق والتراب بلون الأرض، لكن الحشيش الأخضر سيغطي قبره، ومن بين العشبة والعشبة ستطلع أزهار صغيرة كسبت من لمسته المدوزية الملونة، ألوان الأحمر والأخضر الأصفر والأزرق.

"عسى آثارك في غابة الأرز
أن تبكي من أجلك ليل نهار
وعسى أن ينوح عليك شيوخ أوروك المسورة
وعسى أن يتردد صدى البكاء في الأرياف
وكأنه بكاء أمك...
وعسى ان يبكيك نهر"أولا"
الذي مشينا على ضفافه
وعسى أن يندبك الفرات الطاهر الذي كنا نستقي قربه
ومحاربو اوروك المسورة الواسعة...
وعسى ان يندبك من عظّم أسمك في اريدو
ويبكيك من أطعمك الخبز
ومن مسح ظهرك بالزيت
ويندبك من سقاك الجعة...
ويندبك من جلب لك الخاتم
والزوجة التي اخترت
".
(
جلجامش)

 

كولون 14 أيار 2010


 

free web counter

 

أرشيف المقالات