| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 14/6/ 2010

 

غرفة العناية المركزة

انتصار الميالي

وهي تناوله الشاش وبعض القطن ليغرسه في الجرح عله يخفف من نزيف الدم الذي غطا جسدها النحيل ، وإذا بصفارات الإنذار تملأ المكان وصوت سيارات الإسعاف يملأ مسامعهم ا، هرعا إلى خارج الغرفة وتركاها وحيدة في غرفة العناية المركزة. ليس معها سوى طيف يغطيه الدم والدخان.
من خارج أسوار المستشفى تأتي أصوات كثيرة،ضجيج المولدات وأصوات سيارات الإسعاف والشرطة وسيارات المسؤولين،وصراخ الناجين من انفجار عبوة ناسفة والطائرات المروحية.
كانا يركضان فرحين باللعب التي اشترياها من محل العم ابوغزوان ضحكاتهما تكاد تكسر السكون وتنسيني ذلك الضجيج الذي بات يؤرق كل من حولي.
وهي تنشر الغسيل في شرفة الشقة لمحت جارتهم أم عمر وهي عائدة من العمل:
كيف حالك خالة، ماذا لديك من إخبار اليوم... ألا يوجد تعيينات لديكم بالوزارة..؟
أم عمر... لا يا ابنتي لو كان هناك تعيينات لما هاجر عمر وتركني وحيدة، وأنت تعرفين لو كانت هناك تعيينات فلا تكون لي ولك.
وبينما هي تنتظر عودة والدها وإخوتها من الدوام. دخلت إلى المطبخ لتساعد والدتها في إعداد طعام الغداء.وفجأة وإذا بصوت انفجار كبير يهز المكان، فزعن من قوة الصوت وأصابهن القلق وبدأت إلام بالبكاء،فزوجها في الطريق وأبنائها عائدون من الجامعة،ماذا يفعلن؟؟ بمن يتصلن وجميع الخطوط مغلقة ومشغولة؟؟
كانت هادئة جدا على غير عادتها، أو ربما هو الوضع جعلها تبدو كذلك لكنها صامتة قلقة وتتمتم ببعض الكلمات في نفسها: تبا لهذه الشبكة!؟
تبدو أكثر تماسكا وقوة. ووالدتها في الشرفة تنتظر بقلق علَّ احد أبنائها يعود أو ترى زوجها.
كانت تتمتم في جوفها: كم هو ليئم ذلك القلق.
كانت لاتزال ابنة 18 ربيعا عندما عرفت مامعنى الحرب والقنابل ودوي الانفجارات وأناس تموت محترقة في الملاجئ، لازالت هذه الصور محفورة في ذاكرتها مثل ملايين الصور التي رسمتها في طفولتها عن الحلم والمستقبل وفارس الأحلام الذي رحل ولن يعود.
على شاطئ دجلة كانوا يجتمعون وينتشرون كالفراشات ضحكات ورقص طفولي،تذكرت كم من الوجوه مر عليها،عائلة العم أبوعلي وأطفاله مها وإستبرق وعلي وأكرم وجارتهم أم جوان وأولادها يوسف وعمار،وحنان وريم وتارة وزينب ومريم زميلات الصف الثالث متوسط.
فجأة وإذا بالهاتف يرن..ركضت مسرعة رفعت السماعة وإذا به صوت والدها:
لاتقلقوا علي إنا في الطريق هل انتم جميعا بخير ؟؟؟
أجابته: نعم لكن تانيا وبسام لم يعودا بعد من الجامعة.
الوالد: ربما تأخرا بسبب الازدحام لاتقلقي سنكون بخير انشاء الله وودعها واقفل الخط.
أغلقت الهاتف وهي تقول (الحمدلله).... وعادت إلى ذكرياتها القليلة المليئة بملايين الصور واللقطات.
وإذا بجرس الباب ركضت وفتحته وإذا بها الجارة أم عمر تحمل معها قدرا صغيرا وتقول:
هذه (دولمة) يحبها عمر وتمنيت إن نأكلها سوية بعد إن يعودا تانيا وبسام والوالد.
نسرين: شكرا خالة لماذا أتعبت نفسك.
أم عمر...لا يوجد تعب وهذه الأكلة تحب (اللمة) وفرصة نأكل سوية.
شاشات التلفزيون كانت تتحدث عن الانفجار وتصريحات المسؤولين التي باتت لاتقدم شيئا ومئات الجرحى وعشرات القتلى الأبرياء، نساء وأطفال وطلبة هم المستقبل وكسبة ينتشرون من اجل قوتهم اليومي.جميعهم كان هناك من ينتظر عودتهم سالمين إلى بيوتهم.
ام نسرين..... ياألهي إلى متى نظل هكذا، إلى متى يستمر الإرهاب يأخذ ألاف الضحايا، ماالذي فعلناه..ما ذنب هؤلاء المساكين.
أم عمر.... كم أم ألان جرح قلبها بفقدان ابنها أو ابنتها وكم زوجة فقدت من يحميها هي وأولادها الصغار، انتهى عمرنا حروب وفراق وموت وألم وقهر لماذا ياالهي يحصل كل هذا؟؟؟.
كانت تنصت إلى كلامهما وتشاهد التلفاز،لكن ذهنها ذهب بعيدا، كانت تفكر ماذا لو كان احد الضحايا أخي أو أختي أومن الأصدقاء والذين نعرفهم،وتذكرت كيف قتل علي وانتقلت عائلته إلى إحدى مدن الوسط، وكيف هاجرت جارتهم أم جوان بعد إن هددتهم عصابة بقتل ولديها،تذكرت رحيل عمر والألم الذي تركه خلفه في قلب والدته، وأطلقت آه كبيرة كانت تعتصر صدرها وتكاد إن تخنقها،وبقيت تتمتم: كلهم ذهبوا لم يبقى لنا أحد ماذا يريدون منا بعد ماالذي لم يأخذهوه بعد..؟؟؟
انتبهت أمها وجارتها لما كانت تقوله ولتلك الحسرة التي خرجت من أعماقها وسئلا ها: ماذا بكِ؟؟
فيما تفكرين..؟ كنت أكثرنا هدوءا ماالذي حصل لكِ ؟؟؟؟
أجابت بحدة : لم يحصل شيء سوى الكل يموت والكل يهاجر والباقي عمرهم ذهب سدى ومابقى غير المجرمين والمسؤولين الذين يتفرجون علينا، هل هناك ماينتظرنا بعد...؟؟
أم عمر... ياابنتي هذا قدرنا وهذه مشيئة الرب والحمدلله على كل حال.
وإذا بجرس الباب يدق نهضت مسرعة وفتحت الباب وإذا به والدها وبسام وتانيا...ابتسمت وهي تقول الحمدلله عدتم سالمين كنت خائفة ان اخسر أحدا منكم اليوم..
وبينما هم يرتاحون من العودة جهزت ووالدتها المائدة وهيأت الإطباق وهي تقول اليوم ستأكلون من يد خالتنا أم عمر دولمة من التي يحبها عمر.
وجلسوا جميعا يتناولون الطعام وهم يتحدثون عن الوضع والأمن والتفجيرات التي تخطف الأرواح البريئة.
كانت هي معهم جسدا فقط، لقد ذهبت بها ذكرياتها إلى ماقبل خمس سنوات أي قبل إن يهاجر عمرو يترك مساحة من الذكريات التي لن تعود عن الطفولة وعن الصبا وحتى الشباب كم كان يمزح وكم كان يحب إن يوتر المكان بنكاته، كم كان طيبا وخفيف الظل حتى في اشد الظروف.
وسحبتها ذكرياتها إلى حلمها في إن تلتقيه مرة أخرى ولو لمرة واحدة في حياتها، كم كانت تتمنى إن تعرف إخباره وكيف هو ألان وما شكل الأوطان التي أصبحت مأوى له، وهل يتذكرها كما هي تتذكره......؟؟؟؟
الوالد.... نسرين هل يمكنني إن احتسي كوب شاي بالهيل من يديك ياابنتي العزيزة.؟؟؟
نسرين... من عيوني وقفزت من مكانها كعصفورة تنفض عنها بلل الذكريات.
وعادت وهي تحمل صينية الشاي وتقول هل أعطيك أولا ياابتي أم أسقي النساء أولا..؟
الوالد مبتسماً: أنت تعرفين طبعي جيداً لكنك تتعمدين سؤالك ، اعملي الأصح والسيدات أولا.
ضحك الجميع رغم الوجع الذي تركه ذلك النهار في نفوسهم والقلق الذي كان يسير في دمائهم ، وقبل إن تعود أم عمر لمنزلها طلبت من ابونسرين إن ترافقها نسرين غدا إلى السوق فهي بحاجة إلى بعض الإغراض للبيت.
ابونسرين لم يمانع بل قال: أنها ابنتك وأي شيء تحتاجينه نحن اهلك ، كان الفرح يملأ عيني أم عمر التي غرقت بدموع الأمان لسماعها هذه الكلمات.
غادرت أم عمر والكل انشغل في انجاز مالديه من واجبات خاصة بالبيت أو الدراسة أو العمل.
أنهت نسرين مالديها من إعمال المنزل وجلست إمام التلفاز كعادتها تفتش عن فيلم تعيش من خلاله ساعاتها المسائية بهدوء،وتوقفت عند لقطات من فيلم ذهب مع الريح الذي شاهدته أكثر من 6 مرات لكنها تحب رؤيته في كل مرة. وانتهى الفيلم وذهب الجميع للنوم.
هي كانت تفتش عن بقايا طيف غفي على وسادتها علها تمسك بخيط منه. وبينما هي تفتش وإذا النوم يسرقها لتغفو بسلام.
الساعة السابعة وزقزقة العصافير تملأ المكان وأشعة الشمس بدأت تتسلل من زجاج النوافذ إلى زوايا البيت وصوت المذيع في إذاعة مونت كارلو يستعرض الإخبار ويتوقف عند أهم الإحداث في العراق، انفجارات وضحايا وأجهزة أمنية وحكومية مشلولة ومخترقة وتصريحات مسؤولين غير مسؤولة.
الجميع مستيقظ ويتهيئون للخروج كي يستطيعوا الوصول قبل إن تختنق الشوارع ولايعود باستطاعة احدهم إن يصل لمحل عمله أو جامعته.
نسرين تسرع من اجل ترتيب بعض إعمال المنزل وتنظيف المطبخ قبل إن تتهيأ للخروج مع الخالة أم عمر.
غادر الجميع وبينما نسرين تهم بالخروج وإذا بدقات على الباب، أسرعت إليه وفتحته وإذا بها الخالة أم عمر فرحبت بها وأذنت لها بالدخول.
أم نسرين: أهلا أم عمر كيف حالك اليوم..؟
أم عمر: إذا كان الأمر يتعلق بي فأنا بخير لكنني حزينة فقد استشهد ابن موظفة تعمل معي في الدائرة في انفجار الأمس، لازال في المرحلة الثالثة من كلية الفنون الجميلة. كان شاطرا وخلوقا ومطيعا لوالديه....
أخيرا همتا بالخروج وهما تسيران حتى الشارع العام ليأخذا سيارة أجرة للوصول إلى وجهتهن في باب الشرقي،وهناك بدأتا بالسير من محل لأخر علَّ الخالة أم عمر تجد ماتبحث عنه.
نسرين: عن ماذا تبحثين ياخالة؟
أم عمر: عن شي كان عمر يحبه كثيرا ويتمنى لو انه يحصل عليه وكان يعجبه جدا إن يكون لديه واحدا بالبيت.
نسرين.. ذهبت بها ذكرياتها إلى ابعد من ذلك، حيث الأحلام والضحكات والأمنيات والوجوه الجميلة التي غيبتها الانفجارات وسياط الإرهاب.
وفجأة وإذا بصوت انفجار كبير يهز إنحاء المكان ودخان وأجساد تتناثر هنا وهناك، واطلاقات نار عشوائية ومرتبكة تتطاير من بنادق رجال الشرطة علهم يسيطرون على الوضع لكن دون جدوى.
كان هناك الكثير من الدماء وأهات الجرحى أو من بقي يتنفس وملطخا بدماء من كان إلى جانبه.
في غرفة العناية المركزة وبينما الكل منشغلون بإسعاف هذا وذاك وتلك.
هي كانت وحيدة على سرير الوجع يأخذها طيف الذكريات المؤلمة في غيبوبة طويلة لاتستطيع التنفس فهي مختنقة حتى الموت.
وبعد مرور شهرين على الحادث كانت نسرين تنظر من شرفة الدار علها ترى الخالة أم عمر ثانية وهي تلقي عليها تحية الصباح إثناء خروجها للعمل، ليتها تستطيع ذلك.
أم عمر هاجرت إلى بلد أخر حيث يسكن أخيها الوحيد لتواصل علاجها هناك بعد إن فقدت البصر وتنتظر لعلَّ شملها يلتئم مع ولدها عمر، وعلى صوت فيروز ورقصات طيور الحب التي كان يحبها عمر كثيراً، ويتمنى الحصول عليها... تجلس نسرين كل يوم لتراجع شريط ذاكرتها... مقعدةٌ على كرسيها المتحرك.








 

free web counter

 

أرشيف المقالات