| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 13/1/ 2013



افتتاحية المدى

إعادة الاعتبار للهوية الوطنية درءاً للتآمر: البدايات الخاطئة للمصالحة والطريق إلى مجتمعٍ معافى

فخري كريم 

رغم خطأ البدايات، تواصل الحكومة النهج ذاته في معالجة انفصام المجتمع العراقي وعودة مكوناته إلى هوياتها الفرعية، الطائفية والمذهبية بشكل خاص. وتشهد الحياة السياسية هذه الأيام صعوداً ملفتاً للانقسام الطائفي في الشارع، واحتقاناً يعبّر عن نفسه بمظاهرات احتجاجية في المناطق السنية، تُواجهُ بمسيراتٍ سياسية لدعم رئيس دولة القانون في بعض المناطق الشيعية، تندد بالطائفية "شكلاً" وتؤججها فعلاً، إذ تؤشر للآخر وتحاصره بإثارة الفتنة.

إن لغة المخاطبة للمتظاهرين، بمفرداتها وتهديداتها وأسلوب التعامل معها، هي الأخرى تنطوي على انحيازٍ سافر، سياسي من حيث الإطار، طائفيٌ من حيث المضمون. ففي الوقت الذي يندّد رئيس مجلس الوزراء، رئيس كتلة دولة القانون، بالقائمين على مظاهرات المناطق السنية، ويتهمهم بنقل الخلاف السياسي إلى الشارع بدلاً من الحوار والاحتكام الى الدستور والقانون، يحشد هو أنصاره ومريديه ويحرضهم على الخروج في مظاهراتٍ تأييدية مفضوحة لشخصه ولبقائه في الحكم ، ولو أدى ذلك الى سقوط الدولة وانهيار القانون. ولكنه لا يكتفي بالتحريض لإخراج مظاهراتٍ مليونية مناصرة، بل يوجه بتأمين حمايتها امنياً، وتمكينها من التحرك حيثما يشاء قادتها، مقابل اتخاذ إجراءات أمنية وتوجيهاتٍ "انتقائية" ضد مظاهرات الطرف الآخر ومحاولة ترويع المشاركين فيها. وإذ يغلق ساحة "الأحرار" في نينوى بوجه المتظاهرين يفتح ساحة التحرير أمام أنصاره لرفع صوره وترديد الشعارات التي تلهج بمآثره .

إن مظاهر اختراق المظاهرات التي اندلعت في المناطق الغربية ونينوى في الأيام الأولى من انطلاقها من قبل البعث وأوساط أخرى مشبوهة ورفع شعاراتها وإعلام النظام السابق، أثارت القلق والاستنكار من جميع القوى الوطنية، وواجهتها بتنديد حازم قياداتٍ سياسية ودينية وطنية سنية، مثلما فعلت المراجع الشيعية العليا. وجرى التصدي بوضوح للمطالبات غير الدستورية بإلغاء قانون المساءلة والعدالة والمادة ٤ إرهاب. وكان على الحكومة أن تدخل كطرفٍ للحل، بالنسبة لما لا يشكل خرقاً للدستور أو تعدياً على صلاحيات مجلس النواب، لا أن تتحول إلى عامل تأجيجٍ للصراع والمواجهة في الشارع عبر كتلة رئيس مجلس الوزراء نفسه. ومن خلال التصريحات الاستفزازية الهوجاء للناطقين المفوّهين باسم دولة اللاقانون، والتي بدت بعضها سافرة في نزوعها الطائفي وفجة في موالاتها الخائبة وتعاليها السياسي، وكأن رئيسها حقق للعراق المعجزات بحيث أصبح العراق بفضله واحة للديمقراطية والحريات، وجنائن للحياة الفاضلة الرخية الكريمة!.

لقد كان بيّناً، منذ الشروع بما سمي بالمصالحة الوطنية، أنها سوف تُعقِّد المشهد السياسي بدلاً من معافاة المجتمع العراقي وتجاوزه لمحنة عقود من سطوة الدكتاتورية وأهوالها والتي كان من نتائجها المباشرة بتفكيك نسيج وحدته الوطنية. وإذا تجاوزنا الآثار السلبية لقرارات وقوانين بريمر والبيئة الطائفية - السياسية التي نجمت عنها. وقد شكل مفهوم المصالحة، باعتبارها مجموعة إجراءات وتدابير فوقية بين الكتل والقيادات السياسية، جوهر الإخفاقات والخطايا التي تتالت على المشهد السياسي وظلت سبباً في تآكل ما كان يُنجز "شكلياً" طوال السنوات التي تلت الشروع بالعملية الخائبة. ولم يتوقف الخلل المفهومي عند التدابير والإجراءات الفوقية، بل عمقها إضفاء الطابع الحكومي المعزول عليها، وذلك بتشكيل وزارة تختص بالمصالحة وشؤونها، ما حصر المفهوم بتفاهمات ضبابية مع قوى وجهات "شبحية" مسلحة، ممّا أدى في واقع الحال إلى إنتاج عشرات المنظمات المسلحة "المقاومة" ومئات القيادات المعنية بالمسلحين. وعوضاً عن تراجع العمليات الإرهابية ونشاطات المسلحين التخريبية، أصبحت العمليات أكثر تنظيماً وتطال عشرات المدن والأهداف في وقت واحد!

ومن الملفت أن قياداتٍ عليا في وزارة الداخلية والأجهزة الامنية توقعت "دون شعور بالحياء" أن أجيالاً جديدة من الإرهابيين والمنظمات الإرهابية في طريقها إلى إزهاق أرواح العراقيين وتدمير ممتلكاتهم. وبشكلٍ متوازٍ لهذا الهذر الأمني تستمر وسائل الإعلام الرسمية بنشر منجزات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الخاصة بإلقاء القبض على آلاف الإرهابيين المطلوبين والخلايا النائمة، ووضع اليد على أكداس لا تنتهي من الأسلحة والعتاد والمفخخات والمتفجرات، وكأننا أمام محيطٍ لا قرار له من وسائل وأدوات الموت بانتظار شعبنا بعد ست سنوات من "صولة الفرسان" التي قادها "مختار" عصرنا في البصرة، وما حمله من بشرى بنهاية قريبة للإرهاب والانفلات الأمني في البلاد، وما تزال البشرى تجد لها وسائل للترويج والتسويق.

ورغم الإخفاقات المستمرة، فان المديرية او الهيئة المختصة بالمصالحة التي آلت إليها صلاحيات الوزارة المنحلة تواصل اتصالاتها داخل العراق وخارجه، بحثاً عن الإرهابيين والمسلحين المستعدين للمصالحة، وتخرج علينا بين فترة وأخرى بنجاح في انضمام "شبح" جديد الى الصفوف الوطنية التي اختارت العمل السياسي وهجرت العمل المسلح! وقد باتت لانضمام الأشباح إلى العملية السياسية طقوسٌ ومراسيم، فالشبح لا يكشف أسرار تنظيماته، وربما لا يتصدر الاحتفال بالعرس الوطني بمناسبة انضمام "تنظيمه" المسلح رأس التنظيم أو القيادة العامة له بل ممثل للتنظيم وبعض من قادته .!

لقد عرفت الأوساط السياسية والمواطنون أسماء محددة من تنظيمات ما سمي بـ"المقاومة"، وكذلك اكتشفت من خلال وسائل الإعلام بعضاً من قادتها ورموزها، وتفهمت ان العملية السياسية استمالت القوى الأساسية التي كانت تحمل السلاح بوجه الاحتلال، بعد أن تخلت عن السلاح واعتمدت السياسة أسلوباً لنشاطها، وتوافقت وتشاركت في الانتخابات والبرلمان والحكومة. وهي تفاجأ حتى الآن بان المصالحة الوطنية التي تستند اليها العملية السياسية، ما تزال تراوح في مواقعها التي انطلقت منها في البدايات، بل ان مظاهرها اصبحت اشد وطأة على الحياة السياسية واكثر تأثيراً على الاصطفافات في المجتمع. ان لوثة الطائفية والتمييز المذهبي والاقصاء والاستئثار بالسلطة ومظاهر الاستقواء بها لحسم الصراعات بين الفرقاء، وكل المثالب والاوبئة التي كانت في اساس الدعوة للمصالحة الوطنية، ما تزال تهيمن على الساحة السياسية وتعيد انتاج الأزمات والمواجهات والانقسام والاحتقان والتوتر، وكأن ذلك كله ما هو إلا الحصيلة الفعلية للمصالحة الشبحية بمفاهيمها والأساليب والوسائل التي اعتمدتها، وان ما حققته تجسد في إضفاء المزيد من التشوه على مفاصل الدولة واجهزة الحكم وإدارتها، من خلال استمالة بعثيين ومسلحين مشبوهين وأشباح فازت بجوائز المصالحة، بالانضمام إلى فريق رئيس دولة القانون وحاشيته المتنفذة .

ان المصالحة الوطنية "المُضيّعة" بالتدابير الفوقية لا يمكن ان تؤدي إلى معافاة المجتمع وانتقاله الى مدارج السلم الأهلي والاستقرار والتنمية المستدامة، والخروج من نفق الأزمات الطائفية والاستبداد الكامن، لان تلك التدابير بطابعها الإداري ليس في مقدورها أن تلامس المصالح المباشرة للناس المتضررين من السياسات المتلاحقة للأنظمة الدكتاتورية والفاسدة عبر عقودٍ من التحكم ومصادرة الإرادة الحرة، وليس بإمكانها التعبير عن هواجسها وتطلعاتها ومطامحها المكبوتة. وما يحقق لها كل ذلك سياسة وطنية شاملة، تحدد شروط الانتقال من المحاصصة الطائفية الى الدولة الديمقراطية المدنية ، دولة المواطنة المتساوية والحريات والقانون .

لكن هذا التحول من المواجهة الطائفية إلى المواطنة يستلزم، لإرساء اسس مصالحة مجتمعية عميقة الجذور ثابتة البنيان، ثلاثة شروط مترابطة ومتلازمة :

- برنامج تنمية اقتصادية وتطور اجتماعي يضع حداً لتبديد ثروات البلاد الطبيعة بالقضاء على الفساد ، وتنمية الثروات البشرية والارتقاء بها بدءا بإنهاء البطالة والفقر والتفاوت الاجتماعي والأوبئة.

- استكمال بناء الدولة ومؤسساتها وتكريس استقلالية السلطات الثلاث عن بعضها البعض، وفي مقدمتها السلطة القضائية .

- تطهير الأجهزة الأمنية والعسكرية من العناصر المتشربة بقيم وعادات وأساليب الانظمة الاستبدادية ومفاهيمها المضادة لحقوق الإنسان .

لكن هذه الشروط تتحقق فقط في ظل حكومة توافقٍ وطني ديمقراطية، تكرس مفهوم تداول السلطة واحترام إرادة الشعب، وتنبذ كل أدران الطائفية ومظاهرها وأساليبها.

وحتى تبدأ اول خطوة على هذا الطريق سيبقى المجتمع أسير ضلالات الطبقة السياسية الفاسدة.
 


المدى
العدد (2698)  13/1/2013


 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات