| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الخميس 13/12/ 2012

 


لقد دأب الكثير من المناضلين الذين عايشوا فترة انقلاب 8 شباط 1963 , على تجسيد الطبيعة الأجرامية المتوحشة لأنقلابيي 8 شباط القتلة , لكي تبقى هذة الجريمة النكراء وصمة عار في جبين مرتكبيها على مر العصور .
بيد ان هناك جوانب اخرى لهذة المرحلة المظلمة من تاريخ شعبنا وحركته الوطنية , واعني بها الصمود الأسطوري لقادة الحزب ورفاقه الأبطال الذين واجهوا صنوف التعذيب حتى الموت , وهم يذودون ببسالة عن مبادئهم  واسرار حزبهم . والى جانب شعلة الشهداء الوهاجة هذه , كان هناك مناضلون ومناضلات , لم يقعوا في قبضة العدو , واصلوا العمل والنضال في تلك الظروف الدموية الصعبة , لأعادة بناء منظمات الحزب. وشاءت الظروف ان اكون واحداً من هؤلاء المناضلين في تلك الفترة , وشاهداً عليها .

ايام لا تُنسى
(2)

همام عبد الغني

كان " الكشك " فقيراً جداً , فكل رأسمالنا لا يزيد على النصف دينار , ان لم يكن اقل , نشتري يومياً صندوق او اثنين من المشروبات الغازية ( مشن وبيبسي كولا ) , وكان غذاؤنا يومياً صمونة وقنينة مشن لكل منا , وفي المساء كما ذكرت الدبس والراشي , وكنا نجمع عشرة فلوس يومياً , لتكون سبعين فلساً في نهاية الأسبوع , يأكل احدنا وجبة باجة , بالدور .

بعد اسبوع من حادثة الرسالة , تمكنت من الأتصال بالأهل بالتلفون , وعلمت ان الوالد والوالدة اخلي سبيلهما بعد اربعة ايام , كما اشرت سابقاً, وابلغت الوالد اذا ما طالبوهم بتعهد جديد , ان يرفض , فلن يفعلوا لهم شيئاً , وفعلاً بعث الأمن يطلبهما للسؤال عني , فأبلغوهم , بأنهم لم يعثروا عليّ وحين طلبوا منهما توقيع التعهد من جديد رفضا بذريعة انهما كبار السن وضعاف الحال , وليس بامكانهما التفتيش عني , واخيراً اكتفوا بأن طالبوهم شفوياً , ان يبلغوهم اذا اتصلتُ بهما . أما اختي وابنة اختي فقد تعرضتا للضرب والتعذيب الوحشي , لمعرفة مكان تواجدي , لكنهما انكرتا رؤيتهما لي , وقد أُخلي سبيل الطفلة بعد يومين, اما اختي فقد قدمت لمحكمة سريعة وحكمت بالسجن عشرة اشهر لتدخل سجن النساء الى جانب زوجتي واختي الكبرى . أما زوجتي , فقد حدثتني بعد ان انهت محكوميتها , بأن لجنة تحقيقية خاصة جاءت الى سجن النساء , وحققوا معها ان كانت تعرف مكاني , فنفت ذلك , ثم عرضوا عليها الرسالة لتتعرف على الخط , فأنكرت انها تعرفه , او ان لها علاقة بالرسالة , وتقول " كنت اغلي خوفاً عليك , ولم استطع ان اسأل إن كنت وقعت بأيديهم ام لا ؟ . وفي نهاية التحقيق , سأل احدهم الآخر " واين هو هذا ال ....الآن ، فردَّ عليه ,"هرب الجبان ..النذل , هرب بنفسه وتسبب باعتقال اهله" , تقول عند هذه الكلمة شعرت بانطفاء النار التي تأججت في صدري .

في اليوم الثالث لوجودي مع المناضلين عبد الله وأمين , وبينما كنت احمل " سطلة " قناني البيبسي كولا , بين ممرات المستشفى , التقيت بالأخت الفاضلة ام حازم , حياة عودة , فأشحت بوجهي عنها كي لا تعرفني , وكانت تعمل ممرضة في المستشفى , وشعرت انها ما عرفتني , وزاد اطمئناني , انها لم تحاول ان تكلمني اطلاقاً , وحين كانت تلقي عليّ السلام كانت تناديني عبد الرحمن , واستمرت هكذا حتى سقوط البعث وحرسه القومي يوم 18 تشرين الثاني 1963 , اذ جاءت بعد ان فتحنا الكشك مرة ثانية لتسلم عليّ باسمي " خويه همام شلونك " فسألتها مستغرباً , هل عرفتيني ؟ فأجابتني "عرفتك منذ اليوم الأول , لكنني لم اشعرك بذلك لئلا ترتبك بسبب معرفتي لك" .

بعد فترة قصيرة من وجودي في الكاظمية التقيت بالرفيقة نجية حسين ( ام بشرى ) وكنت اعرفها من البصرة , التقيتها حين جاءت بأحد اطفالها للمستشفى , وكانت مختفية في مدينة الحرية على ما اذكر , وصرنا نقدم لها ما امكننا من مساعدة مادية لتعيل اطفالها , حيث كان زوجها المناضل المرحوم عبد علوان الطائي في السجن قبل انقلاب 8 شباط الأسود .

استئناف العمل الحزبي
بعد ان استقر بنا الحال , بدأنا نفكر ونتداول موضوع عملنا الحزبي والسياسي , وقد وضعنا خطة من ثلاث نقاط:

الأولى , العمل الهادئ بعيداً عن التهور او الخطأ , وتركز اساساً على ان نحافظ على سلامتنا وسلامة من يرتبط بنا.

والثانية , فهي ربط اي عنصر نعرفه جيداً, ولم يقع بيد العدو , والمحافظة عليه , ويكون عملنا هذا بمنتهى الحيطة والحذر والتكتم .

اما النقطة الثالثة , فهي البحث الهادئ والحذر عن مركز الحزب , واعادة ارتباطنا التنظيمي . وقد التزمنا بالنقطة الأولى التزاماً تاماً , حيث لم نقدم على اي عمل او خطوة تعرضنا للخطر . وفي تطبيق الفقرة الثانية فقد فرضوا عليّ ان لا اتحرك او اتصل بأحد , باستثناء العناصر التي اعرفها تماماً كالرفيقة ام بشرى مثلاً , بسبب عدم امتلاكي لأية وثيقة تمكنني من التحرك , ولكوني ملاحقاً بشدة بسبب موضوع الرسالة وذيولها .

اما بالنسبة لفقرة البحث عن مركز الحزب , وتحقيق الأرتباط , فقد كانت بمنتهى الصعوبة , اذ أن التنظيمات المقطوعة كثيرة , وربما نقع بكمين للعدو , وكان الجميع يدّعون انهم مركز الحزب.

تمكنا بفترة قصيرة ان نتصل بالكثير من العناصر المنقطعة , وكانت الأتصالات فردية , او كما يسمى ( التنظيم الخيطي ), وقد عثرنا على تشكيلات لم يكن اعضاؤها شيوعيين قبل 8 شباط 1963 , مدنيين وعسكريين , بل كانت احدى التشكيلات مكونة من رجال شرطة المرور فقط , وما يبعث على الأعتزاز ان تلك التنظيمات كانت نظيفة , فلم يحصل فيها اي اختراق او اعتقال . وطبعاً لم يكن لدينا احصائيات أو خلايا او اشراف للتأكد من الأرقام الدقيقة , ولكن حجم المنظمة بلغ قرابة 400 عنصر , وقد رحلناهم الى منظمات الحزب بعد ان تم الأرتباط بالمركز بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 , كما سيأتي لاحقاً.

طوال فترة العمل , التي استمرت قرابة اربعة اشهر , وحتى ارتباطنا بالحزب , لم نجمع اية اشتراكات او تبرعات من العناصر المرتبطة بنا , اذ لم يكن لدينا اية مصروفات , فلا طباعة ولا وسائط نقل ولا اوكار حزبية ,كما ان غالبية العناصر هم من الهاربين والعاطلين عن العمل .

خلال تلك الفترة السوداء , ارتكبت خطأً صغيراً , كاد ان يفضحنا , لكنه مر بسلام , وقد حاسبتُ نفسي عليه حساباً شديداً . فقد كان بين الأطفال المرضى , طفلٌ بعمر الورد , بين الخامسة والسادسة من عمره , اسمه علي , من عائلة ميسورة , كما استنتجنا , كان علي مصاباً باللوكيميا "سرطان الدم" , وكان يحتاج الى الدم بين فترة واخرى .

وفي احد الأيام , وبينما كنت ادور على الزائرين بقناني المياه الغازية , وجدت عدداً من عائلة علي , نساءً ورجالاً والقلق والحزن بادٍ على وجوههم , وفهمت من بعضهم ان علياً بحاجة الى دم , وان الحضور اعطوه من دمهم , ويرفض الأطباء سحب المزيد من الدم منهم , وليس هناك من يسعفهم ويتبرع بدمٍ على وجه السرعة .

كانت طبيبة الأطفال شابة يبدو عليها حديثة التخرج , وكان باب غرفتها مفتوحاً والعائلة متجمهرة هناك , فقلت لها: دكتورة افحصي دمي . قالت أتريد التبرع ؟ قلت نعم افحصيه. فأخذت عينة من دمي وفحصته , وقالت انه يناسب . تجمهرت العائلة حولي يرجونني ان اتبرع للصغير . فقلت خذي الكمية التي يحتاجها الطفل . وجرت عملية سحب الدم , وحين امتلأت القنينة التي استعملتها , قالت للممرضة باللغة الأنكليزية , لا تدعيه يراه , dont let him see it .

هنا ارتكبت الخطأ الذي مر بسلام حيث قلت لها , لماذا دكتورة , انني لا اخاف , خذي الكمية التي يحتاجها الطفل . فردت " انت تعرف انكليزي ايضاً , انا منذ البداية غير مقتنعة بأنك بياع بيبسي " , قلت يا دكتورة من يدري , ربما سيسل هذا الدم مجاناً فخذي قنينة اخرى لأنقاذ الطفل " إلا انها رفضت , وقالت هذا يكفي . بعد قليل من سحب الدم , جاءتنا وجبة طعام من المشويات من عائلة علي , وبينما كنا نأكل ضاحكين , كان الصغير علي ينتعش تدريجياً بدمي الذي كان رخيصاً حقاً في تلك الأيام , وكان عبد الله يمزح مع اهل علي قائلاً " اذا تحتاجون باجر هم ينطيكم دم وجيبولنه وجبة ثانية " . لم احدث الأخوان عن ملاحظتي المتسرعة التي قلتها , لكنني أنبت نفسي بشدة عنها .
 

يتبع


ايام لا تُنسى (1)
 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات