| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 12 / 3 / 2014

 

افتتاحية المدى
 

العراق والسعودية و"زورخانة عكد النصارى"

فخري كريم 

المتدربون الجدد في وزارة الخارجية العراقية، وفي كل المعاهد الدبلوماسية، بطبيعة الحال، يتعلمون في اول درس حول العلاقات والسياسة الدولية، ان السياسة الخارجية لكل دولة تبنى وتنطلق من المصالح المشتركة. والسياسة الناجحة للامم المتحضرة، الديمقراطية بوجه خاص، تُحسب بالمستويات التي تحققها على مختلف الاصعدة، السياسية والاقتصادية والثقافية، ومدى تعبير ذلك، وانعكاسه على التبادل التجاري البيني، وتطور القيم المتبادلة، والحرص على تحويل الميزان التجاري لصالحها.

ولا يمكن ان يتحقق ذلك الا في ظل اوضاع طبيعية وبيئة سياسية ومناخ قانوني يعزز ثقة الدول والامم الاخرى، ويشجعها على توثيق عرى العلاقات والصداقة، وتشجيع التبادل التجاري والاستثمار.

ويأتي في مقدمة اهتمام الدول المتحاددة او المتشاطئة، تخصيص مساحة واسعة لارساء العلاقات فيما بينها، على قواعد راسخة من التفاهم والتعاون، وتنمية الآليات التي من شأنها، معالجة اي اختلاف او اشكالية، مهما كان حجمها او تداعياتها، او انعكاساتها الداخلية والخارجية، بالوسائل الدبلوماسية، السلمية، ومن منطلق المصالح الحيوية المشتركة، بما يؤدي الى تطويق ما تثيره من ازمة، او تخلقه من تعثر وصعوبات في العلاقات.

ويتعلم المتدرب على الشؤون الدبلوماسية، حتى في ادنى سلم الوظائف، ان السياسات الخارجية لا تبنى على "التقاطعات الأيديولوجية"، ولا تخضع لأمزجة ومصالح الحكام، ولا تتبدل بتغير فصول السنة، بل تتحرك على ارضية المصالح المشتركة وحدها، وتتفاعل مع استعداد كل طرف لاحترام السيادة والاستقلال والمصالح الوطنية للطرف الآخر وخياراته في التطور الحر والمستقل على مختلف الاصعدة والميادين.

وفي هذا السياق، تتابع الحكومات الرشيدة، عبر بوابتها الخارجية المتمثلة بوزارة الخارجية ووزيرها، ما يجري من تطورات في البلدان الاخرى، المحاددة، او المتشاطئة، اولاً، ورصدها من وجهة معايير المصالح، دون ان تتدخل، او تتصرف باتجاه مخل، او توحي بسياقاتٍ غير مقبولة في العرف الدبلوماسي الاممي، بترجيحها خياراً داخلياً لصالح طرفٍ في السلطة او خارجها.

فأين هو موقع السياسة العامة المُنتهجة في العراق، وما هي عواقبها على السياسة الخارجية، وهي قائمة على محور انتاج أزماتٍ مستديمة، وادارة اشتباكاتٍ مغامرةٍ في الخارج، وتصدير الاختناقات الداخلية الى الخارج، لمعالجة مأزقٍ داخلي..؟

إن موقع العراق الجيو- سياسي، وتكوينه الاجتماعي - الديني - المذهبي، جعل من بيئته، في ظروف سيادة انظمة شمولية غير متصالحة مع شعوبها ومع الديمقراطية بوجه عام، بيئة متناقضة في داخلها، معكوسة على محيطها العربي والإقليمي. وكان متوقعاً ان تثير هذه البيئة في اطار الموقع الجيوسياسي اشكاليات وتوترات وتوجسات من عراق ما بعد سقوط الدكتاتورية والاحتلال الاميركي. وقد لعبت السياسة الاميركية، وهي تعتمد الخيار العسكري لإسقاط نظام البعث، دوراً استفزازياً لأقرب حلفاء واشنطن في المنطقة، باعلانها "تحرير" العراق نموذجاً لتصدير "ديمقراطيتها"، ولوحت بوسائل مختلفة بأن الأنظمة المترهلة الثيوقراطية او المستبدة، موضوعة على جدول العمل، وقد يكون العراق، بما سيكون عليه، حافزاً ومنطلق وثوب.

ولا يمكن عدم الاخذ بالاعتبار، في تكوين البيئة الحذرة المتشككة، المتحفزة، مع بدايات التحول السياسي على الوجهين، البعد المذهبي، بتأكيد نفوذ الأكثرية الشيعية في ادارة سلطة الدولة من جانب، والبعد الديمقراطي - الجنيني الذي تجلى في اندفاعة الشارع، وفي الحلقات المتصلة من الاستفتاءات والانتخابات والنقاشات العاصفة، غير المسبوقة في العراق والجوار العربي والاقليمي من الجانب الآخر. وقد لعبت السياسات المعزولة عن الواقع، المتخبطة، للحاكم المدني الأميركي بول بريمر، سواء في القوانين التي اصدرها، او الاسس التي اعتمدها في اعادة بناء الدولة واجهزتها الامنية والاستخبارية، او حل الجيش "المنحل" اصلاً، ثم اعادة تشكيل وحداته على خرائب النظام السابق، دوراً كارثياً على سيرورة البلاد وما آلت اليه، وعلى علاقات العراق الجديد مع جيرانه ومحيطه العربي والإقليمي. وهو ما وضعه الآن على نيران الفتن والأزمات المستدامة.

واذا تأملنا الخارطة السياسية، وموقع العراق فيها، وما يحادده من دول وانظمة، في مختلف اتجاهاتها، لوجدنا انه غاطس في بيئة تجاذباتٍ سياسية - طائفية بامتياز. ولا قدرة له على تغيير هذه الخارطة، او طمس المعالم التكوينية لجيرانه.

ولا شك في ان الالتباسات التي كانت في أساس إطاحة الدكتاتورية، والوسائل التي تحققت بها، والتغييرات الداخلية الصادمة، التي قلّبت المواقع، وغيرت موازين القوى في هرم السلطة والدولة في طور التكوين، جعلت من "العراق الجديد" هدفاً لكل اشكال وصيغ التدخل السياسي "والجهادي"، وممراً لاجتياح قطعان الارهاب التكفيري الممول من بلدان "الضد السياسي والمذهبي".

واتخذ الصراع مع النظام الجديد والشعب العراقي، طابعاً عدائياً دموياً، وتحول الى ساحة مفتوحة للقتل على الهوية، تحت شعار "التحرير" المخادع، وأدى الى مزيد من الاحتقان الطائفي والسياسي، وأثر سلباً على العملية السياسية والتوافق الوطني بين اطرافها والمكونات الاجتماعية في البلاد، وعطل عملية اعادة بناء الدولة، ومشاريع الاعمار والتنمية فيها، وكاد ان يقود الى اشعال نيران فتنة وحربٍ اهلية.

كان النظام العربي، بتكوينه "السني"، بكل دوله تقريبا، طرفاً فاعلاً في المواجهة، متورطاً بدرجات متفاوتة في تقديم الدعم اللوجستي، او المالي والسياسي والاعلامي للمنظمات الارهابية التكفيرية، ولفلول النظام السابق، وحزب البعث، وتوزعت المهام بينها، لتشكل معاً حاضنة لها، سواءً بتأمين التجنيد من سائر بلدان العالم، او خطوط المواصلات العابرة للحدود، او التدريب والتسلل الى العراق، اضافة لضخ مليارات الدولارات لها. واشترك الجميع في التحريض على العراق. عبر إصدار الفتاوى الباطلة، وإثارة الضغائن المذهبية، وإفشال اي مسعىً لاستقرار البلاد، وإعادته الى الاسرة العربية والإسلامية والدولية.

كان الثالوث السعودي - السوري - القطري، قاطرة دفع في الهجوم والرعاية ومد الخطوط.
ولكن، على الجانب الآخر، لم تلعب الأوضاع الداخلية السياسية في العراق الجديد، دوراً من شأن تفعيله، تهدئة الخواطر، وابعاد الهواجس والشكوك، وقد تعذر ذلك، بسبب طابع الشحن المتبادل على الجانبين، التعريض العربي الإسلامي بالعراقيين، من جانب، بالانتقاص من وطنية "الشيعة"، والتشكيك بدعوى الاكثرية والاقلية التي تتحكم بالقرار السياسي في الدولة العراقية، مما أدى عملياً لتحدٍ واصطفافٍ طائفي في المقابل، للتحّصن ضد انتهاك السيادة، والتجاوز على المعادلة السياسية الجديدة.

كانت قطر، وما تزال، بتصعيد علني متواصل، حاملة تلك السياسة وعرّابتها، والحاضنة لكل التنظيمات والقوى المعادية للعراقية، وبشكل خاص فلول البعث والنظام السابق. وهي اذ تقوم بهذا الدور، لا تخفي أجندتها الطائفية والمذهبية، ولا تتستر على هذا الدور المنافي للأعراف والمواثيق الأممية والدولية، مما يشكل انتهاكاً صارخاً لها، يفرض المساءلة والإدانة والتجريم.

وعلى صعيد الموقف السعودي من العراق، دخلت العلاقات بين البلدين في نفقٍ من تبادل التهم والشكوك حول النوايا، لكنها اتخذت في مرحلة من ولاية رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، طابع "شخصنة" ارتبطت بالصراعات الداخلية، وموقفه من التوازنات التوافقية في اطار العملية السياسية، والتدابير التي افضت الى طائفة من الاجراءات المخلة، ونزوعٍ نحو الانفراد في السلطة، وتقويض المسار الديمقراطي، بتهميش القوى الاخرى، واستهداف قياداتٍ في القائمة العراقية، الى جانب عزل الشركاء الاخرين، من التحالف الكردستاني، والتحالف الوطني الشيعي، عن مركز القرار السياسي، وادارة الدولة. وتفاقم الوضع وانعكس سلباً على مسارات السياسة الخارجية، ووجدت هذه التطورات صدىً على العلاقات العراقية - السعودية.

واذا تجنبنا الخوض في كل تفاصيل هذه العلاقات، واسباب تدهورها، والمسؤولية المباشرة عن تفاقمها، وانقطاع صلة الوصل والود بين الطرفين، واحتكمنا الى منطق المصالح، وليس الاختلاف الأيديولوجي، فان فرصاً عديدة بانت وأشّرت الى امكان التقاطها من الجانب العراقي "صاحب المصلحة" في الانفراج بين الدولتين، بددها المالكي وفرّط بها، حتى اذا افترضنا ان الجانب السعودي لم يتحرك بمستوى مناسب، او لم يكن مهتماً من جانبه لإنجاح مسعىً للتطبيع مع الحكومة العراقية. ولم يكن التفريط بالتقاط فرص التهدئة والتطبيع، معزولاً عن الانطلاق من "العداوة الشخصية" التي تتحكم في نهج المالكي السياسي، كما هي عليه سياساته ومواقفه من شركائه في الحكومة والبرلمان والعملية السياسية، وما تجسده من استخفافٍ وخيلاء واستهانة بالمصالح الوطنية العليا، والمسار الديمقراطي المتعثر.

لقد كانت سورية، البوابة المنظمة، المدعومة بكل أسباب النجاح، لتسلل كل قطعان "المجاهدين" الإرهابية من كل اقطار العالم، ولم تكن الحدود مفتوحة فحسب، بل اتيح للزمر البعثية والمنظمات الإرهابية والتكفيرية، امكانية التدريب والتأهيل والاستقواء والتموين على اراضيها، حتى ان المالكي لوح بمقاضاة سورية امام المحافل الاممية، وسحب السفير العراقي من دمشق. ومع كل ذلك، لم تعد العلاقات السورية العراقية الى حالتها الطبيعية فحسب، وانما ازدهرت حد التكافل والتضامن ومد يد العون باشكال مختلفة الى القيادة السورية في مواجهتها للمعارضة المسلحة على اراضيها. ولا احد ينتقد العراق على عملية التطبيع، لولا دخوله طرفاً مباشراً في الصراع الداخلي المحتدم وغير المتكافئ، وهو ما قد يشكل خطراً على المصالح والسيادة الوطنية العراقية.

اذاً، لماذا يتعامل السيد المالكي مع الملف السعودي باستخفاف وتعالٍ، لا ينسجم مع ما يواجه العراق من تحدياتٍ وأزماتٍ داخلية وخارجية، تتطلب عقلانية راجحة تطفئ ما تبعثه من نيرانٍ وتتجنب ما تتساقط عليها من رمادٍ حارق؟

ان ما شهدته المملكة العربية السعودية في السنوات الاخيرة من حراكٍ وتطور اجتماعي وسياسي، حرّيٌ بمتابعة دقيقة متروية. وهي ليست من باب التطورات المحكومة بالارادة الذاتية، المعزولة عن العوامل الموضوعية المتنامية، والصراع بين القوى الساعية لاجراء تحول يتجاوز الصيغ القائمة التي تقيّد التقدم الاجتماعي الضاغط، والخطاب الديني "المذهبي" المنتهية صلاحيته الساعي لفرملة وإعاقة ما ينبغي ان تكون عليه البيئة السياسية - الاجتماعية والثقافية في المملكة العربية السعودية، التي لا تتوافق ولا تنسجم مع ثنائية "الشيخ - الحاكم" التي تصبح شيئاً فشيئاً من تراث الماضي.

لقد كان تعاطي المالكي سلبياً، مع ما اتخذته قيادة المملكة من إجراءات وتدابير مشددة ضد المحرضين على الارهاب تحت شعار "الجهاد" و"المجاهدين" في الداخل، وملاحقتهم في الخارج، ولم تكن الاجراءات "مؤامرة " او "محاولة لذر الرماد" في العيون، بل متابعة تصاعدية، لما اتخذته السعودية من موقف حاسم الى جانب اسقاط حكم الاخوان في مصر وتقديم دعم سخي للقيادة المصرية، لحماية الدولة، وتصفية اثار حكم الاخوان واعادة مصر الى صدارة القيادة السياسية في العالم العربي والشرق الاوسط. كما لا يمكن التغاضي عن الانشقاق الخطير في التحالف الخليجي الذي تمثل في الخطوة التصعيدية من قبل كل من العربية السعودية ودولتي الإمارات والكويت مع قطر بسحب سفرائها من هذه الامارة، وعزلها عن محيطها الخليجي، والتلويح بمزيد من الاجراءات التأديبية، اذا هي لم تعد الى رشدها.

على السيد المالكي، وهو يتابع هذا التطور، ان يأخذ بالاعتبار، ان لم يكن على دراية، ان قطر ليست "وهابية" فحسب، بل ان شيخها السابق، كان يتفاخر بنقل مركز الدعوة الوهابية الى قطر، اذ بنى في الدوحة اكبر مسجد وهابي!

ان تجفيف كل مصادر ومنابع تدفقات الإرهاب والتكفير، يستلزم اولاً "إعادة ترميم البيت الداخلي"، وتسليك المسيرة الديمقراطية على ما هي عليه، وبناء جسور الثقة بين كل الاطراف السياسية والمكونات الاجتماعية، ورتق ما اصاب النسيج الاجتماعي الوطني، رغم صعوباته، بالتخلي كلياً عن النهج الانفرادي، والسياسة الإقصائية المغامرة.
لكن ذلك كله يتطلب ايضاً خلق بيئة متصالحة مع المجتمع العربي والإقليمي والدولي، ووضع العراق في موقعه الفاعل فيها. ولإنجاح هذا الاستحقاق، قد يصبح من الضروري ان يتوقف السيد المالكي عن تحويل خطبته الأسبوعية الى "زورخانة عكد النصارى" وربما عليه ان يختفي من الواجهة ولو الى حين..!


المدى
العدد (3029) 12/3/2014


 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات