| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 12/5/ 2010

 

مدينة البصرة بين الامس واليوم

حسن علي

قبل ايام فقط عدت من زيارتي للعراق وفي كل مرة امنّي النفس عساها ان ترى شيئاً جديدا فليست هي الزيارة الاولى بل هي الزيارة السابعه ،احاول دائما ان اكون منصفا حتى مع اعدائي عندما اتناول موضوعا تقييميا لاني اعتقد ان الحديث عندما يكون مجافيا للحقيقة لا تصبح له اية قيمة وكذلك يفقد الكاتب مصداقيته امام الاخرين، لقد زرت البصرة ومررت في بغداد وزرت اربيل عدة مرات كذلك، لا اريد التوقف عند اربيل كثيرا فالتجديد والتقدم واضحان واعتقد ان الجميع له علم واطلاع على ذلك ، وبما اني لم اتوقف كثيرا في العاصمة المخربة فكذلك سوف اتجاوزها واترك الامر لغيري ولكني ارى لزاما علي ان اتوقف عند البصرة عساني استطيع تسليط الضوء على بعض جوانب الحياة فيها، البصرة كانت قبيل الحرب العراقية - الايرانية مدينة مزدهرة من حيث العمران الذي يتمثل في البناء المتجدد والشوارع المبلطة والنظيفة والارصفة التي تتسع للمارة والانهر التي تجري بمياهها الصافية العذبة وكورنيشها الذي يبدأ من تمثال السياب وحتى نهر الخورة والعامر باجمل الكازينوهات تظللها اشجار الكالبتوس الضخمة والتي تلامس اغصانها مياه شط العرب العذبة حيث السواح الذين يستأجرون الابلام العشاري (وهي زوارق نهرية) في نزهة نهرية رائعة بل هي خيالية حقا في شط العرب، في وسطه وعلى ضفافه ترسو البواخر الضخمة والابوام الشراعية واللنشات التي جاءت من شتى انحاء العالم لتفريغ حمولتها ولتتبضع من خيرات هذه المدينة عائدة بها الى بلدانها ولا يخلو المشهد من صيادي الاسماك سواء كان للترزق او للمتعة وقضاء الوقت اما نهر العشار الذي تنتصب على جانبيه الجسور العريضة والجميلة وكذلك المقاهي التي تغطي نصف النهر حيث الناس يمرحون بقضاء اجمل الاوقات وهم يىتحدثون بمختلف اللغات واللهجات وهذا ليس غريبا على هذه المدينة التي سميت بحق المدينة الاممية لروادها الذين جاءوا من مختلف بقاع الارض لا تفرقة ولا تمييز ولا عنف ولا تنابز بالالقاب ولا تعالي وغرور وتكبر ، بل البساطة والاخوة والتسامح والتعاون والمحبة التي تسود الجميع ، مواعيد لقاءاتهم عند ساعة سورين التي كانت منتصبة شامخة على نهر العشار والتي اصبحت في خبر كان بفضل حروب صدام المجرم. في المدينة كذلك عشرات المصانع والمعامل، اضافة الى شهرة هذه المدينة العالمية بموانئها الضخمة كميناء الفاو وابو فلوس وام قصر والعميق وخور العميه اما مصانعها ومعاملها فهي كثر مصنع الحديد والصلب ومصنع الورق والاسمدة ومصانع الاسمنت، والطابوق والغاز وغيرها الكثير الكثير، اضافة الى كونها مدينة النفط الذي يتصارع عليه الجبابرة . هذه المدينة التي كانت زاهية بخضرتها وظلال نخيلها واشجارها الوافرة ونهرانها الجميلة التي تصبح ملاذا للبصريين تقيهم لهيب الصيف المحرق ... ولكن ماذا حل بتلك المدينة نتيجة الحر والمدمرة وما لحقها من اهمال وتعسف على ايدي حكامها الجدد امثال مصبح الوائلي والطامة الكبرى محافظها الحالى شلتاغ الذي يناصب العداء لكل ما هو تقدمي من ادب وفن وموسيقى ومسرح انه يناصب العداء للحريات والحقوق الشخصية فمن يصدق ان شباب البصرة التواقين بطبعهم للفن والادب والمسرح والغناء يمارسون هواياتهم الغنائية وحتى من هم يدرسون في معاهد الفنون الجميلة يمارسون هواياتهم في البيوت بشكل سري بفضل الحكومة المحلية التي يرأسها شلتاغ والذي يتطلع لتقليد ونقل الفكر الرجعي الايراني الذي يتغلغل في شؤون البصرة بفضل الاحزاب الدينية . عندما تبدأ دخول البصرة من المنطقة الحدودية صفوان تتفاجأ بأرض خراب تمتد حوالي نصف الكيلو متر نصبت عليها اكشاك وعشش التفتيش لتتيه بينها وسط لهيب الصيف الجهنمي ، تحرقك الارض ويخنقك التراب وترى نفسك كالكرة تتدحرج ذات اليمين والشمال لكثرة المطبات وتتعثر بالحجر واكوام الحصو والرمال ومجموعة غرف بالية لا تصلح لا للسكن ولا للعمل واذا قارنت الامور والمعاملة الانسانية التي تلقاها على الحدود الكويتية بمثيلتها على الجانب العراقي فأنك تصاب بالدهشة فعلى الجانب الكويتي المعاملة الانسانية واماكن تليق بمكانة البشر حيث تنهي متطلبات سفرك وانت جالس في اماكن مبردة لا تحتاج الركض ولا اللف ولا الدوران ،على عكس ما تلاقيه عند دخولك ارض العراق فبدلا من تسهيل اجراءات الدخول تظل تدور حول نفسك في هذه الارض الرمضاء لتصوير الوثائق وعملية تفتيش بدائي ، وللحصول على الفيزا لا بد ان تدفع المقسوم للضابط المرتشي الذي بطريقة او بأخرى يذكرك بذلك وكثيرا ما يقول الضابط للمسافر لا توجد (عندي خردة) فيضطر المسافر ترك الباقي من العشرة الاف والتي تبلغ 8750 للضابط وهو يقول له لعيونك ومن الطريف ذكره ان احدى النساء العراقيات والتي تحمل الجنسية الامريكية لا تحمل اوراق تثبت عراقيتها لانها في هذه الحالة عليها ان تدفع 81 دولار بدلا من 1250 دينار عراقي وكان الموقف متشدد نحوها نظرا لعدم تمكن الضباط وليس الضابط الواحد من مخالفة الاوامر الواضحة والصريحة جدا في هذا الخصوص ولكن سبحان الله سرعان ما تغير كل شيء عندما حضر احد اقاربها ليرفع سماعة التلفون امام الضابط الذي ذهل من تصرف هذا الشخص ليتصل بأحدهم، حسبما عرفنا فيما بعد ان الاتصال جرى مع نائب انتخب توّاً لعضوية المجلس النيابي الجديد فانقلبت الامور رأسا على عقب وظهرت شهادات و معارف جديدة، فشهد احد النقباء بأنه يعرفها بينما اعتذر اخرون للملابسات غير المقصودة (وهات يا بوس والرجاءات بالمعذرة للنائب الجديد والتحيات والتمنيات له بالموفقية ونحن بالخدمة فيجيبه الاخر خادم الحسين جزاك الله خيرا، حجّي انشاء الله ، دعائكم مولانا) اما الاخرين يدفعون صامتين. وبعد دفع المقسوم لمجموعة الضباط المرتشين المتفقين سلفا على كل شيء سوف ترى نفسك محاط بمجموعة من اطفال الشوارع المتسربين من المدارس و الذين اضطروا للعمل من اجل لقمة العيش لاعالة عوائلهم المنكوبة والتي تتعلق بأذيالك من كل جانب، واخرون يدورن حولك، هذا يحمل الحقائب وهذا يعمل كمخلص معاملات وذاك يعمل كدليل لانك في هذه المنطقة المكتظة بأكشاك وعشش الموظفين العشوائية تحتاج الى دليل ومخلّص معاملات، وأنت تجتاز هذه المنطقة تحمد الله على السلامة في نهاية المطاف فربما ان حظك تعس فتقع بيد (علّاس) وعندما تتفقد حاجياتك وحقائبك فأنك تتفاجأ انها بدون عجلات وبدون يدات حمل او المسكات اليدوية الخ... ومن الطرائف ان احد الموظفين صرخ بوجه الطفل الدليل الذي يرافقني ماذا تفعل الا تعرف ان مهنتك حمّال فقط اجابه لم افعل شيئ وعندما ابتعدنا قليلا قال لي الطفل لا تهتم له هذا اكبر (لغّاف) ويقصد الطفل بذلك ان هذا الموظف يلغف الرشوة كما يلغف الشوربة ، الدلالة كانت بخمسة الاف دينار عراقي، بعد ذلك وصلنا الى سيارات التاكسي وهنا عليك ان تكون مستعد لخوض معركة اخرى وتضيع حقائبك بين هذا وذاك وبين الجر والعر لترى نفسك وانت جالس في سيارة دون رغبتك بل رغما عنك وعند بدء دوران المحرك انت مطالب مرة اخرى بدفع ضريبة من نوع اخر وهذه المرة عليك سماع شريط عزاء اتباع اهل البيت و ما ان ينتهي الشريط الاول حتى يتبعه الثاني وانت تسمع وليس لك الحق بالامتعاض او الاعتراض وسط معاناة جو الصحراء المصحوب برياح كأنها مرت على جهنم قبل وصولها اليك لا نخلة ولا شجرة ولا طير ولا حيوان ومن اين تأتي الطيور والحيوانات اذا كانت المدينة خاوية، خالية ضمآنة. وتدخل المدينة والتي قلنا عنها انها كانت قبلة السائحين قبيل الحرب العراقية الايرانية لتجدها كما قيل فيها المثل (بعد خراب البصرة) مستنقعات مليئة بأكياس النايلون وقناني البلاستك العائمة يأخذها الهواء ذات اليمين وذات اليسار تنبعث منها الروائح الكريهة ماؤها عفن اخضر داكن مليئ بالقاذورات والزبالة تغطيها غمامة من البعوض والحرمس ، مصدر لمختلف الامراض ، وجوه ساكني هذه الاحياء شاحبة احيانا وجافة تراها احيانا اخرى كأنها اشجارا قطع عنها الماء فذبلت وتيبست فظهرت عليها اعراض الامراض المزمنه ،انه قدر الانسان العراقي المعدم ، الشوارع مليئة بالنفايات والحفر والمطبات لا احد من المسؤولين يهتم بل انك لا تجد احدا يزور او يتفقد تلك الشوارع والازقة كما يدّعي ويتشدق محافظ البصرة على شاشات التلفاز ، عمال البلدية ينقلون النفايات من هذا المكان لمكان اخر حيث المدينة تفتقر لاماكن مخصصة لمعالجة النفايات والزبالة ومخلفات المصانع والمعامل وما شاكل ذلك .اما المسؤولين الذين تربعوا على كراسي مجلس المحافظة وفي مقدمتهم السيد المحافظ فأنهم منشغلون بأداء الفرائض الدينية وما يعقبها من الولائم الدسمة والحديث عن المسابح اليسر والكهرب والمحابس وانواع الشذر وما تجلبه من اسباب الحظ والبخت والفوز في الانتخابات القادمة ونسوا معاناة الناس وهمومهم فلا زال الوقت الذي يفصل بينهم وبين هموم المواطن يمتد لاربعة سنوات قادمة ليتذكروا انهم بحاجة لصوت المواطن فلما العجلة اذن.

ان مثل هكذا مسؤولين يفصل بين تفكيرهم الرجعي المتخلف وبين تفكير الشباب الواعد المتطلع الى المعرفة الانسانية الواسعة بون شاسع جدا حتى ان تفكير شباب السبعينات بل وحتى شباب الستينات البصريين الذين كانوا يأخذون من (دكّتي) نهر العشار ملاذا لهم حين اقفل ازلام النظام البائد ابواب المنتديات والمسارح والجمعيات الثقافية بوجوههم ليحولوها الى منتديات لمناقشة القصة والنص المسرحي وتبادل الاراء بشعر السياب ونازك الملائكة والجواهري لم يجدوا للآن مثل تلك الاماكن ليجلسوا عليها لانها تحولت الى مزابل ومكبات للنفايات والتي تنبعث منها روائح كريهة لا تحتمل ومن الصدف الجميلة ان محافظة البصرة تطل على النهر وان السيد (الشلتاغ) يصّبح يوميا على تلك المناظر البائسة ولا كأنه مسؤولا عما هو عليه الحال.عند تجوالك في مدينة البصرة ومركزها العشار فأنك تشق طريقك بعناء نتيجة اكتظاظ شواعها المليئة بالباعة اصحاب البسطات حيث الصراخ والعويل المنبعث من اصوات الكاسيتات من اشهر الرادودين الذين اصبحوا اغنى من كاظم الساهر نتيجة رواج اسواقهم بدون منافس فالاغنية ممنوعة ومحاصرة والثقافة تحمل لونا ومذاقا واحدا فمثلا المكتبات مقتصرة على الكتب الدينية وكتب تفسير الاحلام ومسجات الموبايل وقصص الزير سالم والمياسة وعلى هذه الشاكلة فلا كتب علمية ولا كتب لكتّاب عالميين معروفين ولا افكار او اراء مغايرة ولا فلسفات معارضة لفكر اتباع اهل البيت (فكر اتباع اهل البيت) ليس فكر اهل البيت (عليهم السلام) ولكن فكر الاحزاب الدينية المدّعية بحملة فكر اهل البيت، طبعا صور منتشرة في شوارع وساحات البصرة للسادة والعلماء من آل الحكيم و آل الصدر وكثيرا ما تجد صور اهل البيت تتوسطها صورة مقتدى الصدر المتعكز على اعدام بعض افراد عائلته وكأن العراق لم يعدم فيه غير هؤلاء، ان كل الصور مطبوعة بأحدث المطابع الايرانية فأنت ترى صورة لشخصية دينية توفت قبل اكثر من الف عام وكأن صاحبها كان يعيش بيننا للامس القريب لغزارة المكياج والاخراج الحديث والتلميع والتي لا ترى مثلها اليوم الا في (افلام هوليود) ومع كل ما تقدم فأن المدينة ولّادة والمجتمع البصري معطاء ولا اشك يوما واحدا بأن جماهير البصرة سوف تقبل الاستمرار على هذا النمط من الحياة الرتيبة والراكدة وهذا التهميش المستمر لجماهير الشعب الواسعة وهذا القسر والظلم والاستبداد وهذه الثقافة الرجعية المستوردة من دول الجوار.

 

الثلاثاء, 11 مايو 2010


 

free web counter

 

أرشيف المقالات