| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                     الثلاثاء 12/3/ 2013

 

ثلاث روايات

مجيد الأسدي

لخاتمة بعض الروايات لذعة لا تضاهيها لذعة اخرى ..لذعة تثير كوامن الأسى في روح المتلقي ويبدو انها لم يكفها ما أحاطته به من شجن وهو يبحر معها في رحلتها السردية الفريدة حتى تبكيه قافلة عليه تلك الرحلة الصاخبة.

وثمة خاتمة تفجعك بانقطاع حبل المواصلة في اللحظة التي يكون فيها المتلقي في اشد الشوق للمواصلة!ويبدو ان الكاتب هنا لم يجد ما يقوله ولذا يتوقف باترا روايته التي تطلب من الآخر اكمالها.

وخاتمات اخرى لا تتوافق واحداث الرواية فتأتي غير مقنعة.

هذا ما لاحظته على ثلاث روايات .

فرواية (الطريق) ليست من تلك الروايات التي تقرؤها للمتعة وتزجية الوقت ولا هي من النوع البارد بحيث لا تستطيع اكمالهافترميها ضجرا متأففا.انها من الصنف الذي يرغمك على السير في أدغالها تحس وخزة الشوك تسري في أعماقك وأنت تتابع أحداثها وأجواءها الغرائبية باسلوب سلس لا غموض فيه,وهي تختلف تماما عما تتقيأه مطابعنا من روايات عربية يشقينا ان نجد فيها ما يتعايش وهموم عصرنا وانساننا..فهي تصدمنا بألغازها وطلاسمها ورموزها التي لا يفهمها الا كاتبها!انها روايات يركض أصحابها لاهثين وراء صرعة الحداثة وما بعد الحداثة ..ويقينا ان الغالبية منهم لم تستوعب ما قرأته عن مدارس النقد الغربية وظلت تلوح باستكبار برايات البنيوية والتفكيك دون التعمق في هذه المفاهيم فجاءت كتاباتهم منغرزا فيها الغموض واللامعنى مغطيا على الضحالة والفكر المسطح

ثمة كتاب التزموا شرف الكلمة , ينحازون الى مستقبل الأنسان رغم كل المصائب التي تحيط به, لذلك تراهم يكتبون بعمق وشفافية .و(مكارثي) من تلك الأرض التي انتجت البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة وهو قادر على التعمية والتعقيد غير انك تجد في روايته (الطريق) العمق والشفافية والسرد السلس الذي يأخذ بلب القاريء ...روايته صرخة مدوية في عالم لا يعرف الا التناحر والأقتتال والسيطرة البشعة على مصائر البشر. انها رؤية فاجعة لما ينتظرنا جميعا اذا ما سارت عليه الأمور على ما عليه هي الآن .

تعود الرواية في مرجعيتها الى اصول بابلية قديمة حيث قصة الطوفان الذي عم الأرض وشتت البشر . وقد استطاع الكاتب – بما اوتي من براعة- ان يوظفها لعصرنا المضطرب..بأسلوب عذب أخاذ.

ولد(كورماك مكارثي)سنة 1933 في احدى الولايات الأمريكية وتعتبر روايته هذه من احدث أعماله حيث نشرت سنة 2006وفازت بجائزة (بليتزر The Pulitzer Prize) سنة 2009. الرواية تروي احداثامرعبة عن أب وابنه اليافع اللذين نجيا من كارثة كونية قضت على معالم حضارتنا ولم يبق سوى قلة من البشر تحولوا الى لصوص وقطاع طرق يبحثون عن الطعام حتى ولو كان أجساد أخوانهم البشر!في عالم رصاصي معتم ما انفكت امطاره الرمادية تصب, وبرده القارص يغوص في العظام .وبالمقابل فان الكاتب لا ييأس من فضيلة الخير عند الأنسان ,فقد صور بشرا ظلوا متشبثين بانسانيتهم رغم هول الدمار الذي غزا الروح والجسد!

ولعلنا نستطيع ان نخرج قليلا عن المعنى الحرفي للأحداث فنؤول ما يحتاج الى تأويل أحيانا,من ذلك وصفه لأحد اللصوص الذي واجهه الاثنان في رحلة عذابهم الى المجهول:"تقدم الى الأمام ماسكا حزامه بيد واحدة ,كانت الثقوب في الحزام تشير الى درجة هزاله وقد بدا الجلد على احد الجوانب لامعا ...وقبعة سوداء مزينة بشعار على مقدمتها لشركة تجارية كانت قد اندثرت" وكأنه يرجع كل هذا الأنسحاق البشري الى اطماع تلك الشركات العملاقة التي لا تتورع عن فعل كل ما يشين ,وها هي تندثر بفعل وحشيتها التي لا تعرف الحدود.كما ان سمو الخلق الذي تميز به الأبن يشير الى الأمل البشري باستعادة الحياة الحرة الكريمة بما يكنه من عطف ومواساة والرغبة في مساعدة الآخرين رغم لا معقولية الظروف وغرائبيتها المرعبةفي عالم يتهاوى يتحكم فيه القتل والجوع والقسوة و الوحشية..

تطرح رواية الطريق قضيتين :

الأولى قضية الحياة والموت , حيث نجد الراوي يؤكد على قيمة أن نحيا رغم كل الظروف "فالحفاظ على الحياة والنأي عن افناء الذات قيمة انسانية راقية بحد ذاتها" والثانية تؤكد على ان الخير والشر مغروسان في النفس البشرية مهما كانت الظروف.ومن خلال تتبعنا لما يجري ,يصر الراوي على انتصار الخير وهذا ما جعل الخاتمة تأتي باهتة غير مقنعة...

في رواية (ماركريت دوراس) ""عشيق الصين الشمالية"" الصادرة عام 1991 يتداخل الذاتي بالتخيلي حين تجعل من حياتها الموضوع الرئيس لكتابتها. تقول : "" دائما, يظل هناك شيء من الطفولة "" تلك الطفولة التي تجذر في اعماقها الخوف : الخوف من شقيقها, الخوف من جنون الأم الهستيرية..وفيها تكشف عن عواطفها تجاه"العشيق الصيني": "في الحب لا توجد اجازة, الحب يجب أن نعيشه بالكامل, بضجره وتفاصيله, ولا اجازة ممكنة معه."

أمضت الكاتبة معظم طفولتها في (الفيتنام) حيث ولدت سنة 1914, وقد جمعتها علاقة حب عاصفة - رغم فارق العمر - برجل صيني ثري . حول هذه العلاقة تدور أحداث الرواية التي تنوعت اساليبها السردية بين الكتابة الروائية والتسجيل السينمائي وحوارات المسرح.

ولعل مرجع روعة الخاتمة هنا تعود الى تكثيفها للأحداث تكثيفا ماساويا يأخذ بلب المتلقي ويثير اساه وأنا مضطر -لكي أقرب الأحداث الى القاريء - أن اعيد له هذه الخاتمة :

بعد الحرب بسنوات..الجوع ,الموتى ,المعسكرات , الزواجات , والأنفصالات,الطلاقات,والكتب,السياسة والشيوعية,ثم اتصل بالهاتف.هذا أنا.من الصوت تعرفت عليه,هذا أنا واردت سماع صوتك فقط.قالت: طاب يومك.كان يشعر بالخوف مثل السابق من كل شيء,كان صوته يرتعش ما جعلها تتعرف على لهجة الصين الشمالية ..... قال من الغريب –بالنسبة اليه- أن قصتهما ظلت كما كانت من قبل , وانه ما زال يحبها, وانه لن يستطيع ابدا أن يكف عن حبهاطيلة حياته,وسيحبها حتى الموت. وصله صوت بكائها عبر الهاتف.ثم ومن بعيد جدا,من غرفتها ربما,لم تقطع الخط.لا يزال يسمع صوت بكائها.ثم حاول أن يواصل الأستماع لكنها لم تكن هناك.لقد أصبحت لا مرئية,لا يمكن الوصول اليها.ثم بكى ..بكى كثيرا من أعماقه...


رواية (ليلة التنبؤ) لبول اوستر تنتهي نهاية مقطوعة,رغم سردها المتماسك بأحداثها الغرائبية وعمق فكرتها بحيث تبقي المتلقي في حيرة. انها رواية داخل رواية تنتمي الى مدرسة الحداثة اذ تتشابك جذورها بمرجعيات متنوعة واحيانا متناقضة . البطل هنا كاتب روايات يكتب عن شخص مرت به أحداث مميتة استطاع ان ينجو منها ولذا يعيد مواصلة الحياة من جديد وكأنه لم يعش سنينه قبل الحادثة,متأثرا بقصة بوليسية بعنوان (الصقر المالطي)للكاتب الأمريكي الشهير(داشيل هاميت).وهكذا نبحر مع هذا الروائي في سرده للأحداث ,غير انه يتركنا مع بطله في غرفة مدرعة تحت الأرض محصنة ضد القنابل الذرية!هنا ينقطع التواصل ونعود الى احداث الرواية (الأم).نحن –اذن- ازاء احداث متداخلة ,معقدة , تقودنا الى خاتمة مقطوعة ..ولا عجب في ذلك ,اذا ما عرفنا ان ما يميز اعمال هذا الكاتب هو تعقيد الشخصيات وميله الى الموضوعات الفلسفية التي تتناول البحث عن معنى الهوية والذات..

 


هامش

هذه الروايات صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت ضمن سلسلة (ابداعات عالمية )
ويحزن قراء السلسلة أن ينقطع وصولها الى العراق ولا نعلم السبب؟! فهي غذاء روحي وثقافي فريد في نوعه بعيدا عن الربح التجاري الذي تمارسه دور النشر,مما نعول عليها الكثير نحن –المتقاعدين – اصحاب الرواتب بالملاليم....




 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات