| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء  10 / 9 / 2014

 

افتتاحية المدى

راية بيضاء فوق مضمار "الفساد الوطني" في العراق...

فخري كريم 

أشهد أني قد تعبت.
وما العيب في أن يرى المرء نفسه على حقيقتها، ولا يسعى لحجبها بغربال؟

تعبتُ من وجعٍ يمض في الضمير ويشتت الذهن، ويكاد يبدد طاقة العقل ويأخذ بناصية صاحبه، ولا من بارقة أملٍ أو صدىً مستجيب.

وليس التعب بحد ذاته مبعث الشكوى أو مثار الاستجارة، فالحياة كلها تعبٌ، وكم من تعبٍ أشهى من نسغ الحياة وفتوتها. التعب الممض هو ذاك الذي تطيش سهامه وتخطيء مراميها وقد ترتد على الرامي، فتصيب منه مقتلاً في الضمير وجرحاً في الوجدان.

وأشهد اني بلغت نهاية شوطٍ، ليس في معالمه ما يدل على جدوىً، أو يفضي الى منتهى، فلا هو شوطٌ يستثير الحماس، ولا النهاية هي مسك الختام!

لأول مرة، اجدني اتعاطف مع من كان هدفاً لما كنت اكتبه عن الفساد، طوال ولايتيه العصيتين على المنافسة في مضاميره.

أصدقه، وهو يغمز بعينٍ خابية، من قناة مرشحين لوزاراتٍ في حكومة خليفته، يتهمهم بشبهة تعاطي الفساد، وإن تجنب هذه المرة التلويح بملفاتٍ غير مكتملة كالعادة.

ولمرة يتيمة أرى في صف صقور "دولة القانون"، من ترمي كلمة حقٍ في البرلمان، قد يُراد بها باطل، وهي تطالب قادة دولتنا الفاشلة الملفوفة بكفن الموتى الأحياء، أن يتخلوا عن جنسياتهم الأخرى!

كان في محله، تخوَّف "مختار العصر" الذي سيفتقده العراقيون كل أربعاء(!)، من تمدد وزراء "وأكبر" منهم في أروقة الدولة، يعيثون فساداً فيها، فيكملون ما عجز عنه اسلافهم! وقد يتنفس الصعداء بعد أيام، حين يرى عملية التسليم والتسلم بين لاعبي "المضمار الحصين"، دون أن تناله ولو الى حين سهام الرصد والترصد، بشبهاتها، وقد تغيّر الولاء، وتبدّلت أقدار المتعاطين في بورصة الفساد المستشري.

سيلومني البعض، فالوقت ليس محبساً للتعب، والبلاد تحترق وخزائنها التي تفيض باموال الذهب الاسود، تكاد تكون خاوية، ليس فيها ما يسد استحقاقات رواتب بضعة أشهر. ولماذا علي أن لا اتعب، ولا أسكت، ولا أستكين، لأن الحرائق تشتعل في زوايا وطنٍ لا والي له، بعد أن راح ولاته المتقون في سبات القهر من الصبر والإذلال، وأن أجأر بالعويل على أموالٍ تستبيحها نفوس بلا ذمة، بلا شرفٍ ولا حياءٍ، متلفعة بإيمانٍ فاسد، ومحمية بصمتٍ واستكانةِ أهل المال، واصحاب الحول، في تمكينهم من مالهم وعِرضِهم وكرامتهم، ومصادرة ارادتهم، كلما آن للارادة أن تصبح قوة تغييرٍ وتحول.

مالي وملاحقة اللصوص وفضح الفساد والفاسدين، وقد اصبحت أمراً يتندر به أذكياؤهم على من هم مثل حالي، يحرقون كلماتنا عن غواياتهم "تشفّياً"، بأوراق البنكنوت (فئة المئة دولار)، ويُطفئون لهيبها بنبيذ معتقٍ، مع اعقاب سكائرهم تمويهاً!

هل عليَّ أن اواصل حمل تعويذة هادي العلوي وراية مشاعيته البغدادية، وأقتطع من كل رغيفٍ كسرة خبز وحفنة رزٍ، اطوف بها على المُضامين بالهروب من الفاقة والعوز، قبل القتل على الهوية، أُغري بها للنهوض من سباتٍ الذل والاستكانة، وأثير من خلالها القلق في نفوس لصوص الدولة والمال العام، لعل أولياء أمورهم يرتدعون؟
لم ينل التعب لوحده مني، لولا الإحساس المرير باللاجدوى!

ها هي دورة أخرى، من زعيق التغيير ومنازلة الفساد والنهب تطحن سنوات العمر الذابل، ولا من بارقة تُطفئ لوعات الحسرة وآهات الخيبة. ها هو موسمٌ آخر من حصادٍ في أرضٍ بوارٍ، متشققة تيبست قيعانها. ها هو حنين المتشوفين للخلاص ينتهي الى صيفٍ باذخٍ بعواصف الرماد الأسود، المنذر بمزيد من المسغبة، بطوفانٍ من القتل أو الموت على أرصفة وطن تحولت الى مكباتٍ لبقايا اجساد ضحاياه.

وما قيمة لومة لائمٍ لا يعرف للتعب معنىً، إذا تغمّس بالخيبة، وتلفع بالحسرة على ضياع التعب..؟

لا أرى وهجاً يستثير فيَّ طاقة التحدي، ويمدني بسحر إنشاد المشاعي المتصوف المترهب، هادي العلوي.
كان زمانه مترفاً بصبابات الانعتاق من غواية الذات، ومن التمرد على الاستئثار بملذات الحياة، والغفلة عن آلام الجياع والمعدمين..

وهذا زمنٌ غير زمن هادي العلوي، عابرٌ لأزمان فنارات التضحيات الكبرى، حيث أبو ذر، مجرد ذكرى، وجيفارا مجرد وشمٌ يزيّن زنود شبابٍ وحسناواتٍ وأغلفة كتبٍ تتوزعها الارصفة، ومكتبات المترفين الذين يتفاخرون برفوفها من خشب الابنوس..

لم أعد أبالي بالفساد والفاسدين، فقد سدوا بتكاثرهم منافذ الرحمة، وصارت منازلتهم حرباً لا تكافؤ فيها، بعد أن كانت شراذم تتخفّى وراء شعاراتٍ مموهةٍ، وتتسلل من الأبواب الخلفية، وصار لها نواب ووزراء، والله وحده يعلم غير ذلك..
لن أنازلهم بعد اليوم.
ولن أقاضي مخاتيرهم.
ولن أبدد جهداً مضافاً، في ملاحقتهم.
وأشهد أنني هُزمت.

وكان علي منذ عقدين أن أقبل بالهزيمة، وأراود صديقي هادي العلوي بقبول التسوية التي صاغها صادق جلال العظم، وهو يرى الفساد يستشري في سوريا متلبساً بالرشوة وشيئاً متشبّهاً بها، قائلاً انه "مجرد شكلٍ من أشكال توزيع الثروة في المجتمع"!

سوى أن الصديق العظم فاته أن ما يجري في العراق، لا دلالات له في كتب الاقتصاد السياسي للتخلف، أو اقتصاد مجتمعات الرثاثة..

انني اذ اعترف بالتعب والاستسلام، أرفع الراية البيضاء فوق أول مضمارٍ للفساد، على الطريق السريع، حيث تختفي مراجل سيطرات الحكومة الجديدة...

رايتي بيضاء بلا شعاراتٍ حزبية، أو طائفية، أو دينية أو طبقية..
وهي راية لا علاقة لها بدعاوى الدولة المدنية..!


المدى
العدد (3169) 10/9/2014


 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات