| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأربعاء 10/8/ 2011                                                                                                   

 

منهل نعمة ...
من يقول لنا في أي يوم مات؟؟؟

رياض رمزي *

أتكلم عن شخص مولود في الرميثة يضع في نهاية أسمه لقب العارضي ليشير إلى نسب نبيل يعود لمقاتلي ثورة العشرين الذين سيكون لهم تأثيرا واضحا على مصيره. أنه صديقي منهل نعمة العارضي. هو معروف كذلك لأصدقاء آخرين.

مرت ربما أربعة عقود مذ كنا نلتقي في مقاهي متفرقة في مدينة الحرية: مقهى الساقية، مقهى أبو سلام، مقهى أبو خالد. الأحياء منهم (مع حفظ الترتيب و المهن) هم : أحمد خلف، عبد المنعم الأعسم، جمال العتابي، حميد الخاقاني،عبد الأمير الركابي. الأموات منهم: منهل، نصر راغب، باقر مسير، حسون و مالك (لا أعرف كنيتيهما) و أبو سلام السياسي المفصول صاحب المقهى الذي عندما أعيد إلى الخدمة وجدناه يقف وسط الفرقة السمفونية الوطنية يعزف الساكسفون.

هم أشخاص ذوي مواصفات جديرة بالتبجيل، لم يعد لأمثالهم وجود.
غدا مجرد غيابهم دليلا على تراجع نوعي يضع القيم في ورطة و بالتالي مسيرة المجتمع و مستقبله في مأزق. فنوعية هموم الأفراد تكشف طبيعة المجتمع. حفل ذلك الجيل بمجموعات تشبه هذه التي أتكلم عنها و خاصة ذلك الشخص كان ينتمي لهذه المجموعة الذي أرغب في الكلام عنه. أنه منهل.

الرجل المزود بقدرة على النفاذ تحت سطح الظواهر. عندما يقول شيئا تنحفر كلماته في ذهن من ألقيت إليه، لأنه سمعها لأول مرة. كان من الذين ولدوا و عاشوا وهم يعرفون من هو نيرودا، رامبو، دوستويفسكي، ازرا باوند.. و القائمة تطول. و يحفظون مقاطع طويلة من صلاح عبد الصبور و أليوت... يمسك بمضامين متعددة لما يتكلم عنه جيدا كي يكون مستعدا لمواجهة أي تحد طارئ. عندما يدخل في فكرة لن يخطئ فيها موقع الباب و لا الخروج. عندما يتكلم عن رامبو يعرف الجو الذي أنتج أفكاره، مضمون علاقته بفرلين و لماذا سافر إلى الحبشة. لم يكن أستاذ مدرسة يعلّم الآخرين، بل مثقفا مليئ بروح الاحتقار للهواة في الثقافة.

على من يخوض النقاش معه أن يكون على درجة من الاحتراس. وهو احتراس يذكرني بالعلاقة بين عبد الوهاب و صباح فخري. وهو هنا صباح فخري. رفض عبد الوهاب تلحين أغنية له قائلا عنه" ده وحش". لأنه هو الموسيقار العظيم غير قادر على وضع بصمته عليه. لأن صباح فخري مثل نافورة المياه تسحب الماء لتحيله إلى ألعاب في الهواء. أنها تحول كل ماء وافد جديد إلى ألعوبة في فمها. أوصلته قراءاته أن يكون أوسع حجما من الحزب الذي انتمى يوما ما إليه و الذي لم يفلح في تدجينه. أنه من ذلك النوع الذي كتب عنهم دوبريه" يعرفون عناوين الصحف قبل صدورها". في وقت عز على كثيرين الوصول إلى مجلة الآداب البيروتية الشهيرة اذ تمكن من أول مراسلة معها، الحصول على حق نشر أحدى قصائده فيها. اعتزل الخروج ليومين ليقرأ رواية أولاد حارتنا التي استعارها من صديق اشترط عليه إرجاعها في غضون يومين. يرسم وجه لينين في أقل من ربع دقيقة.

إن حكمنا عليه من خلال منظره نقول: وجهه ذو لون قريب من لون خشب الأبنوس الذي يصنع منه النحاتون تماثيلهم التي تحيا زمنا طويلا بفعل مقاومته لعوادي الزمن، أو مثل بورتريه لفنان قام برسم وجهه في عتمة مرسمه. قامة هزيلة ليست بسبب مرض بل بسبب صلابة ربما جاءت نتاج مكابدة مردها كثرة التفكير، و كي يبقي رأسه عامرا بالنشاط. الأفكار التي لا تستحق التكرار كان يتجاوزها. لكنه لا ينظر أبدا إلى تأثير ما يقول على السامعين، كي لا يعيش في وهم اعجاب الأخرين بما يقول، لأن ما يقوله ليس شعرا، بل كلاما كان جليا أنه سهر للوصول إليه. هذا واضح من استشهادات وافرة يعزز بها رأيه و لا يهدف من إيرادها إثارة الدهشة أو تحقيق انتصار. لكنه عندما يختلف مع الآخر لا يجعل منه اختلافا رياضيا بل موجعا. وهذا له علاقة بسهر الليالي الذي جرى عنه الحديث آنفا.

ببساطة هي طريقة لإبراز آلام وصوله إلى أفكاره قبل إشاعتها للعلن. لكن ذلك التأثير غير السار إن لم يكن المنفر إلى درجة ما، يجعل الآخرين يختبرون أفكارهم قبل قولها، أو يتأملون النقائص في معرفتهم، و يفكرون قبل أن يبوحوا بآراء عادية. وعندما ينتهي النقاش لا يتصرف مثل أستاذ يجمع أوراقه و ينصرف، بل يتحدى في لعبة الطاولي وهو يصرخ على الخاسرين" عَجَمي روح أتعلم و تعال".
انقضت أعوام على موته. على القاتل الآن أن يقدم لنا أيضاحات.

من خبر شعور أهل و أصدقاء الذين يموتون دون أن يعرفوا زمن و طريقة موتهم و قبورهم سيجدون أنفسهم أشبه بيتيم فقد والدته في عمر مبكر. لا هو بقادر على نسيان وجهها و لا هو يحمل رأسا تعمر بصور يمكن الاستنجاد بها لتأكيد أنها كانت توجد في حياته. فلا يشعر أنه موجود في موقع ملائم، لأنه يحاول أن يقي نفسه من ذكرى لا تزول لأنها غير مكتملة. الأهل، الأصدقاء ، الأقارب لا يعودون بوسعهم الادعاء بأن هذا الرجل يعود لهم. لأن شخصا ما جاء و صادر حياة ناقصة بالنسبة لهم، فلم تعد ملكا لهم بكاملها لأنها لم تتوج بموت ينهي تاريخ وجودها. من صادرها ؟ هو وحده من يمتلكها لأنه يعرف حلقاتها الأخيرة. برغم أنه غريب فهو يمتلكها لأنه يحتفظ بآخر حكاية عنها. على عكس من ولده و عاش معه و عرفه، فهو لا يملك كل شيء عنه لأنه لا يعرف ما حدث له أخيرا. أما من يعرف ما جرى له في النهاية فله اليد الطولى في المعرفة لأنه هو من أزاله من الوجود.

حسنا من ولدته أشاعت خبر ولادته و لم يعد لديها شيء تقوله عنه. أما من أزاله من الوجود فله الكثير ليتحدث عن شكل موته. إذن هو من يستحوذ على أسرار حياته الأخيرة. هكذا فمن ولده و عرفه يعيش في الخيال عن شكل موته برغم معرفته لشكل ولادته و حياته. وحده القاتل لا يحلم لأنه يعرف وحده شكل موته، ناهيك عن تاريخ حياته الذي لولاه لم يهرع لقتله . لا يعني ذلك أن القاتل يفوق رفاق و أهل الشهيد أهمية. بل هو مساهم في تاريخ هذا الرجل. لأنه وحده من هو قادر على كشف الجزء الأخير من تاريخ رجل هو مجموعة خصال يستحيل الكشف عنها دون تسجيل هذه المرحلة الأخيرة. فبما أنه قرر أن يكون شهيدا علينا أن نعرف آخر انجاز له في مجاله. أنه مثل شخص قرر أن يكون عداء لمسافات قصيرة. خصص كل وقته لذلك. لكنه مارس عدوه الأخير أمام جمهور صغير جدا و مات. بيد أنهم قرروا أن لا يعلنوا عن إعجازه في السباق.

أنا لست متيقنا أن من قتل منهل سيقرأ هذه الكلمات. و لكن إن قرأها فأنا أرغب في تنويره بأنه لم يقتل رجلا يولد كل مساء. بل هو رجل استثنائي. لذا فأنا أريد أن أجعل القاتل يشعر بالفخر و بالسرور لما فعله، لا لكي يندم أو يكون منزعجا بل ليدرك جلال ضحيته. إن لم تكن لدى القاتل الشجاعة لقول شيء عما قال منهل قبل موته، فلا أقل من أن يقول لنا في أي يوم مات: الثلاثاء أم الخميس.. و في أي شهر. سنتكفل، وفقا لذلك، نحن أصدقائه بسماع شكل صوت صراخه، و سنقوم بإعداد قائمة بأنسب الاحتمالات للغز موته و الطريقة التي نهوى بها رؤيته وهو يودع الحياة : بزئير هادر أم بنشيج مسموع، أم كان يندب حظه لأنه ولد بعناد يميز العنيدين الذين برغم أنهم يعجزون عن طرحه جانبا فهم يرمون منه لأن حياتهم سارت وفقا لإيقاعه.

لأنه من نوعية أولئك الأشخاص الذين لم يعد لهم وجود اذ سبق لمظفر النواب أن قال عنهم "عمت عين الكاع ضمتهم زلم كانوا خميرة"، فقد كان ناقما بالفطرة عندما يستنفذ كل ما يحويه فؤاده من نقمة حتى يمتلئ بامدادات متجددة فتصبح نوبات غضبه على الواقع أشد قوة.

لديه رغبة لا تقاوم في توبيخ غير العارفين. لا يوجد لديه غرور بالنفس. يعلن عن رضاه فقط إن سمع شيئا جديدا من آخرين. فهو لا يقول " أنت على صواب"، بل يشعر بارتياح أن هناك من يعاني من أجل المعرفة. مثل شخص يقوم بأداء مهمة يعرف ثقلها فيصاب بالغبطة عندما يكتشف أن هناك من أنبرى لها بجد. فما يحوز عليه الآخرون من معرفة، بالنسبة له، شأن شخصي.

عندما قال النبي لعمار بن ياسر "يا عمار ستقتلك الفئة الباغية". لم يكن ينطق بالغيب بل كان يعرف المآل الذي ستنتهي إليه حياة عمار. لأنه كان يشاهد عمار الناقم على الظلم الذي ألحقته الفئات الغنية من قريش بالضعفاء. فكان حقل حياته المناسب هو الشجار مع هؤلاء. النبي يعرف أنهم سيغمضون أعينهم و يغلقون آذانهم ليس طويلا بل ردحا من الزمن. لأن صراخه المعلق في الهواء لن يدعهم ينعمون بلحظة سلام حتى تتوفر فرصة ينالون منه كفايتهم. فهم كمن يرفع بيده جاروف لتمشيط التربة سوف يقتلع كل نبتة ضارة تمد رأسها في باحات مزارعهم المشجرة عندما يجدون أنسب وقت لذلك. أنها قضية واضحة و نظامية لكلا الطرفين. و هذا ليس بشيء جديد. فالجواهري يؤرخ لهذه الحالة قائلا محددا زمن حدوثها بالضبط" مُذ أخضر حقل بسمر الغلال/ مذ حُكِّمت سادة في الموالي/ تنسمت الأرض ريح النضال/ زهت بالشريد رؤوس الجبال/ و تاه الثرى بالدماء الغوالي". أما السعر الذي حدد لقاء هذا النمط من السلع فهو الموت كما قال نفس الشاعر وهو يصف الحالة" خضناه جبارين في سوحه/ أهون ما نلقاه موتا زؤام". أنه سعر لم يعترض عليه لا القاتل و لا القتيل. فهي القضية الوحيدة التي تم الاتفاق عليها بشرف مهني بينهما، فلم يطالب أي طرف منهم بحسومات عليه.

إذن ما كان ينويه منهل وهو يدفع هذا السعر هو الحصول على ربح صاف و سخي يغطي كلفة حياته. فكان محور استشهاده يدور حول التأثير الذي سيتركه على أجيال ستأتي: مستقبل مشرق كما وعده من كان قيّما على النظرية التي آمن بحتميتها. لم يقل له أحد أن الثمن الذي سيدفعه لهذه الوليمة سيستحوذ عليه ملتحون و ملثمون و عشائر و طوائف و ملل و نحل و دول وراء الحدود. هؤلاء الذين قال عنهم يوما ما محمود درويش وهو يشتم سلطات بلاده، و التي إن قمنا باستبدال بسيط كي نضع العراقي بدلا من الفلسطيني، لقرأنا قصيدته على الشكل التالي" يا دول القبائل و الدويلات التي اختلفت على ثمن الشمندر و اتحدت على طرد العراقي من دمه".
يا منهل كم كان ثمن دمك بخسا.


* كاتب عراقي مقيم في لندن

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات