| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

السبت 10 / 5 / 2014

 

ترنيمة حزن

عادل أمــين

جلسنا نحن الثلاثة، كانت ليلة وداع، لم نكن ندري فيما إذا كنا سنلتقي ثانية أم لا، سردتُ لهما في تلك الليلة حكاية الفلم الأرمني (لا أتذكر عنوانه) الذي يروي في السياق الجانبي للفلم قصة الأصدقاء الخمسة الذين تعودوا على اللقاء والجلوس على ضفاف نهير في يوم معين من أيام الإسبوع، كان كلما يفارق أحدهم الحياة يضعون كأسه مليئة أمام مقعده وكأنه حاضرٌ بينهم، وبمرور الزمن يفارق أربعة منهم الحياة الواحد تلو الآخر ويبقى خامسهم فقط ، يحضر إلى نفس المكان، فيملأ كؤوس الغائبين ومن ثم ينغمر في البكاء المر لمفارقة أعزائه، ويتساءل مع نفسه عمن سيملأ كأسه والجميع قد سبقوه في الرحيل عن دنياهم، هكذا تسامرنا وتمازحنا في تلك الليلة عن الأخير الذي سيتولى ملء كؤوس الغائبين منا، وكان آنذاك عندما يدبُ فينا الشوق والحنين إلى الوطن يعبرا عن نفسهما بالضحك الصاخب أشبه بالبكاءِ، انتهتْ سهرة وداعنا تلك الليلة بأمل اللقاء يوم النصر بساحة التحرير في بغداد وسوف لن نكون آنذاك بحاجة إلى من يملأ كأس أخيرنا عندما نكون بين أحبتنا ورفاقنا وفي أحضان حزبنا ونحن منتصرون، وساحة التحرير كانت مكاناً موعوداً ومركزاً رمزياً لكل الرفاق والأصدقاء في المهجر حيث اللقاء فيها يوم النصر، وكنا مفعمون بأمل الظفر ورؤية وجه بغداد المشرقة في ذلك اليوم الأغر، وفي اليوم التالي توادعنا نحن الثلاثة، أنا وعباس شكر (ابو مسار) وزهير إبراهيم الزاهر (أبو فيان) فسافرتُ أنا، وبعد فترة قاربت عامين، أي عام 1982 سافر أبو مسار، وبعده بفترة وجيزة سافر أبو فيان، كلُ واحد منا بوجهته ومهمته، وهكذا إنفصم عقدنا نحن الثلاثة جسدياً، لكن لم تنفصم عُرى الصداقة الروحية بيننا.

عباس شكر (أبو مسار) الشاب النجفي المفعم بالنشاط والحيوية والوجه البشوش والذي لا تفارق الإبتسامة ثغره، تعرفتُ عليه في بيروت عام 1979 عن طريق رفيق آخر أعتقد كان اسمه (مهدي) كان قد غادر العراق أثناء هجمة البعث ضد الحزب إلى لبنان، فذكر ليَّ بأن معه رفيق آخر أسمه عباس شكر، كان الإثنان هو وعباس شكر قد غادرا العراق إلى بيروت بمساعدة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبقيا في حماية تلك المنظمة، أتفقتُ مع مهدي على لقاء آخر، وفي اللقاء الثاني جاء برفقته عباس، عرفت بأن مهنته موظف صحي ومن أهالي النجف، ومن الوهلة الأولى دخل هذا الشاب إلى قلبي بمحياه المتواضع والبشوش والأليف، ومن حينه توطدت صداقتنا وتطورت علاقتنا الحزبية إلى مستوى الصداقة الحميمية التي ظلت مستمرة ولقاءات متواصلة إلى يوم توادعنا في بيروت في تشرين الأول عام 1980 وكان هذا هو الوداع الأخير بيننا، ومن ثم سافر هو إلى كوردستان للإلتحاق بقوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي هناك، وانقطعت الصلات بيننا لأسباب قسم منها فنية وأخرى ضرورات حزبية، لكننا كنا نتواصل في تتبع أخبار بعضنا البعض عن طريق الرفاق والأصدقاء، وذكرت ليَّ زوجتي بأنها التقت معه في أحدى المواقع في كوردستان نهاية عام 1982، وبعد فترة علمتُ بإغتياله في 18/2/1984 بمنطقة الدوسكي في بهدينان على أيدي عملاء النظام المقبور أثناء توجهه لأداء مهمة حزبية، وكان قد ودع قبل أيام من إستشهاده زوجته العزيزة أم مسار وهي تغادر إلى الداخل مع طفلتهما مسار، فكان خبر إستشهاده كصعقة أصابتني، إن إستشهاد كل رفيق هو صعقة، لكن عندما تفقد رفيقاً وهو صديق لك يكون وقعه أكبر واعظم، بإستشهاده فقدتُ صديقاً حميماً عزيزاً على قلبي وبقيت ذكراه محفورة في وجداني .

في زحمة الحزن والشجن لجأتُ إلى ملاذي الآخر صديقي ورفيقي الثاني لأستمد منه العزاء، لجأتُ إلى زهير إبراهيم الزاهر(أبو فيان) في دمشق، جلستُ معه في بيته وانا أعصر بكامل قوتي صدغيَّ ألماً بفقدان عزيزعلينا نحن الإثنان، فأعدتُ إلى الذاكرة قصة الفلم الأرميني، فقال علينا نحن الإثنان أن نملأ كأسه إنه ما زال بيننا، وهكذا ملأنا كأسه (الكأس كانت تعبيراً رمزياً كنا نعني به ذكراه) نحن الإثنان اللذان بقينا من الثلاثة، لنرى من سيصب الكأس الأخير ونحن في المهجر، وهكذا قضينا ليلتنا في دمشق في ترنيمة حزينة لفقدان عباس شكر(أبو مسار).

في الفترات التي تلت إستشهاده، كان يعيش الشهيد بيننا كلما نلتقي نحن الإثنان، ذكر ليَّ أبو فيان، بأن الرفاق في إحدى المرات طلبوا منه أن يكتب عن أبي مسار، فقال لا أعرف ماذا أكتب عنه، أكاد أتصور وكأني أكتب وأؤبنُ نفسي لذلك اعتذرتُ الكتابة عنه.

مرت السنون بين الأمل بالنصر والمناجاة ، وبين اليأس والإحباط وخراب الوطن وفقدان أعزاء الواحد تلو الآخر، ونحن نجوب بقاعاً شتى، إلى أن حط بيَّ الرحال في ديرة الغربة والمهجر في أبعد أصقاع العالم، وأبو فيان في مهجرٍ قرب الوطن (دمشق) وعيون الإثنان تربي للوطن بأمل العودة إلى ساحة التحرير المكان الموعود يوم" النصر" كما تأملنا وتعاهدنا مع الشهيد أبو مسار.

وإذا بيَّ في يومٍ مشؤوم في أواسط أيار 2010 يحملُ إليَّ (الإنترنيت) خبراً مفجعاً إذ الموت المستبد قد عصف قبل الأوآن بصديقي وحبيبي الحميم زهير إبراهيم الزاهر في دمشق إثر نوبة قلبية، وقبل أن تتكحل عيناه برؤية ساحة التحرير في يوم " النصر الأغر" وهي محررة من كابوس العسف والإرهاب بسواعدنا كما كنا نتأملها، لا بمعاول الذين كرسنا كل حياتنا ونضالنا ضدهم ووصمناهم بما وجدت من السيئات في قواميسنا اللغوية، تحررنا من الإرهاب وحزب الأشرار، ودخلنا في أنفاقٍ مظلمة وظهر أشرار من فصيلة آخرى لا تقل عن الأولى بشاعةً، وتبخرت الآمال وسقطت الآيدولوجيات، وأصبح الوطن مباحاً لكل من هب ودب، وطافت الفقاعات إلى السطحِ، وتفتقت "الزنقطات" وبرز المهووسون والمهووسات واستيقظ أهل الكهف من نومهم ليطمروا الأفكار النيرة وليستديروا بعجلة الزمن إلى ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وبقي زهير راقداً في غربته ربما يتأمل " النصرالأغر" في ساحة التحرير.

زهير إبراهيم الزاهر (أبو فيان) كان شخصية ودودة ومتواضعة ، ذكي وسريع البديهية، يمتاز بوضوح الرؤية، لطيف المعشر، شفاف الإحساس، كريم النفس، تعرفتُ عليه عام 1972 ، كان قد تخرج تواً من جامعة الموصل وعاد إلى بغداد مع زوجته العزيزة أم فيان، في تلك الفترة التي كان الحزب لا يزال يعاني من جراح ضربة البعث له عامي 1970ـ1971 ونحن كنا في غمرة العمل وشحذ الطاقات للملمة ما تبقى من قواعدنا الحزبية التي نجتْ من براثن حزب البعث، وكان الحزب بأمس الحاجة آنذاك لأية إضافة تضاف إلى ملاكه التنظيمي للنهوض به، في تلك الفترة تم ترحيل الفقيد من الموصل إلى تنظيمات بغداد، أرسلت ورقة ترحيله إليَّ لإستلامه وضمه إلى منظمة كانت تسمى (فوتشك) التي كانت منظمة خاصة يراد بها ان تكون منظمة سرية للحزب في حالة تحول الحزب إلى النشاط العلني وتكون بديلاً له فيما لو تعرض لملاحقات وضربات من قبل البعث مستقبلاً، وجدتُ فيه شاباً جهادياً، متحمساً، متنوراً وذكياً، وسرعان ما انخرط معنا في الهيئة القيادية للمنظمة لكفاءته وإمكانياته وجهاديته، وكان آنذاك على قيادة المنظمة بهاء الدين نوري، وتعدت العلاقة الحزبية بيننا إلى الصداقة الدائمية.

      
عباس شكر (أبو مسار) 1981                 زهير في بيروت عام  1981

بعد إلغاء هذه المنظمة في فترة الجبهة، تحول الرفيق زهير إلى المنظمات المحلية والطلبة وأنا إلى المؤسسات الإعلامية للحزب، تباعدت لقاءاتنا في زحمة العمل الحزبي، لكني كنتُ أتابع اخباره، وكان كل من عمل معه يشيدُ بإمكانياته ويكن له الإحترام لسمو أخلاقه وتواضعه ونشاطه .

في عام 1979 بعد مغادرة معظم الرفاق الوطن لتوقي الضربات التي وجهها البعث للحزب، وكنتُ قد حططتُ الرحال في بيروت، وفي يوم أحد من الآحاد وأنا أسير في شارع الحمرا في بيروت وإذا بيَّ ألتقي وجهاً لوجه بالعزيز زهير، يا لهول المفاجأة ! إنها غير متوقعة بعد أن فقدتُ أثره في الوطن أيام الهجمة، ولم يكن ليَّ أي تحفظ للقائه لقناعتي بنظافته وصلابته، جلسنا في منطقة الروشة وتبادلنا ذكريات بغداد والمحن التي أصابت الجميع والأخطاء التي أرتكبت والرفاق الذين فقدناهم بين الشهادة والتسقيط السياسي وكذلك إجتهاداتنا لآفاق المستقبل، عرفتُ منه بأنه يعيش في شقة في شارع الحمرا في ضيافة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكان حديث الوصول من بلغاريا إلى بيروت، وبعد فترة وجيزة، أصبح أحد كوادر منظمة لبنان للحزب وعضواً في هيئته القيادية، وزاول مهام حزبية كثيرة إضافة إلى المهام السياسية والثقافية لدى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفي مدارسهم الحزبية، وكان له موقعاً متميزاً لدى الفصائل الفلسطينية والمقاومة اللبنانية ويكنون له احتراماً لشخصيته وأخلاقه وثقافته تلك الخصال خلقت له الكاريزما التي ساعدته على فرض حضوره في كل المناسبات، بعد الإجتياح الإسرائيلي لبيروت غادر مع الرفاق إلى سورية في الباخرة التي أقلت الفلسطينيين، هناك التقيتُ به بعد فراق عامين، وتجددت لقاءاتنا كنتُ كلما أذهب في زيارة من القامشلي إلى دمشق أنا وعائلتي نكون في ضيافته الكريمة وهو وزوجته العزيزة أم فيان وفيان وليث، خلال فترة وجوده في سورية تبوَّأ مواقعاً في الهيئة القيادية وخاصة العلاقات السياسية في دمشق قبل سفره إلى كوردستان وإستلامه لكثير من المهام في صفوف الأنصار، وأنا شخصياً كنتُ اسمع من قادة الأحزاب الكوردية السورية في القامشلي عند لقائي بهم يشيرون له بالبنان ويشيدون بارتياح لسمو أخلاقه وسلاسته ووضوح رؤيته، وعمل فترة مراسلاً اقتصادياً لقناة العربية الفضائية. بوفاتهِ خسرتُ صديقاً حميماً دافئاً ألوذ به في الأيام العصيبة، أستمد منه القوة والعزم في أموري الشخصية، نتبادل الهموم السياسية والشخصية عندما يجتاحنا الغضب في الأوقات العصيبة ونكون فيها بحاجةٍ إلى نفثة الصدرٍ.

نم أيها العزيز حيث مثواكَ الأخير في أرض الغربةِ وأنت أيضاً عزيز العراق، ذكراك تعيش معنا، وستبقى كأسك مملوءة من قبل محبيك، ولابدّْ أن يأتي يوم يكون فيه الوطن على ما كنتَ ترنو إليه وتزول الفقاعات، وتسود فيه العدالة الإجتماعية، آنذاك لا يصح إلا الصحيح، هذا هو منطق الحياة أيها الكبير.



 

free web counter

 

أرشيف المقالات