|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  14  / 6 / 2017                                 زكي رضا                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

فوبيا الإلحاد عند العمائم والساسة الإسلاميين في العراق

زكي رضا
(موقع الناس) 

إزدادت في الأيام الأخيرة تصريحات رجال دين وساسة من المذهب الشيعي على الأخص من إنتشار الألحاد بالمجتمع العراقي محمّلين أسباب ذلك الى الشيوعيين والمدنيين والعلمانيين، وقد سخّر هؤلاء في معركة غير متكاقئة مع "الملحدين" دور العبادة والفضائيات والصحف والمجلات لصالحهم. كونهم على عكس "الملحدين" الذين يفتقرن لكل شيء تقريبا ، يملكون السلطة والثروة والإعلام والميليشيات التي يهددون بها الناس وضربهم بيد من حديد!!

لم يُعلن أي حزب أو مجموعة سياسية أو فكرية الإلحاد أو يروّج له بالعراق منذ زوال الحزب اللاديني سنة 1929 لليوم، على الرغم من إسم اللاديني ليس بالضرورة أن يكون معناه الألحاد أو الفكر الألحادي. وحتّى الحزب الشيوعي العراقي الذي يحاول اليوم رجال الدين والساسة الشيعة إلصاق تهم الإلحاد به لعوامل سياسية تتعلق بالأنتخابات وتصدر الشيوعيين والمدنيين وقوى ديموقراطية أخرى لتظاهرات شعبنا المطلبية ومن أجل إصلاح العملية السياسية، لا توجد في أدبياته ما يشير بكلمة واحدة الى الإلحاد ناهيك عن الترويج له. وفي هذا الخصوص كتب ضابط المخابرات البريطاني " ب.ب. راي" في رسالة موجّهة الى مدير الشرطة السرية العراقية بتاريخ 20 نيسان 1949 " على ان الشيوعيين العراقيين ، بذلوا جهدهم لعدم اثارة مسألة الدين ، ولكن هذا لا يمنع حسب توصيته، في ان تستفاد الحكومة من هذا العامل في محاربتهم" (1). ولتأكيد موقف الشيوعيين من مسألة الدين وإحترام عقائد شعبنا، وأنهم " الشيوعيون" لم يكونوا غافلين عن نتائج الإجتماع المباشر بين السفير البريطاني بالعراق السير " جون تروبتيك" والمجتهد الشيعي الأكبر " الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء" في تنسيق المواقف بين الطرفين تجاه العدو المشترك والمنعقد في مدرسة الشيخ بالنجف الأشرف بتاريخ السادس من تشرين الثاني /أكتوبر سنة 1949 ، كتب حنا بطاطو قائلا " ولم يكن الشيوعيون غافلين عن محاولات تعبئة القوى الدينية ضدهم، ولهذا فقد تجنبوا بطريقة مدروسة توجيه حتى اصغر اساءة الى معتقدات الناس " (2) .

دعونا نعود هنا الى الأسباب التي دعت وتدعو رجال الدين وأعضاء الأحزاب الدينية على تناول موضوعة الألحاد اليوم، وهل هناك بالفعل موجة إلحاد واسعة بالبلد ما جعل هذه القوى أن تصاب بمرض نفسي إسمه " فوبيا الإلحاد" أو رهاب الإلحاد باللغة العربية؟ لكن قبل البحث عن أسباب "الإلحاد" علينا أن نمّيز بين إلحاد النخبة أي المثقفين الذين يتعاملون بالفكر والعقل والعلم والمنطق والفلسفة للوصول الى الإلحاد وهم قلّة بالمجتمع، وبين "إلحاد" الجمهور والذي يتخوف منه الإسلاميون ورجال دينهم والذي تجاوز اليوم الخطوط الدينية والأجتماعية "الحمراء" بنظرهم، والتي لم يعرفها مجتمعنا من قبل ولا حتى عندما كان الشيوعيين يمتلكون الشارع سنوات ثورة الرابع عشر من تموز. فالألحاد عند المجموعة الأولى هو موقف مبدأي مرتبط بأمور فلسفية وعلمية لا مجال لسعتها في بحثها هنا، أمّا "إلحاد" المجموعة الثانية وهم الأغلبية فلا علاقة لها بالفلسفة والعلوم مطلقا.

أنّ الإلحاد وبالأحرى النكوص عن الدين والذي تفشّى في السنوات الأخيرة في عموم العالم الإسلامي والعربي منه على الخصوص شمل فئات إجتماعية واسعة لأسباب عدّة، منها الخطاب الإسلامي المتشدد والذي كان الأرهاب أحد أهم تجلياته، ومنها فشل المشروع الإسلامي في تلبية حاجات الناس اليومية لعدم إمتلاكهم نظريات وأفكار أجتماعية وإقتصادية قادرة على التعامل مع المتغيرات الهائلة التي حدثت وتحدث في العالم يوميا ومواكبتها، علاوة على الفقر والبطالة واليأس من تحسّن الأوضاع في ظل دكتاتورية الحكومات وتراجع القوى الديموقراطية واليسارية بالتصدي لمشاكل مجتمعاتها لأسباب منها ذاتية وغيرها موضوعية.

"الإلحاد" في العراق هو ليس كما "الإلحاد" في بقية البلدان العربية والإسلامية، ففي تلك البلدان أظهرت المنظمات الإرهابية كالقاعدة وداعش من الوحشية ما أصاب العقل الجمعي في تلك المجتمعات بالصدمة. وقد ساهمت نقل المعلومة بسرعة قياسية نتيجة الثورة التكنولوجيا والفظاعات التي روجّتها وسائل إعلام هذه المنظمات وضعف الدولة في مواجهة الخطاب الديني "السلفي" بل مباركتها لها أحيانا كثيرة، بشيوع موجة "إلحاد" بين الفئات العمرية المختلفة ومن أوساط إجتماعية مختلفة. الا إننا لم نلاحظ هجمة منظمة على الإلحاد من قبل تلك الحكومات كما الهجمة المفتعلة الأخيرة عندنا.

لإزدياد نسبة الأمية في البلدان الإسلامية والعربية والتي يحتل بلدنا مركزا متقدما منها، لا وجود للإلحاد بمعناه الفلسفي والعلمي الا في مساحات ضيّقة كما أسلفنا. الّا أنه أي الإلحاد إنتشر وينتشر ببطء ولكن بوتيرة متصاعدة بين الشبيبة خصوصا كرد فعل على تسويق الدين من قبل الجماعات الطائفية المتقاتلة فيما بينها بشكل أظهر الإسلام كدين متعطش للدماء. فالحرب الطائفية بين الشيعة والسنّة والتي ليس للملحدين فيها أي دور تسببت خلال سنوات ما بعد الإحتلال لليوم من الجرائم ما يندى لها جبين البشرية. والعراقي الذي كان له الأمل ببناء دولة المواطنة على أنقاض دولة البعث البوليسية، يرى بلده اليوم وهو تحت حكم أحزاب أسلامية شيعية وسنية وتدخل مباشر لرجال الدين في أمور الدولة على شفير الهاوية.

فالأنهيار الإقتصادي والإجتماعي والأخلاقي بالبلد رغم المداخيل الفلكية بعد أن قفزت أسعار البترول لأرقام قياسية خلال السنوات الماضية، وإرتفاع نسبة البطالة والفقر وإنعدام الخدمات برمتها وغياب الأمن وكثرة التفجيرات وإرتفاع أعداد الضحايا بشكل مستمر، وعدم وجود ما يشير بالأفق الى إمكانية عودة الأوضاع الى حالتها الطبيعية في الأفق المنظور. دفعت قطاعات واسعة من الناس الى اليأس، وقد ترجم الكثير من اليائسين موقفهم من المصاعب اليومية التي يعانون منها ووطنهم الى "إلحاد"، فهل هذا "الإلحاد" الا رد فعل؟

ماذا حصل للجماهير التي عاشت الفترة الإيمانية التي أطلقها المجرم صدام حسين ، تلك التي رسّخت الطائفية بأبشع صورها إثر قمعه الأكثر من قاس للإنتفاضة الآذارية لشعبنا؟ أليست هي نفسها التي تمترست دينيا وطائفيا خلف مرجعياتها الدينية وأحزابها الإسلامية؟ أليست هي من تقيم الشعائر الدينية وتعطل البلد لأشهر في مناسبات دينية مختلفة منها ما هو حقيقي ومنها ما هو مبتكر!؟ لماذا فشل الخطاب الديني وهو يمتلك كل مقومات القوة من إعلام ومال وسلطة وميليشيا وجمهور؟ لماذا تراجع التدين الحقيقي النقي والفطري لصالح التدين المزيف والطائفي واللصوصي؟ لماذا خرجت الجماهير ولأول مرة في تأريخ العراق وهي تهتف "بإسم الدين باگونه الحراميه"، و لماذا لم تهتف الجماهير "بإسم الإلحاد باگونه الحراميه " على سبيل المثال؟

أنّ الإجابة على الأسئلة أعلاه وغيرها من تلك المتعلقة بالفشل الأمني والأقتصادي والأجتماعي للسلطة، هي التي ستوضح الأسباب الحقيقية لمواقف الناس من الدين ورد فعلها تجاهه. بعد أن أصبح الدين تجارة مربحة للمتاجرين به من أحزاب ومؤسسات دينية. أنّ عودة الحياة الى طبيعتها وبناء دولة المواطنة على أنقاض نظام المحاصصة الطائفية القومية من خلال نظام علماني ديموقراطي حقيقي، سيعيد للدين نقاءه الذي شوهته القوى الدينية نفسها وحينها سنرى الإلحاد في نطاق ضيق كعادته.

أيها الإسلاميون أنّ ما ترونه وتهابونه وتتهمون القوى الديموقراطية بتبني الإلحاد ونشره بين الجماهير، لا مكان له الا في عقولكم المريضة والبائسة. فالخط البياني لحكوماتكم في تنازل مستمر الا الخط البياني للقتل والسرقة والخيانة، ولو نجحتم هذه المرة بخداع الناس لينتخبونكم بلصق صفة الإلحاد ونشره ضد خصومكم، فمن هو خصمكم التالي بالمرّة القادمة بعد أن تكونوا قد إستنفذتم كل الخصوم من كورد وسنّة وإرهابيين؟

 

(1) العراق ، الكتاب الثاني ص 361 ، حنا بطاطو.
(2) نفس المصدر ونفس الصفحة.
 

الدنمارك
1
4/6/2017

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter