| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

زهير دعيم

 

 

 

 

الأربعاء 4/2/ 2009



وانتصرتِ الإنسانيّة
" وكنْتُ هناكَ في غزّة "

زهير دعيم

في منتصف الليلة الماضية ، دكَّ صاروخ " بالخطأ !! " انطلق من طائرة مغيرة بيتا في "بيت لاهيا " في غزّة ، فلم يُبقِ منه شيئًا ، وحوّله إلى كومةٍ من الأنقاض.
وفي ساعات الفجر الباكر، كان على أربعة من الجنود الإسرائيليين المشاة المتواجدين بالقرب من المبنى ، أن يُمشّطوا البيت والجوار بحثًا عن رجال حماس .

تحرّك الجنود بحيْطةٍ وحذر شديدين ، خوفًا من قنّاصٍ هنا او مُنتحر هناك، وجابوا أركان البيت المُهدَّم يزرعون أنظارهم وآذانهم في كلّ حجرٍ وجدارٍ .
ورغم أنّ التعليمات تلزمهم بعدم الابتعاد عن بعضهم البعض ، الا أنّهم توزّعوا وتفرّقوا بحثًا عن ٍ " المُخرّبين ".
وفعلا كان حظّ عُمْري ؛ ذاك الجندي الشّاب " يفلق الصّخر "، فقد سمع أنيناً خافتًا يصدر من خلف أحد الجدران، فأنصتّ وتقدّم بحذر، ليشاهد فتىً جريحًا ينزف الدم من رجله اليسرى، وما أن رآه الفتى لأوّل وهلة ، حتّى انكمش في مكانه يرتعد ويرتجف ، ثمّ ما لبث أن حدجه بنظرة ملأى بالغضب واللوم والعتاب ...
وتراجع عمري إلى الخلف ، وكأنه لم يرَ أحدًا ، وانضم إلى رفاقه عائدًا إلى ثكنته القريبة .
كثيرا ما بكى عمري في الليالي السابقة ، وهو يرى الطائرات الإسرائيلية تزرع الدّمار والقتل في كلّ مكان في غزّة ، انّه يكره الحرب ويمقتها ،و يكره على وجه الخصوص قتل الأطفال ، ويحبّ الإنسان ويتألم مع كلّ مظلوم .
ولكن ماذا يفعل والقانون هو القانون ...كم تمنّى أن تتوقف الحرب وأن يسود السِّلم ربوع الشرق والغرب ، ولكن ظلَّ حُلمه حلمًا !!
ظلّت صورة الفتى الجريح القابع خلف الجدار تُهيمن عليه ، حتى أنّ حربًا ضروسًا قامت في داخله . هل يخبر قائده بما رأى ؟ أم يمتنع ويقف هو وحده على سرّ الفتى ؟ خاصة وأنّه يُتقن اللغة العربيّة المحكيّة ، فقد تعلّمها في المدرسة.

وفي ساعات الظهيرة ، لم يأكل عمري كعادته حصّته كاملةً من الطعام ، بل أبقى نصفها جانبًا ، وتذرّع بأنه يريد أن يرميها في سلّ المهملات .
وأسرع عمري إلى المبنى المًهدّم ، وهو يلتفت يسرة ويمنة ، حاملا الطعام وضمادة في جيبه .

انّه يخاف الآن من الطرفين!!! من هنا ومن هناك ، ولكن لا بأس فالإنسانية المُعذّبة تؤرّقه وتشدّه.

ووجده ما زال في مكانه ، مُلتصقًا بالجدار!! .
وعرف عمري وبعد جهد جهيد، أنّ صاحبه يُدعى عمرًا ، وأنه الوحيد في البيت ، فقد أخلى أهله لحسن الحظّ البيتَ قبل تفجيره بنصف ساعة ، وأمّا هو فعاد ليأخذ رسالة عزيزة على قلبه ، وكان أن جاء الصّاروخ في تلك الأثناء فسحق البيت سحقًا.

وضمّد عمري الجرح ، وأكل عمر "علبة سردين و" خبز يهود"
وهو ينظر إلى عمري تارة وتارة إلى الأرض .
أحقيقة ما يرى ؟ أم أنه في حُلمٍ ؟ ..أيمكن أن تنموَ في تلّ الحقد زنبقة المحبّة ؟ ، أيمكن أن تُزهر فوق تلّ الجماجم نرجسة الأمل ؟!!

.....وعاد عمري إلى ثُكنته بعد دقائق ، وكأنّ شيئًا لم يكن ...عاد بعد أن ربطت الصّداقة بين قلبيْن .
غدًا سأعود يا عمر في مثل هذه السّاعة ...ابقَ هنا، فالخطر يتجوّل في كلّ مكان.
وهزّ عمر رأسه وابتسم ، وربتّ عمري على رأس صديقه الجديد.

ولم يبكِ عمري في تلك الليلة .

بينما انتظر عمر الظهيرة التالية على أحرّ من الجمر ، ولم يكن السردين والخبز الإفرنجي هاجسه ، بل عمري ، هذا العدو الصّهيوني ...هذا العدو الصديق !!

وتعانقا ...ولملما الجراح واقتسما سريعًا الأمنيات ، على أمل اللقاء في الغد .
وجاء الغد بطيئًا إلى أن انتصف ، وعمري بذريعة أخرى يترك رفاقه ويقطع الأمتار القليلة التي تُبعده عن صديقه الجديد ....وتأبى رصاصة القنّاص إلا أن تخترق ساقه اليمنى فيسقط على الأرض صارخًا ، ليس بعيدا عن الجدار إيّاه .
ويهبّ عمر والدّموع تملأ عينيه ، فيجرّه بسرعة إلى خلف الجدار، وهو يطمئنه ، ثمّ يسارع إلى تمزيق قميصه هو ، ويروح يلفّ به الجرح النازف .، ثمّ يروح يجرّ رجليه جرًّا ويركض إلى هناك ، إلى العدو ، إلى الصهاينة !! وهو يصرخ ويشير إلى الجدار الواقع في البيت المُهدَّم ..عمري ....عمري .!!!





 

free web counter