| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

زهير كاظم عبود

 

 

 

الأثنين 1/9/ 2008



تضاريس الايام التي لم تزل في الذاكرة
قراءة في كتاب تضاريس الايام ليوسف ابو الفوز

زهير كاظم عبود

كنا نتدفأ تحت أشعة الشمس في بيوتنا ، وهم كانوا يتدفأون على مواقد الترقب والسهر والتعب والحذر .
كنا ننعم بنومة الفجر فوق السطوح في ليالي الصيف وتحت نسائم أجهزة التبريد ، وهم يتدثرون في لحف الجبال ووسط الكهوف المظلمة والمكتظة بخفافيش الجبال ورطوبة الصخر ودبيب العقارب ووحشة الليل البهيم .
كنا ننعم بليالينا التي يضيئها قمر آذار وندى الغبش الطري ، وهم كانوا يكتبون تضاريس ايامهم بعرقهم ودمائهم العبقة .
أولئك من نزعوا هواجسهم وخواطرهم وسحبوا ارواحهم من بيننا ، ليسجلوا هواجسهم وذكرياتهم بنفس اليد التي تحمل السلاح تعلن مقاومتها بجرأة لسلطة الدكتاتور .
اولئك من كتبوا قصائدهم وأرخوا أعمارهم ونقشوا اسماؤهم على صخور كردستان ، أولئك من رسموا بأشعارهم ولوحاتهم معاني الرجولة ، ماتركوه من أيامهم شهادات لم تزل تتوهج ، مافقدوه من اعمارهم لم يزل ثرى كردستان أميناً على أجسادهم .
يقول الكاتب يوسف ابو الفـــوز في تضاريسه هل ستوفق هذه الدفاتر لأن تؤرخ لحياة الانصار ؟
مثقلة اجسادهم ببرد كردستان وبثلوج الجبال التي يتجمد فيها الصخر ، وتبقى قلوبهم لاتنام ، اضلعهم صارت مكامن للبنادق ، وأحلامهم لم تكن تتعدى موقداً للدفء ورغيف حار من الخبز وعصافير لاتفر خائفة مرعوبة ، وخطوة لاتقع في كمين ينصبه الأعداء ، وشباب لم يمر بمرحلة الشباب ، وجميلات خبأن اعمارهن وزينتهن وتوسدن الكلاشنكوف .
ليس بينهم من يحمل رتبة الجنرال ، غير انهم وزعوا الأدوار والرتب والمهمات دون نياشين ، مثلما وزعوا الأزهارالبرية والمحبة والمودة ولفائف التبغ ، ليس فقط الفكر ما يجمعهم ، انما أنسانية النصير المقاتل ورمزية الدور الذي يؤديه ، هو يعرف انه لن يستطيع أن يغير العالم ببندقيته ، لكنه يؤمن حقا ًانه يشير برمزية خالدة الى من يقول للطاغية نقاتل كل آلتك الحربية بأرواحنا وعقولنا ، فأن سقط أحدنا سيحمله الاخر ليحل محله ولن ننتهي أبداً .
ينامون جميعا دون نوم ، ويتحلقون حول موقد النار وعقولهم في عفك والعشار وشارع الحبوبي وكورنيش العمارة وسوق الحلة ومدخل سدة الهندية وقطاع 54 في مدينة الثورة والسوق الكبير في السماوة وقلعة كركوك ورمان شهربان وليالي بغداد وقباب كربلاء وقبور النجف ، وسدة الكوت ، تصطك اسنانهم من البرد متراقصة مع ( سر الليل ) ، غير ان الليل أمين والصباح جميل دون أسرار ، لكنه يفضح أغانيهم ومسيرهم ، انهم يكتشفون للطبيعة ازهارها البرية ، وقمرها الذي ينير الطرق السينمية ، والحشائش التي تداوي الامراض ونزلات البرد والاخشاب التي تصلح للمواقد والطيور التي تقع في الشباك والذاكرة المتوقدة التي تستعيد كل الأيام الحلوة ، وقطع النايلون التي تبرقع الكبرة الهزيلة .
حين تصير ارواحهم واحدة فلا يعرفون اسماؤهم ، غير ان لهم لغة يتفاهمون بها ، لغة لاتتحرك فيها الشفاه ، انهم يقرأون ماوراء الجبال والجباه ، الربايا والكمائن والتوتر والحذر والطلقات الفقيرة والشمس التي يذوب معها الثلج ، والصخور التي ترتوي من منابع ملونة ، فيصير نداها أزاهير برية ملونة مرة اخرى .
يد على زناد البندقية وأخرى على ماتجيش من الذكريات في مركز القلب ، وقصائد مكتوبة فوق أكياس متروكة ومهملة ، وحقائب لاتحتوي على كسرة خبز وأوراق أصفرت من قرائتها ونشرات حزبية تمزقت حواشيها وأنتظار لغد يأتي أو لايأتي .
لكنهم يضعون الوطن بين أضلعهم ينشرون أرواحهم تحت أشعة الشمس ، ونحن لم نزل فاغري الأفواه عمن تركوا أيامهم وتضاريسها بيننا ، وأعلنوا لم يعد بينهم من يهادن ، وصارت لغتهم مع السلطة الغاشمة أحرفاً من رصاص ، ونحن لم نزل تحت شمس الربيع نشاهد التلفاز ونستمع لبيانات الحرب يوميا ونشاهد صوراً من المعركة .
يحلمون بمرق الأمهات وطعم خبز التنور ، غيرانهم يلوكون خبزاً يابساً تكلس حتى صار كالحجر ، مع ان أيامهم كالصخر .
أن أجمل ألأزهار تلك التي تموت في عنفوان جمالها ، ومابين ارتشافات شاي النومي بصرة وعلب صفيح فارغة تحولت الى أقداح للشاي ، وحكايات وأساطير ، وأشجار تهزم الريح لم تزل واقفة في العراء ، تصفر أوراقها غير انها تؤرقها مرة أخرى رغم الام المخاض كل موسم ، أنهم يكتبون أشعارهم فوق ورق الأشجار اليانعة وعلى جذوع الأشجار التي صادقتهم وأحبتهم ، ويدسون دفاترهم فوق صدورهم الدافئة ، انهم فتية أمنوا بشعبهم وبقضيته ، لكنها النجوم تتساقط ترسم لحظتها الأزلية وتومض ومضتها الأخيرة ثم تغفو .
انها أيامنا وهم يملؤنها وجوه تأتي من كل مرافيء المدن جنوباً وشرقاً وغربا وشمالاً ، أطيا أنسانية تجسد لك الروعة لعراقية ، أديان وقوميات ومذاهب ، يوحدها الأمل والأيمان بالقضية ومسيرة لاتتوقف ، بعضهم يتذكر وثبة وبهيجة وجنان واحلام ومنور وسكون الروح ، بعضهم يتذكر دفء الامهات اللواتي تحملن الفراق وعذاب مر وشهقة شوق لن يفهمها أكبر العاشقين .
انها تضاريس الأمكنة ، هه رزنه ، مه راني ، دولكان ، كه ر كير ، بيرموس ، روستي ، باراو ، شيرة مه ر ، جبل مه تين ، به رواري بالا ، باشتاشان ، غير ان حركات ارواحهم كانت تترقب قدوم الهليكوبترات والجحوش ولحظة الغدر ، وهم ينتشرون بين الأشجار والصخور يفهمون معنى عناق الأرض ، احيانا يتدثرون بالثلج فيزيدهم نقاءا وهيبة ، واحيانا يضللون رؤوسهم بأغصان من شجر اخضرفترقص لهم الحمائم التي ارعبها صوت الرصاص ، غير انهم لايرون سحنات وجوههم في المرايا ، ولايمشطون شعرهم مثلنا ، فقد نزعوا عنهم التأنق وباتوا يرسمون ايامهم بتقشف عال لما يستحقه منهم السيد العراق .
قذائف ورصاص وثلج ودماء دافئة تلون الثلج بألوان قوس قزح ، و ضمادات بدائية ممتلئة بالمحبة والرغبة في التواصل عبر وديان وصخور ، وهلاهل تختلط مع الصراخ ، الوطن .. الأنصار .. الحزب .. الضحكات .. الرفاق .. الضباب ، والشمس التي تفضح الجميع . .. الأيام التي تروح ولاتجيء ، الأحلام التي توقفت بأرادة بشرية خلاقة .
لم تكن مذكرات يكتبها ابو الفوز بلغته السهلة والبسيطة ، ولم تكن بيانات يكتبها نصير في منتصف الليل على ضوء فانوس ، لم تكن اشعار غبش كتبها شاعر عند اول خيوط الفجر والعيون ممتلئة بالملح والنعاس والرغبة في الدفء ، ولم تكن تخيلات وأحلام ، انه يستلها من بين وجوه الأنصار ولحظة الموت التي تراوغهم ، من بين ضحكاتهم وحزنهم وأغانيهم الخافتة ، أنه يستلها من بين مواجهة جيوش مثل النمل تتسلح بكل الأسلحة ماعدا المحبة فهي عندهم مشروعا وجزءا من أرواحهم وسلاحهم الذي لاينتهي .
(البنا .... ت  
و البنا .... دق
يتشابهن في استدارة العيون
ودقة التسديد
)
ويوسف أبو الفوز نصيرا وقاصا ، يمتلك لغة بسيطة بساطة أهل السماوة ، عميقة بعمق جراحه وتعبه ونضاله ، وأسمه الكامل يوسف علي هدّاد ، من مواليد مدينة السماوة ، الواقعة في قلب الفرات الأوسط في 20/3/1956 ، التحق بقوات الأنصار الشيوعيين في كردستان العراق ربيع 1982 لمقاومة النظام الديكتاتوري، حتى حملة الإبادة المسماة بـ" الأنفال " في صيف 1988، حيث بدأت رحلته مع التشرد والمنفى والسجون ليستقر أخيرا في فنلندا .
شهادة الكاتب يوسف ابو الفوز التي أستلها من تضاريس أيام الشيوعيين العراقيين الملتحفين بجبال كردستان ، صرخة في فضاء العراق ، وأستعادة لأسماء رحلت تحلق فوق سماوات الوطن ، وأخرى لم تزل تتباهى بما أعطت من عمرها وأرواحها ، لكل واحد منهم شارة من ضياء يستمد بريقها من نبض الفقراء وعروق الفلاحين وتباشير الفجر الذي يؤذن به المؤذن لصلاة الفجر دون دكتاتور وطاغية ، ودون موت جماعي وقبور تضم كل تلك القوافل من الراحلين ، شهادة ابو الفوز التي تتجدد أزهاراً من لوز تبرعم ذكراها ، أذ يتوزع الأنصار بيننا دون ضجيج ، لم تزل عيونهم ترقب المستقبل ، يريدونه فجراً طاهراً وحلما لذيذاً ، يريدونه خبزاً لكل الفقراء ودمى لأطفالنا وشمس لكل الناس .
لنتذكر ماقدمه الفتية الذين آمنوا بشعبهم ، ولنتذكر الأرواح الطاهرة التي سكنت كردستان وهي تحتضن السلاح ، ولنتذكر لون الدماء الذي أمتزج بثلج كردستان يلونه كما لون القزح العراقي فيزيده بهاءاً ، ونتذكر انهم بيننا يريدون ان يرصوا حجارة العراق الجديد .
تضاريس الأيام في دفاتر نصير للكاتب يوسف ابو الفوز اصدار دار المدى للثقافة والنشر 2002 دمشق .

 


 

free web counter