| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. يوسف شيت

 

 

 

السبت 7/3/ 2009



نصف قرن على الأحداث الدامية في الموصل
(1-2)

د. يوسف شيت

الموصل،هي مركز محافظة نينوى وأكبر مدن العراق بعد بغداد . يعود تأريخها الى ألألفية الخامسة ق.م عندما كانت قرية تمتهن الزراعة ويطلق عليها نينوى الواقعة على الجهة اليسرى من نهر دجلة . وفي 1080ق.م إتّخذها الآشوريون عاصمة لإمبراطوريتهم الواسعة،وكان أشهر ملوكهم الذين بنوا صرح الحضارة الآشورية- آشور ناصر بال الثاني وسنحاريب وآشور بانيبال .وفي عام 612 ق.م سقطت نينوى بأيدي الكلدانيين بقيادة الأمير نبو بلاصر. وكان أشهر ملوك بابل حمورابي الذي وضع أول شريعة في العالم ونبوخذنصر الذي إشتهر بتطوير حضارة وادي الرافدين .وبعد السقوط بدأ بعض سكانها الإنتقال الى الجهة اليمنى من نهر دجلة في منطقة عبوريا الأكثر تحصينا .ثم توالت الغزوات من قبل الفرس والروم حتى دخول العرب المسلمين إليها بدون مقاومة القادمين من الجنوب عام 637 م .وسمّيت بالموصل كونها حلقة وصل بين مدن وبلدان من مختلف الجهات،وخاصة سوريا وتركيا، ومركز تجاري مهمّ . واحتلّها المغول بعد إحتلال هولاكو لبغداد عام 1258م . ثم العثمانيون عام 1514م .ثمّ إحتلّها الإنكليز عام 1918في الحرب العالمية اللأولى وسقوط الدولة العثمانية،ثمّ الأمريكان عام 2003 .

بعد ثورة العشرين الكبرى ومنح العراق إستقلالا شكليا أصبحت الموصل ورقة ضغط بيد المستعمرين الإنكليز للحصول على تنازلات من النظام العراقي الجديد عندما طالبت الحكومة التركية بضمّها اليها . وفرض الإنكليز عام 1924 على الحكومة العراقية معاهدة لبقاء العراق تحت الإنتداب البريطاني لمدة 25 عاما ومنح الشركات الإنكليزية إمتيازا لإستثمار حقول النفط في كركوك والموصل مقابل بقاء الموصل عراقية،ولكن تمّ ضمّ لواء الإسكندرونة السوري فيما بعد الى تركيا .

أدرك المحتلّون الإنكليز،بعد ثورة العشرين، بأنّ حكمهم المباشر على العراق سيصبح أصعب بمرور الوقت،إن لم يكن مستحيلا ، لذلك عمدوا الى إقامة نظام حكم يكون تحت إشرافهم المباشر للحصول على كلّ مايؤمّن مصالحهم عن طريق المعاهدات والمناورات والأحابيل الدبلوماسية، متحاشين الطرق التي تكلّفهم الأموال والأرواح . لتنفيذ سياستهم تلك قرّر مؤتمر القاهرة المنعقد بإشراف تشرشل- وزير المستعمرات آنذاك، في 21 آذار 1921 إقامة حكم ملكي برلماني يكون فيصل إبن الحسين ملكاعليه . وبعد هذا القرار تمّ تشكيل مجلس وزراء الذي نادى بفيصل إبن الحسين ملكا على العراق في11 تمّوز عام1921 . واعتبر هذا التأريخ يوم تأسيس الدولة العراقية الحديثة .

لكل نظام قاعدة إجتماعية، تتكون من طبقات وفئات، يعبّر عن مصالحها عن طريق سن القوانين، وهي تدافع عن هذا النظام بغض النظر عن قوميتها ودينها . ولو ألقينا نظرة سريعة على طبقات المجتمع العراقي وفئاته بعد تأسيس الدولة العراقية : كانت الصناعة الوطنية الموروثة من الإحتلال العثماني ضعيفة ومتخلفة،أي ليس للبرجوازية الوطنية دور مؤثّر سوى على نطاق شخصيّات،وبدأت للتوّ تشكّل أحزابها،مثل الحزب الوطني ثمّ الحزب الوطني الديمقراطي، كما قامت الشخصيّات القومية بتشكيل أحزابها،مثل حزب الإستقلال . مقابل ذلك نشأت فئة الكومبرادور،أي البرجوازية الطفيلية التي تتكون من كبار تجّار البضاعة الأجنبية والمضاربين الوسطاء الى جانب طبقة الإقطاعيين،وأصبحت هذه الفئات تشكل عائقا كبيرا بوجه الصناعة الوطنية. وكانت الطبقة العاملة في طور النشوء وبدأت للتوّ تطالب بإنشاء نقاباتها،ثمّ أسّست حزبها عام 1934 . أمّا الفلاحين،فالغالبية العظمى منهم يعملون لدى رؤساء العشائر وشيوخ القبائل بأجر أو مساعدة عينية لاتسدّ رمق عيش عوائلهم ولم تكن هناك قوانين تحميهم أو تحدّ من تسلّط مرؤوسيهم .ولأجل شرعنة إستغلال الفلاحين سنّت مجموعة قوانين وبمختلف المسميات تعطي إمكانية إستحواذ الإقطاعيين على المزيد من الأراضي وطرد الفلاحين،مثل قانون تمليك الأراضي الأميرية رقم 16 لسنة 1926، ثم تبعتها قوانين أخرى لصالح الملاّكين،مثل قانون تسوية الأراضي وقانون اللزمة وقانون العقر. وهذه القوانين وضعت على اساس دراسات الخبراء الأنكليز . بهذا أصبح النظام الجديد في العراق يعبّر عن مصالح كبار ملاّك الأراضي والتجّار الكبار والمضاربين. وأصبح الإقتصاد العراقي ،بشكل رئيسي، يعتمد على مردودات النفط الشحيحة،أو ما يسمى بالإقتصاد الريعي .

لقد أصبحت التناقضات الإجتماعية مستعصية الحلّ بسبب عجز النظام للقيام بذلك وإيغاله في سياسات حماية مصالح الدول الأجنبية،وخاصة البريطانية،ومصالح الفئات التي لايروق لها أي تغيير قد يمسّ مصالحها،مفضّلا،أي النظام،كلّ ذلك على مصلحة الوطن العليا ومصلحة الأغلبية الساحقة من الجماهير. لقد أخذت أعداد كبيرة من الفلاحين تهاجر الى المدن من أجل كسب لقمة العيش والهروب من جور الإقطاعيين المستفحل،مما زاد من مشكلة البطالة في المدن لقلّة فرص العمل سواء في مجال الخدمات أو بسبب عجز الصناعة الوطنية من التطور لأنّ القوانين التي وضعتها الحكومات المتعاقبة أصبحت بمثابة عصا في دولاب التطور،كما أصبحت السجون والمعتقلات ودهاليز التعذيب غاصّة بمعارضي النظام . أمّا الدستور المقرّ منذ عام 1925 فغطّاه غبار الزمن ولم تستطيع أية حكومة أن تفعّل مواده،بل بالعكس،كانت تصدر المزيد من القوانين المجحفة بحق الجماهير وقواها الوطنية .

لهذه الأسباب أصبحت قضية حلّ التناقضات الإجتماعية متعلقة بتغيير النظام ، وهذا ما قامت من أجله ثورة 14 تمّوز الوطنية

موصل أم الربيعين
الديمقراطية عام 1958

الوضع الإجتماعي لمحافظة (لواء) الموصل قبل الأحداث
تعتبر محافظة نينوى من أكثر محافظات العراق تنوعا قوميا ودينيا . فيها العرب الذين يشكلون الأكثرية ثمّ الأكراد والتركمان والكلدان والآشوريون والشبك والأرمن . كما يشكّل الإسلام الأكثرية الدينية والمذهب السنّي هو الغالب،ثمّ المسيحيين والإزديين . كما أنّ التفاوت الطبقي،كبقية المحافظات،كان ولازال كبيرا . ففيها طبقة ملاّكي الأراضي الإقطاعيين وفقراء الفلاّحين . وكبار التجّار وأصحاب المعامل والعمّال الذين يتلقّون أجورا زهيدة وبدون قانون ضمان عادل،بالإضافة الى العاطلين عن العمل. وفيها متوسطي الحال من أصحاب المهن الحرة والفلاّحين الميسورين .ولسكان المحافظة(اللواء)،وخاصة مدينة الموصل، علاقات تجارية جيدة مع سوريا وتركيا منذ زمن بعيد .وليس من الغريب بأنّ اللهجة المصلاوية قريبة الى السورية،وخاصة الحلبية،من أية لهجة عراقية أخرى،وكذلك التدبير الإقتصادي المتّزن الذي يبتعد عن البذخ والبخل الغير مبررين،وهذا يأتي بسبب الظروف الصعبة التي مرّت بها المدينة خلال تأريخها الطويل من حصار ومجاعات وأمراض،مما جعلها أكثر مدن العراق محافظة وتديّنا . وسكان الموصل يميزون أنفسهم عن سكان الأرياف والمدن التابعة للمحافظة بتسميتهم "أهل البغّة " (وتعني أهل البرّة أو الغير الساكنين في مدينة الموصل). وتمتاز الموصل بتطور علومها وثقافتها وحضارتها منذ القدم . ومن الناحية السياسية كان فيها أحزاب معارضة وطنية،مثل الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي والحزب ااديمقراطي الكردي،وأحزاب قومية عربية- حزب الإستقلال وحزب البعث،وأحزاب دينية،مثل الإخوان المسلمين ، وأحزب"الحكومة" الإتحّاد الدستوري (حزب نوري السعيد) وحزب الأمّة الإشتراكي(حزب صالح جبر) .

ليس هناك ما يشير الى وجود مساهمة فعّالة لمدينة الموصل في الهبّات الجماهيرية كما لبقية المدن العراقية،باستثناء إنتفاضة تشرين أول 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر، مثل ثورة العشرين ووثبة كانون 1948 وإنتفاضة تشرين1952.ويعود السبب الأساسي، الى كون الشخصيات المؤثرة في مدينة الموصل وذات النفوذ على سكان المدينة كانوا من أثريائها،سواء من ملاّكي الأراضي أو كبار التجّار أو أصحاب المعامل ،مثل عائلة الصابونجي والجادر والجليلي والطالب وكان من بينهم نوّاب وأعيان في العهد الملكي . وكان لحزب الإستقلال نفوذ من بين هذه الشخصيّات مثل عبد الجبار الجومرد وصدّيق شنشل والملاّك قاسم المفتي،والتاجر الكبير عبد الرحمن سيد محمود المرتبط بإخوان المسلمين إضافة الى السيد محمد محمود الصوّاف مؤسس حركة إخوان المسلمين. وقد ترأست شخصيات موصلية رئاسة الوزارة في العهد الملكي،ومنهم : جميل المدفعي سبع مرّات ، علي جودت الأيوبي ثلاث مرّات ، أرشد العمري مرتين ومصطفى العمري مرة واحدة.

كما أشرنا سابقا،جاءت ثورة تموز لحل التناقضات المستعصية داخل المجتمع عن طريق إجراء إصلاحات جذرية،وأهمها إصدار قانون الإصلاح الزراعي في 30 أيلول 1958 الذي أعطى الحد الأعلى للملكية ب 1000 دونم أراضي سيحية و2000 دونم ديمية . هذا بدوره يحرر ما يقارب من 16.000.000 دونم من الأراضي الزراعية من مجموع 25.000.000 دونم وتوزيعها على آلاف الفلاحين الذين لايملكون أية قطعة أرض زراعية ويرفع من مستواهم المعيشي3 .ثم صدور قانون تشكيل الجمعيات الفلاحية والنقابات العمالية والمهنية وإجازة المنظمات الديمقراطية وصدور قانون الأحوال الشخصية الذي يمنح المرأة بعضا من حقوقها، والخروج من منطقة الكتلة الإسترلينية وتحرير العملة العراقية والخروج من حلف بغداد العدواني وصدور قانون رقم 80 للإستثمار الوطني للنفط وتشجيع الصناعة الوطنية،،وتخفيض أسعار بعض المواد الغذائية وفي مقدمتها الخبز، ومكافحة الأميّة . وهذا لايعني بإنّ المتضررين من قيام الثورة وأصحاب المصالح العليا سيستجيبون لأهدافها بدون مقاومة ،وبكل الأشكال . كما كان هناك البعض من المساهمين في الثورة وتحديد أهدافها من يريد تحريف مسارها وفق أهداف ،غير التي حددتها وأعلنتها أثناء قيامها .

القوى المحركة للتمرّد (حلف الردّة)
كان التمرّد العسكري الذي قاده العقيد الشواف عام 1959 هو المحاولة الرابعة لإجهاض ثورة تموز،بعد إجهاض المحاولات التي قام بها عبدالسلام عارف، ومجوعة بكر- عماش، ورشيد عالي الكيلاني .(حسب المؤرخين)

كانت ثورة 14 تموز المجيدة بمثابة صاعقة نزلت على رؤوس الإنكليز والأمريكان،وخاصة دوائر مخابراتهم . فلم يكن بوسعهم،إلاّ التفكير بالتدخل العسكري السريع لإجهاض الثورة،لأنّّ مصالحهم ،ليس في العراق فقط ،بل وفي المنطقة باتت في خطر. لذلك بادروا الى إنزال القوات الإنكليزية في الأردن والأمريكية في لبنان . لكنّ إندفاع الجماهير لحماية الثورة وإصدار قانون المقاومة في الشعبية في 19 تموز للتصدي لأي تدخل أجنبي،ثم إعلان الإتحاد السوفييتي مساندة الجمهورية العراقية والإعتراف بالنظام الجديد بعد إعتراف الجمهورية العربية المتحدة وعقد إتفاقية ثنائية معها،أجهض التدخل العسكري وإنسحاب القوات الأجنبية من الأردن ولبنان . وعندما أيقنوا بأنّ القضاء على الثورة بهذه الطريقة غير مجدي،لجأوا الى إمكانية إجهاضها من داخلها . فقامت دوائر مخابراتهم ودبلوماسييهم بتجميع المعلومات والقيام باللقاءات مع شخصيات حكومية وحزبية بانت لها بأنّها تدير ظهرها للثورة،ولا بدّ للمصالح أن تلتقي .وكان تمرّد الشواف في الموصل هو ملتقى المصالح،رغم تعدد الأهداف .

هناك أسباب حقيقية تجمعّ حولها حلف الردّ والتخفي وراء أهداف كاذبة كشف الزمن خطلها . وأهم هذه الأسباب :

1- قانون الإصلاح الزراعي الذي تضرر منه 3619 ملاّكا(نسبتهم الى مجموع العوائل الريفية هي 0,43 % ، أي 0,05% من سكان العراق البلغ آن ذاك 6.300..000)،ولكن يستفيد منه حوالي 3.500.000 فلاّح (على إعتبار الريف كان يشكل 70% من السكان آنذاك وانّ 16% منهم لايشملهم الإصلاح الزراعي)،وصدور قانون الجمعيات الفلاحية . المتضررين هنا، هم أصحاب الأراضي من الملاّكين الكبار .

2- قانون الأحوال الشخصية 188 لسنة 1959 الذي قاومه المتشددين الإسلاميين قبل إقراره،وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وانظم اليهم بعض القوميين لمقاومة إصدار القانون .وليس هناك من متضرر،سوى أنّ القانون يعيد بعض الحقوق الى 50% من المجتمع . ولو كان القانون قد سنّى قبل ثورة تموز، لما وجد مقاومة!!!

3- صدور قوانين إجازة المنظمات المدنية للطلبة والشبيبة والنساء، والمنظمات المهنية،مثل المعلمين والمهندسين والأطباء والمحامين وغيرهم . لقد ساهمت القوى القومية اليمينية وساندتها القوى الدينية المتشددة وتيار القوميين اليمينيين التركمان التورانيين والموالين لتركيا . وقد دعمت هذه القوى ماديا ومعنويا من قبل كبار الرأسماليين تحت شعار "يا أعداء الشيوعية إتّحدوا" لخوض الإنتخابات لقيادة هذه المنظمات وفي ظروف ديمقراطية،مع العلم أن هذه القوى لا تؤمن أساسا بالديمقراطية،إلاّ أنّها فشلت فشلا ذريعا أمام الفوز الذي حققته القوى الوطنية،باستثناء نقابة المحامين . واعتبرت نتيجة الإنتخابات بأنّه إختلال في موازين القوى الذي ليس في صالحها، فازدادت نفورا من الظروف الديمقراطية،وأبت إلاّ أن توغل أكثر في التآمر .

4- صدور قوانين تحمي حقوق العمال وتحدّ من إستغلالهم من الرأسماليين الكبار وتنظيمهم في نقابات للدفاع عن أنفسهم .والمتضرر هنا هم أصحاب المعامل الكبيرة والتجار الكبار وشركات النفط التي يعمل فيها آلاف العمّال العراقيين .

5- تبني حكومة قاسم سياسة نفط مستقلة لتعيد للعراق ثرواته الطبيعية بعيدا عن رغبات شركات النفط الأجنبية، كان هذا الإتجاه يثير مخاوف شركات النفط من فقدان إمتيازاتها،وخاصة بعد بدأ المفاوضات معها .

6- بعد قيام الثورة مباشرة بدأت الخلافات بين أقطاب حركة الضباط الأحرار . وكان هذا أخطر الأسباب التي أدت الى تصدع‘ قيادة الثورة والقيام بمحاولات إنقلاب . وكان الكثير من الضباط الأحرار يعتقد بأنّ المنصب الذي أسند إليه لا يليق به وأدنى مما كان يحلم به . وكان لعبدالسلام عارف اليد الطولى في إسناد المناصب،ومنها إصراره على إبعاد العقيد عبدالوهاب الشواف وتعيينه آمرا للواء الخامس في مدينة الموصل،مع العلم كان الشواف مرشحا لمهمة الحاكم العسكري العام . وكان عارف أول المساهمين في شقّ صفوف الضباط الأحرار،عندما ترأس وفد رسمي للقاء عبدالناصر في سوريا في 19 تموز،أي بعد الثورة بأربعة أيّام ،وكان الوفد قد وقعّ إتفاقيات إقتصادية وثقافية مهمة من شأنها تمتين موقف النظام الجديد في العراق. فبدلا من الحديث مع عبدالناصر حول كيفية تنسيق العلاقات بين البلدين في كافة المجالات وصولا الى إتّحاد فدرالي ،طرح عارف الوحدة الإندماجية الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة .وعندما طرح عليه عبدالناصر بضرورة التريّث وليس مقتنعا بأنّ عبد الكريم قاسم سيوافق على ذلك وماذا سيكون مصيره، فردّ عليه بحزم "سيكون مصيره مصير اللواء محمد نجيب" . وفي نقل آخر للخبر، عندما إجتمعا منفردين،قال عارف "إزاحة قاسم لا تكلّف أكثر من إطلاقة بعشرة فلوس".

كان صدّيق شنشل (أحد أعضاء الوفد العراقي) قد تحدّث الى عبدالناصر حول الخلافات بين قاسم وعارف . ونقلا عن محمد حسنين هيكل،فإنّ ناصر بعد خلوّه بعارف لم يبدي تحمسا للوحدة مع العراق في مثل هذه الظروف .
 

نصف قرن على الأحداث الدامية في الموصل
(1-2)

الحجّة التي تستّر بها حلف الردّة
بعد الطرح اللاّمسؤول لفكرة الوحدة الفورية من قبل عارف ثمّ الدعوة لها بشكل منفرد في فترة تجواله في مختلف المدن العراقية زادت من حدّة الخلافات،سواء بين الضباط الأحرار أو بين أحزاب جبهة الإتحاد الوطني .تدارك الحزبان الشيوعي والوطني الديمقراطي خطورة الوضع واحتمال تعرّض الثورة الى إنتكاسة وهي في أسابيعها الأولى، وتكللت جهودهما في عقد إجتماع لكل أطراف الجبهة دعا إليه سفير العراق في القاهرة فائق السامرائي في داره في شهر تشرين الأول 1958 وبادر الى الحديث : "إلتقيت بالرئيس عبد الناصر وتحدثنا حول شكل العلاقة بين البلدين،وأعرب عن إستعداده لقبول أية علاقة تتفق عليها الأحزاب السياسية في العراق ويوافق عليها عبدالكريم قاسم . فاتفقت كل الأطراف الى تبني مبدأ الأتحاد والخروج بمشروع مشترك يتم عرضه على عبدالكريم قاسم الذي لن يعارضه ثم السفر الى القاهرة لعرضه على عبدالناصر الذي بدوره وافق مسبقا على أية صيغة كما أكدّ فائق السامرائي. ولما إتجهت الأنظار صوب فؤاد الركابي،ممثل حزب البعث،فقال بأنه سيعرض هذا الأمر الى قيادة حزبه . وظهر بأنّ حزب البعث كان قد إتّخذ موقفا مسبقا بالدعوة الى الوحدة الفورية،وكان ذلك بمثابة قرار من عفلق الذي قدم الى العراق مع وفد لجنة الإتصال للمؤتمر الشعبي العربي في 24 تموز 1958 ،مع العلم أن بعض قادة الحزب،ومنهم فؤاد الركابي، عارضوا فكرة الوحدة الفورية،لكن عفلق أصرّ عليها لتصبح شعار البعث المصطنع لتأليب القوى الرجعية على الشيوعيين والديمقراطيين وعبدالكريم قاسم.

إذا رجعنا قليلا الى الوراء وتحرينا وثائق جبهة الإتحاد الوطني ومنظمة الضباط الأحرار وبيان الثورة الأول الذي أذاعه عبدالسلام عارف بنفسه والدستور المؤقت الصادر في تموز 1958،لم نجد هناك دعوة الى الوحدة الفورية،لا مع العربية المتحدة ولا مع غيرها،بل كان هناك إجماع على أهمية الإتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة الذي يرقى الى الوحدة بين الدول العربية المستقلة الديمقراطية،كما أنّ العراق لايزال نظامه فتيا وبدون برلمان وإن الحكومة التي تدير شؤون البلد لم تناقش قضية الوحدة لأنها لم تكن مطروحة أمامها ..إلاّ أنّ الخلافات إشتدت بين قادة الثورة العسكريين واشتد معها سيل التهم ضد القوى الديمقراطية وقيادة قاسم .

إنّ مفهوم الوحدة العربية لدى قاسم والشيوعيين والديمقراطيين العراقيين يختلف عن الدعوة الى الوحدة الفورية . فالطريق الى الوحدة بين بلدين أو أكثر يبدأ بدراسة الأوضاع الإقتصادية والسياسية والثقافية والإجتماعية والتكون القومي والديني في كل بلد لتبدأ خطوات أخرى تقرّب بين الشعوب ومنها الإتحاد الفدرالي أو ما شابه ذلك لتصل في المستقبل الى الإندماج الطبيعي وليس الميكانيكي،كما حدث بين سوريا ومصر،ثمّ المحاولة بين العراق وسوريا ومصر بعد إنقلاب شباط الفاشي وأدت الى فشلها المتوقع . وبهذا الصدد يقول قاسم "إنّ الوحدة ليست شيئا يقرره إنسان بمفرده ،بل يجب أن تقرره شعوب الدول العربية".

أخذت ماكنة الدعاية لمختلف إتجاهات القوى القومية اليمينية من صحف وبيانات وندوات داخل العراق وصحف مصر وسوريا وفي بعض الدول العربية الأخرى وإذاعة صوت العرب، التي كان يديرها أحمد سعيد الذي كشفت المخابرات المصرية علاقته بالمخابرات الإسرائيلية ثم إختفى أثره فجأة،بحثّ الناس والسطو على مشاعرهم القومية لتقبّل شعار الوحدة الفورية المضلل والإدّعاء بمعادات الشيوعيين وقاسم للوحدة العربية والقومية العربية. والتفت حول هذا الشعار حتى فئات من ملاّكي الأراضي وكبار الرأسماليين في الريف والمدينة،وأصبح هاجس حكام العربية المتحدة وشركات النفط هو مساعدة قوى الردّة للإنقضاض على ثورة تمّوز وقيادتها وعلى الحزب الشيوعي . لقد إنصاع عبدالناصر الى التعاون مع أمريكا وبريطانيا من أجل تنفيذ مخططاته . يقول مساعد الخرجية الأميركية راونتري الذي بعد لقاءه بعبدالناصر في 8/12/1958 "أن بوسع الولايات المتحدة أن تطمئن الى إمكانية عبدالناصر على مواجهة التغلغل الشيوعي في العراق وإنّ جهد المجموعات القومية هو الذي يستطيع أن يقاوم التغلغل الشيوعي . إنّ ناصر قرر العمل في العراق،فهو يرفض النفوذ الشيوعي" . ويقول تقرير المجلس القومي الأمريكي "إن حديث عبد الناصر مع راونتري فيه ما يدل على العودة الصريحة الى التعاون بشأن العراق"9 .

لماذا الموصل
كما أشرنا سابقا،فإنّ سكان الموصل ذات طبيعة محافظة،لذا،ليس من الغريب أن تنزوي الأغلبية من الضبّاط الموصليين جانبا ويبتعدوا عن حركة الضباط الأحرار، وعندما قامت ثورة تموز لم يحصلوا على مناصب مهمة،مما جعلهم التفكير بما فاتهم وإقامة علاقات مع الضباط والعناصر التي هي أقرب الى توجهاتهم،مما سهل كسبهم الى جانب الضبّاط المعادين لقاسم. اصبحت الحركة القومية العربية وحركة إخوان المسلمين في الموصل أكثر قوة مقارنة ببقية المدن العراقية .وكان للعوائل الغنية من الملاكين والتجار تأثيرا كبير على سكان المدينة والتي أصبحت لها روابط قوية بسوريا نتيجة التبادل التجاري منذ القدم . كما أنّ ملاكي الأراضي من هذه العوائل تضرروا من الإصلاح الزراعي ووقفوا ضدّه ، فمثلا، ثمان عوائل فيها تملك ما مساحته 1.000.000 دونم من الأراضي الزراعية . إنّ تحركات العربية المتحدة بإقامة علاقات مع المتمردين وتزويدهم بالمال والسلاح وإذاعة محلية كان سهلا بسبب محاذات الموصل لسوريا وكونها من مدن العراق المهمة،وكان نفوسها 180.000 نسمة . كانت هذه الأسباب وغيرها قد لعبت دورا مهما في إختيار الموصل كمنطلق للقيام بحركة إنقلابية ضد الثورة .

البدء بالمحاولة الإنقلابية
إستقبلت جماهير لواء الموصل عبدالسلام عارف بحفاوة عند زيارته للمدينة في آب 1958،بإعتباره ممثل الثورة ومرسل قائدها عبدالكريم قاسم . وفاق عدد المستقبلين ال 100.000 من داخل المدينة ومن أقضيتها ونواحيها وقصباتها،وكانت تشكّل مختلف طبقات وفئات وقوميات وأديان وطوائف لواء الموصل .وكان لهذه الزيارة أثر كبير على وضوح التباين في المعتقدات والتوجهات السياسية لجماهير الموصل . وكانت الشعارات الأساسية التي أطلقتها الجماهير تعبر عن هذا التباين . من هذه الشعارات : "إتّحاد فدرالي،صداقة سوفييتية "ويعبّر عن توجهات الشيوعيين والديمقراطيين وأقسام من المستقلين ، "وحدة وحدة عربية" ، "كلنا جنودك يا سلام"ويعبر الشعاران عن توجّهات القوميين والبعثيين وأقسام من المستقلين، "عيني كريّم للأمام دين وعروبة وإسلام"ويعبّر عن توجهات ألإخوان والقوميين الإسلاميين الداعينة الى دولة إسلامية،ولم يكن لهذه الأخيرة شان واندمجت مع بقية قوى الردّة . والملاحظ هنا كان شعار "إتحاد فدرالي" الأكثر بروزا ،لذلك إلتفت عارف الى فؤاد الركابي وقال له " خواتين ال.....الشيوعيين هواية " . ولم تكن هذه الكلمات،حينها،غريبة عن عبد السلام عارف . رغم العدد الهائل من الجماهير لم تقع حالات إعتداء بين المتنافسين في الشعارات،ولكن بعد الزيارة وبدء العام الدراسي 58- 59 تجلّت التمايزات السياسية بشكل واضح،وخاصة بعد إجراء الإنتخابات الطلاّبية في متوسطات وإعداديات اللواء . ففي داخل المدينة كانت نتيجة الإنتخابات بفارق ضئيل لصالح القوى القومية والإسلامية،أما في مدن اللواء الأخرى كان الفارق كبيرا لصالح القوى الديمقراطية،لذلك كانت النتيجة بحدود 60- 65% للقوائم الديمقراطية و35- 40% للقوائم القومية . وبدأت تحرشات الطلبة القوميين ضدّ الآخرين بما فيهم المستقلين داخل المدارس،مثلا،في المتوسطة المركزية الواقعة بجانب جامع النبي شيت كان الإخوان والقوميون يشكلون حوالي 70% ،وبالرغم كنّا نتحاشاهم (أقصد هنا الذين لم يكن لهم توجّه سياسي محدد حينها،والأغلبية من خارج المدينة) لكنهم كانوا يعتدون علينا،لمجرد لم نردد شعاراتهم،والغريب أنّ مدير المتوسطة عبد الباري الطالب الذي ساهم بنقل أسلحة من الحدود السورية الى المتمردين بسيارته الفوكس واكن كان يحرض على هذه الإعتداءات وبشكل مكشوف،وكانت هذه الحالة تتكرر في متوسطة المثنى،ولكن بشكل أخف،وكان الوضع أهدأ في المدارس التي لا يشكلون فيها الأكثرية .وحالات الإعتداء هذه كانت،أصلا،غريبة في مدينة الموصل،إذا إستثنينا أشقياء المدينة المدعومين من هذه العائلة أو تلك،وحتى هذا كان في إطار محدود جدا .

تصاعد التوتر في المدينة أكثر بعد إعتقال عبدالسلام عارف في كانون الثاني 1959 وأصبح الشعار الأكثر ترددا لدى القوى القومية وحلفائها هو " طريق سلام،طريق الوحدة " والهتافات بحياة عبدالناصر أصبت أعلى،وتصاعد التحريض الإعلامي للعربية المتحدة المسموع والمقروء ضد الثورة وقاسم وضد الحركة الديمقراطية العراقية برمّتها،متذرعين، زورا، بإنحراف الثورة عن أهدافها القومية الوحدوية!!!وهذا التصرّف المشبوه كان هدفه تعميق الخلافات بين القوى السياسية ، بينما كانت أطراف من جبهة الإتحاد الوطني مستمرة في محاولاتها لإعادة توحيد الجهود من أجل تمكين الثورة من تحقيق أهدافها،بما فيها مسألة الوحدة العربية ، وأصدرت أحزابها، بما فيها حزبي البعث والإستقلال ، بيانا في 12/11/1958 ومما جاء فيه : "...وأخذت الجبهة على عاتقها توحيد الصفوف ونبذ الخصومات،وإنها إتفقت على أن تدرس بأناة وعمق وبروح أخوية وبشعور عال بالمسؤولية إزاء شعبنا وأمتنا العربية السياسة الجديرة بالإتباع لخدمة القومية العربية وتحقيق أفضل وأمتن شكل من أشكال الإرتباط بالجمهورية العربية المتحدة". إلاّ أنّ تحركات الضباط القوميين والموالين لهم لم تهدأ من أجل التنسيق والقيام بعمل عسكري يقوّض ثورة تموز،بما فيها إتّصالاتهم المستمرّ مع ج ع م . أما في الموصل كانت أكثر وضوحا،خاصة أن الإخوان المسلمين والقوى القومية لم يثنوا عن طريق التآمر ولو للحظة . والبيان الذي وقعه حزبي الإستقلال والبعث ،لم يكن سوى ذر الرماد في الأعين لتغطية تحركاتهم،سواء داخل العراق أو خارجه . أما ما يخصّ البعث،فإن الأمر كان محسوما،وكما ذكرنا، منذ قدوم عفلق الى العراق في الأسبوع الثاني من قيام الثورة وإصراره على تنفيذ شعار"الوحدة الفورية" رغم معارضة البعض من قيادة البعث في العراق لهذا التوجّه .

كان العقيد الشواف قد عين آمرا للواء الخامس في الموصل تابعا للفرقة الثانية بقيادة الزعيم ناظم الطبقجلي،بينما كان من المفروض أن يعين حاكما عسكريا،لكن إصرار عارف وضغطه على قاسم عين بهذا المنصب . ويظهر أن عارف كان ينوي إبعاد الضباط ذي الميول اليسارية خارج العاصمة ، لأنّ المعروف عن الشواف هو من العناصر اليسارية في حركة الضباط الأحرار وعضو لجنتها العليا وذو علاقات جيدة مع الشيوعيين ..واعتبر الشواف هذا المنصب بمثابة إنتقاص له .ومما دفعه الى سلوك التآمر هو تعيين أحمد محمد يحيى وزيرا للداخلية بعد إقصاء عارف من مناصبه،وكان الشواف هو المقترح من قبل الحزب الشيوعي لإشغال هذا المنصب . وعندما أبدى إمتعاضه بشكل صريح من عبدالكريم قاسم،بدأ الضباط القوميين بالإلتفاف حوله ودفعه للتعاون معهم حتى استطاعوا كسبه .

أصبح كل شيئ واضحا لعبدالكريم قاسم والقوى المدافعة عن الثورة وأصبح الشواف موضع شكّ والوضع في الموصل يتجه نحو قيام العصيان . ولدرء خطر التآمر وصدّ العدوان قررت القوى الديمقراطية عقد مؤتمر أنصار السلام في مدينة الموصل يوم 6 آذار 1959،إلاّ أنّ القوى المتآمرة طلبت من قاسم إلغاءه أو تأجيله،لكن قاسم أصرّ على عقد المؤتمر لقطع دابر التآمر والإبتعاد عن صراعات لاطائل منها .

كشاهد عيان
بدأ المشاركون في الؤتمر يتقاطرون من مختلف المدن العراقية،وخاصة من بغداد يومي 5 و 6 آذار متجهين الى ملعب الكشافة في منطقة باب سنجار،وقدر عدد المتوافدين بأكثر من 250.000 شخص . إنتهى المؤتمر عصر نفس اليوم ورجع المشاركون الى مدنهم يومي 6 و7 . وفي يوم 7آذار بعد الظهر بدات قوى الردّة بمظاهرات معادية للشيوعيين وقاسم وأحرقت بعض مكتبات العائدة للجماعات اليسارية ومنها إتحاد الشعب،فجابهتها مظاهرة مضادة يتقدمها المحامي والشخصية الوطنية المعروفة كامل قزانجي مرددين شعار "عيني كريّم للأمام ديمقراطية وسلام ، و عاش السلام العالمي هو وحماماتو يسقط الإستعمار هو وعصاباتو"، ولكن بدون وقوع خسائر،باستثناء جرح أحد العاملين في قهوة الشبيبة "قهوة حجو" التي هوجمت من قبل مجموعة يقودها فاضل الشكرة وهاشم عبدالسلام ،والأخير كان مطربا في ملاهي الموصل ثمّ أختير مؤذنا لجامع أحمد عجيل الياور لعذوبة صوته .

وفي مساء يوم 7 أعلن منع التجول عن طريق سمّاعات محمولة على سيارات جيب عسكرية وتمّ الإستيلاء على المدينة كاملة يوم 8 آذار . كان القلق يسود المواطنين لعدم سماع أي خبر عن الأحداث من راديو بغداد حتى المساء عندما أذيع خبر إقالة الشوّاف من منصبه .وفي صباح اليوم التالي 9آذار كانت القطعات العسكرية قد إنسحبت من مواقعها ونزلت الناس الى الشوارع،بعدها سمعنا نبأ مقتل الشواف،وبدأت المظاهرات المؤيدة لعبدالكريم وجوبهت بالرصاص من قبل متخندقين في دار عائلة الطالب في محلة "دجة بركة" القريبة من شارع المكاوي،فوقع الكثير بين قتيل وجريح . فوجئنا في هذه الأثناء قدوم أهلنا من خارج المدينة من المناطق الواقعة شرق الموصل،وعندما سألناهم عن الوضع في الجهة اليسرى من النهر،فأجابوا بأن الوضع جيد والسيارات تنتظر للرجوع الى البيت . وفي الطريق شاهدنا مجموعات مسلحة من الأكراد تتجه صوب المدينة .وفي يوم 10آذار تمّ القضاء على التمرّد،وبعد عدة أيام رجعت المدينة الى حالتها الطبيعية . ثم بدأت الحكايات عن القتلى وأعدادهم وعن المعتقلين....

الخلاصة
في مثل هذه الحالة عندما يتعرض البلد الى التآمر ومحاولة مسح هويته الوطنية ومواطنيه في خطر تحت شعارات زائفة في سوق بائسة،ما هو المتوقع من الحكومة غير الحفاظ على سلامة مواطنيها والبلد من التمزّق . ماذا يكون دور الفلاّح الذي يحصل على أرضه وقيمته وكرامته كإنسان ، أو العامل الذي يحصل على حقوقه من رب العمل وتحسّن أجره سواء كان ربّ العمل قطاع خاص أو حكومي تجاه هذا التآمر،ماذا يكون دور الكردي أو من القوميات الأخرى المهددة بالإنصهار تحت راية القومية العربية وإظهار الكره المكشوف لهذه القوميات تجاه هذا التآمر،ماذا سيكون دور المسيحي واليزيدي وحتى المسلم الشيعي وهو يسمع شعارات تهدد معتقده الديني تجاه هذا التآمر . ولكن في مثل هذه الحالات لا تخلو الأوضاع من الأخطاء والجرائم . لقد أدينت عملية قتل 17 مواطن في منطقة الدملة مجة (مجرى دجلة القديم شرق الموصل) بعد القضاء على حالة التمرّد،وكان تبرير ذلك إستنادا الى بيان القائد العام للقوّات المسلحة عبدالكريم قاسم الى أبناء الشعب بالقضاء على المتآمرين أينما وجدوا.والمبرر الآخر الثأر من قتلة المحامي كامل قزانجي والمقدم عبداللّه الشاوي والضابط خزر. كل هذه ليست مبررات لا من الناحية الإنسانية ولا من الناحية القانونية . ولم يكن قاسم على حق عندما أمر بإعتقال مجموعة من أبناء الموصل والحكم عليهم بالإعدام في المجلس العرفي بتهمة القيام بجرائم أثناء القضاء على محاولة العصيان وهو الذي كرّمهم قبل فترة قصيرة وأثنى على دورهم في القضاء على التمرد وختم الحديث معهم "كثّر اللّه من أمثالكم"،ثمّ ينفذ إنقلابيو8 شباط 63 حكم الإعدام بهم وبقاسم .

لقد كشفت الأحداث خطل شعار الوحدة الفورية، اولا وقبل كل شيئ فشل الوحدة بين سوريا ومصر بعد أن تحولت سوريا الى مرتع للإقتصاد المصري وتدهور إقتصادها،وقتل رئيسها شكري القوتلي الذي وقع على الوحدة مع عبدالناصر،ثمّ فرض وزير داخلية سوريا عبدالحميد السرّاج حاكما مطلقا عليها الذي كان يقوم بتذويب المعارضين بحامض النتريك المركّز . ثم عدم التوصل الى إتفاق بين سوريا ومصر والعراق بعد إستلام الوحدويين الفوريين السلطة في العراق في 8 شباط 1963 .

لقد حكمت العراق قوى قومية مدعية الوحدة منذ عام 1963 وحتى عام 2004 وخلال أربعين عاما قتل العشرات من دعاة الوحدة من رؤساء جمهوريات ونوابهم ووزرائهم ومن قادة أحزابهم .ألم يكن شعار الوحدة التي يدّعون بها مزيفا وبكل المقاييس ؟ ماذا جنى الشعب العراقي من هؤلاء سوى حروب ومقابر جماعية وقتل بالسلاح الكيمياوي وتهجير،ثم الحصار الذي ذهب ضحيته أكثر من مليون طفل، ثم إحتلال وحرب طائفية وتهجير .والأنكى من ذلك فإنّ البعثيين يتهيؤون للقفز على السلطة مرة أخرى بعد خروج القوّات الأمريكية من العراق . ولكن تحت أي ستار أو شعار زائف يسطون على الحكم هذه المرة؟




 

free web counter