| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يحيى السماوي
Yahia.alsamawy@gmail.com

 

 

 

السبت 20/2/ 2010



مذكرات الجندي المرقم 195635 (*)
(5)

يحيى السماوي

يزعم مظلوم أنّ له خبرة جيدة فيما يتعلق باستدعاءات الجنود والمراتب الى الإستخبارات العسكرية ... وبحسب خبرته المزعومة تلك ، يرى مظلوم أنه
إذا قامت الوحدة العسكرية بتسليم منسوبها كتابا مغلقا كُتِبَ عليه " سري للغاية " بدون "مأمور " يرافقه ، فذلك يعني أن المسألة لا تستوجب الخوف والقلق .. وكل ما سيجري ، هو ، تحقيق روتيني ، وربما التقاط صورة جديدة له ليزداد عدد صفحات " إضبارته " التي افتُتِحتْ في مسقط رأسه ، ولن تُغلق قبل دخوله القبر .. أما إذا سُلِم الكتاب " السري للغاية " الى " مأمور" يرافقه من الوحدة العسكرية الى رئاسة الاستخبارات في بغداد ، فالمسألة لن تخلو من " طقم كامل من الصفع والرفس والنطح والكلام البذيء " لكن هذا" الطقم " لن يقود الى الموت ، ولا الى عاهة مستديمة ... فالموت ، او العاهة المستديمة ستحصل إذا أرسلت رئاسة الإستخبارات العسكرية " مأمورا " منها ليصطحب الشخص المحدد مخفورا ً تطبق على يديه الجامعة الحديدية " كلبجة " .. لذا لم يقرأ مظلوم الفاتحة على روحه ولم يرتبك ، حين استدعاه ليلا آمر المفرزة ليقول له :
ــ عرفت من النقيب كاظم أن كتابا سريّا للغاية ورد من رئاسة الإستخبارات العسكرية / الشعبة الخامسة يقضي بحضورك ، وسيتم إرسالك مخفورا صباح الغد .. فهل أنت متأكد من أنك لم ترتكب عملا ً محظورا ؟
ــ نعم سيدي ... أنا متأكد تماما ... أنا أحاذر حتى من أحلامي ..
ــ تذكّر جيدا أن الكتاب من رئاسة الإستخبارات العسكرية وليس من سرية المقر أو من شعبة التوجيه السياسي في اللواء ... راجع مع نفسك إنْ كنت تصرفت تصرفا محظورا .. أمامك الليل كله ، وإياك أن تخبر أحدا ً أنني أطلعتك على ما أخبرني به النقيب ..
ــ إطمئن سيدي ... وليتك تستحصل موافقة السيد النقيب لأسافر ليل اليوم كي أصل بغداد صباحا ... لم أرتكب محظورا .. والحكمة تقول إنّ النائم على الأرض لا يخشى السقوط من السرير ..
( لمظلوم يقينٌ أنّ آمر المفرزة والنقيب كاظم معا ، أوصلا له خبر كتاب الإستخبارات كي يُعطياه فرصة الهرب فيما إذا كان قد ارتكب ماهو محظور .. أمّا وأنه متأكد من أنه لم يقم بأمر ٍ يُخشى منه ، فقد قرر تهيئة نفسه للسفر ليلا قبل الصباح ـ خصوصا وأنه عرف أن المأمور الذي سيذهب به هو جندي من جنود وحدته ، وهذا يعني ـ حسب خبرته ـ أنّ المسألة لن تكون أكثر من تحقيق روتيني قد يُتبع بصفع وركلات وكلام بذيء كما في الإستجوابين السابقين )
سافر مظلوم والجندي المرافق قبل انتصاف الليل .. .. الجندي المأمور كان طيبا حقا لدرجة انه سمح لمظلوم بمهاتفة زوجه والتحدث مع طفلته ، ومن ثم السماح له بزيارة بيت شقيقته في اليرموك ببغداد ليتناولا معا طعام الإفطار ..
نحو التاسعة والنصف صباحا كان ـ الجندي احتياط خرهْ ـ مظلوم بمعية الجندي المأمور يجلسان في غرفة استعلامات رئاسة الاستخبارات العسكرية .. إستلم مسؤول الإستعلامات كتاب الإرسال وقاد مظلوم نحو غرفة مزدحمة بعدة جنود وبضابطين أحدهما برتبة ملازم أول والآخر برتبة رائد .. ثمة أصوات صراخ وبكاء تتسرّب من مكان غير بعيد .. يقسم مظلوم أنه رأى سيقان بعض الجنود الجالسين على مقربة منه ترتجف مع أن الفصل لم يكن شتاء .. استمر الإنتظار ساعات عدة .. لا يدري كم ساعة ، فكل الذي يدريه أنه دخّن علبة السجائر كلها .. وحين طلب من مسؤول الغرفة الذهاب إلى الحمام أجابه بسخرية : " إصبر ... راح تاخذ حريتك بالتبول بعد قليل " .. !!
قبيل الظهر ، لم يبق في الغرفة غير مظلوم ... بين فينة وأخرى يُطِلّ على الغرفة عسكري ضخم ذو شكل قبيح يُحدّق بمظلوم بعينين وحشيتين ويتحدث بضع كلمات مع الجندي الحارس ثم يخرج .. في إطلالته الثالثة سأل مظلوم : هل أنت قطة بسبعة أرواح ؟ كيف خرجت حيّا ً من هنا مرتين سابقا ؟
**
أقتيد مظلوم بين عدد من الكرفانات ثم أدخل به حجرة أنيقة ..
بعد عدة أسئلة وأجوبة ، بادره العسكري الجالس وراء مكتب أنيق يتصفح إضبارة ضخمة بالقول وهو يمدّ إليه أوراقا ناصعة البياض كالأكفان :
ـ تفضل إجلس .. أكتب بالتفصيل إسماء الخلية الشيوعية في المعسكر ..
ــ سيدي الفاضل ، أنا جندي في مفرزة تصليح لايتعدى عديدها بضعة عشرات من جنود بسطاء أكثرهم لايتجاوز تحصيله محو الأمية أو الدراسة الابتدائية وليست لي أية علاقة سياسية بأي حزب .. أقسم سيدي أنني صادق بقولي .. ولو كنت غير صادق لما بكّرتُ بالحضور ..
ــ وصحيفة طريق الشعب التي عثروا عليها في الملجأ ؟
ــ لا علمَ لي بوجود مثل هذه الجريدة .. بمقدورك سيدي أخذ بصمات أصابعي وإذا وجدتم على الجريدة بصمة لي فأنا أطالبكم بإعدامي .. أنا صادق سيدي ..
ــ دع المسكنة واعترف وإلآ فلنا طرقنا وأساليبنا التي تجعلك تتوسل كي نسمع اعترافاتك .. اكتب أسماء الخلية وأنا أعدك بشرفي وبالله أنني سأساعدك وستخرج إلى بيتك أو وحدتك بعد لحظات .. كن رؤوفا بنفسك واكتب أسماء الخلية .
ــ أكتب أنت سيدي ماتشاء من أسماء جنود قاطع شرق البصرة وسأوقع لك دون أن أقرأها إذا كان ضميرك يرضى ذلك .. أقسم بالله العظيم وكتابه وبحياة طفلتي أنني أكثر براءة من تهمة الذئب بدم يوسف ..
ــ ألعن أبوك لا أبو يوسف .. إنتم مايفيد وياكم إلآ القسوة ..
ــ والله ياسيدي أنا لا أعرف إنْ كانت طريق الشعب تُطبع أو لا تُطبَع .. ولا أعرف إنْ كان للحزب الشيوعي تنظيم من عدمه ..
أخرج المحقق من بين أوراق الإضبارة الضخمة كتابا أنيقا بغلاف أبيض وقال لمظلوم : أحب أسمع قصيدتك بصوتك ... شنو رأيك ؟
ــ أي قصيدة سيدي ؟
أراه المحقق عنوان الكتاب : ( سلاما أيها الحزب ) ... فأجابه مظلوم : نعم سيدي أتذكر هذا الكتاب ... إنه يضم أكثر من ثلاثين قصيدة قيلت عن الحزب الشيوعي لشعراء منهم على ما أذكر جمال الحيدري ، محمد مهدي الجواهري ، سعدي يوسف ، يوسف الصائغ ، خليل المعاضيدي ، خليل الأسدي ، الفريد سمعان ، دينار السامرائي ، عبد الكريم كاصد ، محمد صالح بحر العلوم ، رشدي العامل ، وربما البياتي والسياب .. لا أذكر تماما ... الكتاب أصدره الحزب لمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيسه ونشرته دار الفارابي اللبنانية ... إنه قديم سيدي مضت على صدوره أعوام عديدة ، وأنا كنت حزبيا آنذاك .. أما الان فلا علاقة لي بأي حزب سيدي ..
ــ وماذا عن علاقتك بالعقيد حمزة الربيعي ؟
ــ هو ابن خالتي وزوج شقيقتي سيدي ..
ــ نعرف ذلك ... لكننا نريد أن نعرف أسماء الخلية الشيوعية في وحدتك ..
ــ إنْ كانت توجد خلية فعلا فأنا لا علم لي بها والله ..
ــ لقد اعترف أحد أفرادها عليك ..
ــ واجهوني به سيدي .. لا يمكن أن يكون هذا صحيحا .. لا يمكن سيدي ..
ــ ( ضغط المحقق على جرس كهربائي فدخل شاب يرتدي بدلة زيتونية .. أدى له التحية )
قال له المحقق : خذه إلى غرفتك ليكتب أسماء الخلية ..
قلت بصوت مفجوع : كنت صادقا معك سيدي .. فارأف بي لصدقي ..
سحبني ذو البدلة الزيتونية من ذراعي .. وحين أدخلني غرفته صفعني بقوة ورفسني فسقطت إلى الأرض .. بصق عليّ شخص آخر ورفسني على ظهري قبل أن يخرج .. ثم أغلق الباب ..
ــ إسمعْ جيدا ... سأجعلك تتمنى الموت إذا لم تعترف .. أكتب أسماء الخلية بدون تأخير ..
ــ كيف أكتب عن شيء لا وجود له ؟ أقسم بالله أنا صادق ..
( طاخ .. طاخ .. طيخ .. طاخ طيخ ... ) وانهال ذو البدلة الزيتونية بالصفع والرفس والركل والوخز بعصا ً تجعل دم الجسد يغلي ... بينما مظلوم متكوّر على جسده كالقنفذ ... ازداد الضرب شراسة ... لحظات استراحة يعقبها رفس وضرب وصفع وكلام بذيء ... فجأة : تعثر الجلاد بالكرسي فسقط إلى الأرض ... وبشكل لا إرادي قال مظلوم لحظة سقوط جلاده : سلامات إنشالله .. سلامات أخي ..
بَهتَ الجلاد فقال : ماذا ؟ سلامات ؟
ــ نعم سلامات .. أنا سبب سقوطك إلى الأرض فسامحني .. أعرف أنك مرغم على تعذيبي .. أنت أيضا بريء مثلي .. أنت عبد مأمور .. لكن صدّقني أنني لاعلاقة لي بأي تنظيم سياسي في المعسكر أو خارجه .. صدّقني أنا بريء تماما من هذه التهمة .. أشعر بألم قوي في فكي وفي مثانتي ..
ازداد ذهول الجلاد ... حدّق بوجه مظلوم ... أعطاه منديلا ورقيّا ليمسح الدم من أنفه ... استمر الصمت دقائق .. أخرج الجلاد علبة سجائره .. دخن سيجارة ثم قال لمظلوم : لماذا لم تصرخ ؟ سأضربك ضربا خفيفا وعليك أن تصرخ بقوة وتبكي .. مفهوم ؟
أجابه مظلوم بصوت يشبه نحيبا دون دموع :
ــ ما أعرف أصرخ سيدي .. ولا أعرف أبكي ... نعم أنا أحتاج أن أبكي .. ولكن ليس أمامك .. غادر الغرفة وسأبكي والله ..
ــ لا تصير حمار ... إصرخ وابكي بالكذب ..
ــ سيدي ابسطني براحتك .. ما راح أبكي ...
ـ طيب إصرخ بصوت عالي ..
ــ والله سيدي ما أعرف أمثّل .. إذا أصرخ كذب راح ينكشف التمثيل وأنت تتحاسب ..

ثمة دمع كثيف ولكن خلف الأجفان ... دمع خشن كبرادة الحديد أبى إلآ أن يهطل من الأحداق نحو الروح ... دمع غير مرئي لا يراه إلآ مظلوم الذي قال للجلاد بتودد :
ــ ممكن تنطيني جكارة ؟ أحتاج أدخّن ..
آه يا إلهي !! حتى في مستنقعات القسوة هذه يوجد طيبون !! لقد وضع الجلاد علبة سجائره أمام مظلوم ... سجائر روثمن .. وغادر الغرفة ... ثمة إناء ماء وقدح على الطاولة ... تمنى مظلوم أن يشرب كل ماء الإناء لكنَّ شعورا ًً خفيا منعه من ذلك ... قد يكون الخوف من العقاب .. حينها شعر مظلوم بسائل ساخن انزلق من عينيه حتى وصل شفتيه وكان مالح المذاق ... سائل صاف ٍ كالندى المخلوط بالملح !!
مرّ وقت ليس بالقصير وعاد ذو البدلة الزيتونية ليخبر مظلوم أن الضابط يدعوه .
***
تقضّل إجلس ( قال المحقق لمظلوم ) ثم سأله : هل تعرف في السماوة بيت " داخل الحاج مدو " ؟
ـ نعم سيدي .. إنهم جيران بيت جدي لأمي الحاج رزاق .. وبيننا صلة قربى بعيدة ... إبنه الكبير اسمه صالح .. يليه " كاظم "... وابنه الآخر " شاكر " كان زميلي في الابتدائية .. والأصغر " كريم " ولهم شقيقة أعتقد أن اسمها " إلتفات " وجميعهم الان في الكويت باستثناء كاظم الذي يعمل الان خياطا في السماوة ... إنها عائلة فاضلة لا شغل لها بالسياسة ... سمعت مؤخرا أن " شاكر " توفاه الله بالسرطان ..
فوجئ مظلوم بقول المحقق :
زوجتي من أحد بيوت " آل حاج مدو " ... حقا هي عائلة طيبة ... وستخرج الان إكراما لها ... لكن تذكّر جيدا أن الحظ لن يكون معك دائما .. وليس جميع المحققين متزوجين من أهالي السماوة ... احترس جيدا من أي عمل محظور ... واحذر أن تخبر أحدا أنك تعرضت لبعض سوء المعاملة في الشعبة الخامسة .. أكرمتك مرة واحدة ... ولن أكرمك مرة أخرى ..
**

لم يصدّق مظلوم عينيه حين رأى نفسه داخل سيارة لاندكروز وقد اجتازت بوابة رئاسة الاستخبارات العسكرية متجهة به نحو الشارع العام ... تساءل في سره:
هل حقا كان المحقق صادقا عندما أخبرني انه متزوج من إحدى عوائل مدينة السماوة ـ وتحديدا من عائلة جارنا القديم وقريبنا "داخل حاج مدو " ؟ وهل حقا كانت رأفته بي ، إكراما لعائلة زوجه ؟ وإذا كان ذلك صحيحا فلماذا ترك مستخدميه يتدربون بجسدي على لعبتي الملاكمة وكرة القدم ، متخذين من وجهي سطلا للبصاق ومشجبا للصفعات ؟ لا ... لا يامظلوم، لا تصير غشيم ـ قال في نفسه ـ اليوم يشوون البصل على اذنك ... إي والله ... هو المحقق نفسه كاللي إعترف كبل ما ياخذونك ويشوون البصل على إذنك ... طيب ، لكن ليش انطاني ورقة رابوط طبي بيها إجازة لمدة اسبوعين ؟ مو بس الإجازة ، لا ... فوكاها باكيت جكاير سومر أصلي ، وسيارة لاندكروز توصلني لكراج علاوي الحلة ّ؟؟؟ صحيح آني ما أكدر أمشي من الرضوض .. وصحيح خشمي مورم وأحس فد شي مثل القطار يجعر داخل إذني ، بس ليش ما تركني اطلع وحدي وآني آخذ تاكسي .. شنو يعني ما عندي فلوس ؟ لا ... عندي سبع دنانير عدا الخردوات ... لا يامظلوم ، المسألة بيها سر .. إي والله بيها سر ... إلهي دخيلك .. انقذني هالمرّه ، وأعاهدك راح أصوم وأصلي وأترك كل السوالف المكسرة .. ( ثم وهو يحدث نفسه ) : راح أطش واهلية نذر للكاظم ... وأدز كونية تمن لبيت الفقير الشحاذ حسين الأعمى نذر للعباس أبو فاضل ... وأنطي ملابسي القديمة للفقراء في سبيل الله ... إلهي دخيلك .. إنقذني هاي المرّة بحق النبي عندك ... إلهي وحق عزتك وجلالتك ، راح أترك كل السوالف الموزينه .. انته ومروتك إلهي بس خلصني هالمره ، وشوفني شلون راح أصير مؤمن حقيقي يصوم ويصلي ومايشرب عرك .. آني دخيل عندك إلهي .. انته تعرف هذوله اشلون سرسريه وأولاد كلب .. !!! واحدهم أنجس من لحية الشمر بن ذي الجوشن وأوسخ من جزمة يزيد بن معاوية ..

معقولة المحقق بعد كل ذاك الدك والكتل والطحلات والراجديات والرفس والكيبل والتفال ، ينطيني إجازة لمدة اسبوعين وباكيت جكاير سومر أصلي وفوكاها سيارة لاندكروز توصلني لباب كراج علاوي الحلة ؟ والله العظيم بس الحمار يصدك ... لا يابا لا ..
المسأله بيها سر ...

استمر مظلوم في هذيانه وذهوله الصامتين ... وفكر مع نفسه بالقفز من السيارة حالما تسنح الفرصة المناسبة ... لكنه تذكر أن قدميه المتورمتين لن تساعدانه ... وحتى لو تساعدانه ، وبحسب خبرته ـ فالتعذيب سيكون أكثر قسوة في حال الإمساك بالهارب ..
" لم يستبعد مظلوم احتمال أن يتعمد السائق توفير فرصة الهروب له كي يقتله برصاصة من مسدسه الواضح للعيان .. "
حين عبرت السيارة جسر الاعظمية ، قال مظلوم للسائق :
ـ من فضلك ، نزّلني قرب الجامع ... أريد أزور الإمام وأصلي صلاة المغرب ، وبعدين آني آخذ تاكسي للمحطة .. آني أرتاح للسفر بالقطار ...شكرا أغاتي ... نزّلني بباب الجامع رحمة على والديك .. جزاك الله ألف خير وكثّرْ امثالك .. يمّكْ عيوني يمّكْ ... واذا تحب تشرّفني ناكل كباب على حسابي بعد الصلاة ..
ـ هاي شلك بيها يابه ؟ بيع شلغم على غيري ... ليش الشيوعيين يصلون ؟ كلهم ملحدين يعبدون لينين وماركس ... بعدين إنته شيعي ، شنو علاقتك بالإمام المعظم ؟ تبيع كلاوات علينه؟ إحنا مفتشين باللبن ..
ـ يا أخي صدّكني .. والله العظيم آني أدوخ من السفر بالسيارة ... وأريد أسافر بالقطار و.. أحلف بالقرآن العظيم آني مو شيوعي ولا عندي اية علاقة بالـ .....
ـ إذن إنت بحزب الدعوة ..
ـ سترك يا إلهي ... كلها ولا حزب الدعوة ... حزب الدعوة إعدام من غير سؤال وجواب ... لا أخي لا ... أبقى متهم بالشيوعية احسن ... شنو رأيك ؟
ـ إكل خره واسكتْ ... تريد أرجع بيكْ للمخبز ؟ إكرمنه بسكوتك وانجب ...
ـ العفو أغاتي ... آسف ... ليش انتم تسمون الشعبة الخامسة بالاستخبارات المخبز ؟
ـ إكرمنه بسكوتك وإنجب ... كافي لغوة ... بعدين مو تنسى وصية السيد المقدم ... انطاك إجازة اسبوعين ، تكظيها بالبيت ، اسبوعين ما يبقى بيك أي ورم ... خشمك يطيب .. والجرح اللي بكصتك يشفى .. بعدين تلتحق بوحدتك ... دير بالك تتحدث زايد ناكص ...
ـــ واذا سألتني زوجتي أو أمي ؟
ـــ مو مشكلة .. تكدر تكول سكران وطحت ... سيارة دعمتني ... تعاركتْ بالكراج وبسطوني .. هذي مو صعبة عليك ... بس تعرف تصفط شعر خريطي .. ما لازم تكول سكران وطحت ... كول لعبت قمار وبسطوني ..
ـــ هاي العايزة ... انعم لله عليك .. تريد زوجتي تطلب طلاقها مني .. كلها ولا القمار .. لا أخي .. خليها سكران وطحت ، لو جماعة سرسرية دارو عليّ وبسطوني بالكراج.. هذا العذر أحسن وأشرف ... كانت عايزه والتمّت ْ .. قمرجي ..
" وكما ينتبه الناطور بعد غفلة ، سأل مظلوم السائق باستغراب :
ـ العفو أخي ، يعني المحقق يحمل رتبة مقدم ؟
ـ ...............
ـ مقدم مقدم ؟ زين ليش ما لابس الرتبة ؟
" لم ينبس السائق بكلمة ، لكنه نظر بضجر الى مظلوم الذي استدرك قائلا :
ـ والله ابن أوادم ...رؤوف ومتواضع ... ما كنت اتصور مقدم ... تواضعه مدهش ...
تفضل سيكارة ... تفضل ارجوك ... شنو انته كاطع التدخين ؟ آني أتمنى أترك التدخين ... لكن منين أجيب الإرادة ..ألعن اليوم اللي تعلمت بيه التدخين ..إي والله .. ما وراه غير الأذية وطياح الحظ ...
ــ ليش طياح الحظ بس بالجكاير ؟ انته من زمان طايح حظك ... لو بيك خير كان بقيت مدرس ... قشمر ... حزب البعث سوّاكم أوادم ... خصوصا إنتم الشراكوة ... ربكم ودينكم الخميني لو فهد ... ما تصير الكم جارة ... خايسين ...
ــ أخي ماكو داعي لهذا الغلط والإهانة .. إحنا مو خايسين .. المقدم زوجته من عشيرتنا .. والله العظيم إذا يسمع المقدم راح يحاسبك .. المقدم من أقاربي ..
ــ أكل خره واسكتْ .. ترى أرجع بيك للمخبز وألعن والد والدك .. إنزلْ.. هذا كراج السماوة ...
ــ شكرا جدا ...آني هواية ممنون إلك ... ارجوك بلغ شكري للسيد المقدم ...
ــ إنطيني عرض اجتافك ... لا تطولها ... دير بالك زين ، تره هالمرة خلصت ، المرة القادمة إقرأ على نفسك الفاتحة ... وتذكر زين ، مانريد أي كلام زايد ناكص ... مفهوم ؟
ـ اطمئن ... ثقة .. إذا سألتني زوجتي لو أمي راح أكول جماعة سرسرية أخوات كحبة بسطوني بالكراج ..
...........................................................
...............................................................
..................................................................

السائق الحاج كاظم وزير ، وقد رأى مظلوم كمن يمشي على مسامير، متورم الوجه :
ـ استاذ ابو شيماء ؟ خير ما كو شي ؟ هاي شبيك ابني ؟
ـ لا ما كو شي ... الكواويد السرسرية السفلة الطايحين الحظ خبزوني بالإستخبارات العسكرية بلا صوج وذنب ... مابيهم شريف .. ألعن أبوهم لا أبو حزبهم ..أ لـ ....
ــ شششش ... دير بالك وليدي ... كفيلك الله والعباس ، نص سواق السيارات وكلاء أمن ومخابرات ... إصعد ونسولف بالطريق ... ليش أكو واحد ما يعرف هذولة الناقصين الذمة والضمير....سفلة مناويـ ...
**
عند مشارف مدينة الحصوة قال مظلوم للسائق :
ــ حجي آني جوعان .. عازمك على دليمية .. دليمية الحصوة طيبة .. شنو رأيك نتعشى دليمية ونشرب شاي وأشتري جكاير وبعدين نواصل الرحلة ؟
ــ مو مشكلة أستاذ ... بيك خير وتدلل ..
حين دخلا المطعم ، قال مظلوم للسائق : ياحاج .. المطعم صاير معرض صور لـ " مطيحان " .. صورة بالبدلة العسكرية .. صورة بالـ " جراوية " .. صورة بالـ " الزبون " .. صورة بالـ " غترة والبشت " طالع بيها يشبه " شيخ الكاولية " .. الله يرحم والديك ممكن نشوف غير مطعم مابيه صور مطيحان ؟
ــ كل المطاعم مليانة صور الرئيس... إكلْ ولا تباوع عالصور ..
ــ شنو رأيك ناخذ نفرين دليمية سَفَري ؟
ــ والمواعين ؟ الدليمية ماتصير لفّاتْ مثل الكباب ..
ــ ناكل وأمرنا لله .. تعرف سبب تعليق الصور بهذه الكثرة ؟
ــ الناس تريد تبعد الشر أستاذ ... مو بيدهم .. مجبورين يعلقون الصور ..
ــ لا ياعزيزي ... أصحاب المطاعم يتعمدون تعليق صور مطيحان حتى اللي ياكل تنسد شهيته وما يطلب كرصة خبز زيادة ... أو يترك نص الدليمية ويخرج من المطعم وبعدين صاحب المطعم يعيد اللحم المتروك للقدر ويبيعه من جديد ..
**
السائق الحاج " كاظم وزير " لم يكتف بإيصال مظلوم الى باب بيته فحسب ، إنما وحاول جاهدا اقناع مظلوم بعدم دفع الأجرة :
ـ استاذ أبو شيماء ، أرجوك لا تطلع فلوس ... ارجوك ... يفيدنك للطبيب ... بعدين انت استاذ ابني " عزّت " .. وأبوك حجي عباس صديقي بالروح
وحده .. رجّع فلوسك لجيبك الله يخليك ..
ـ لا والله ما يصير ... لازم تاخذ ...آني حلفت ... انت هم صاحب عائلة وعلى باب الله ..
ـ صدّكني آني كنت ناوي أرجع فارغ ...اليوم ماكو عبريّة ... يعني لو انت ما جاي وياي ، كنت آني ارجع بوحدي ..
ـ ما قصّرت ... جزاك الله خير حجي .. هذي الأجرة وآني الممنون ..
ـ بكيفك استاذ ... بس ارجوك ارجوك ارجوك لا تحجي ولا تسولف باللي صار ... تره هذوله سرسرية وما عندهم ضمير...كفيلك الله كلهم هتلية وجايفين .. الشريف بيهم خايس ... ليش هو منو اللي خبّلْ اخوي فاضل ؟ انت ابن السماوة وتعرف زين ...اخوي فاضل من أحسن المعلمين ... اخذوه شرطة الأمن شهر واحد ... أخذوه ليرة ذهب ... وطلعوه مجنون ... دير بالك وليدي ... سلّم لي على عيالك ..

**

استقبلته زوجته وثمة بقايا دموع بين الاجفان :
ـ الحمد لله ... صلوات على محمد وآل محمد ....( ثم وهي ترفع يديها صوب السماء ) إلهي إنطيتني مرادي ... ليلة الجمعة اذبحلك الخروف ... وكل راتبي هذا الشهر لميثم التمّار ... بعد عيني ميثم التمار ...
ـ أم شيماء صيري عاقلة .. شنو أذبح خروف... شنو كل راتبك نذر لميثم التمار ... ؟
ـ انتَ ما عليك ... آني نذرت والله انطاني مرادي ... لازم أوفي النذر ..
الحمد لله ... طلعت بيوم واحد ... كل مرّه تبقى أيام واسابيع ... والله يا ابو شيماء من الصبح لحد الان وآني اصلي وأدعيلك ...قريت كل أدعية الصحيفة السجّادية ... وقريت دعاء الشدّة والفَرَجْ خمس مرات ... والله انطاني مرادي ... الحمد لله والشكر ..الله فرجها بيوم واحد ...الحمد لله
ـ بابا يا يوم واحد ؟ البسط اللي كانوا يبسطونيّاه لمدة اسبوع ، بسطونياه بيوم واحد ... واذا ما ترضين ، أخذوا زيادة أكثر من عشرين راجدي وطحلة ...
ـ الله لا ينطيهم ...إلهي أريدك تاخذ لي حوبتي منهم بحق النبي وآل النبي ...
ـ بسيطة بسيطة ... بس ماكو لا ذبح خروف ، ولا راتب الشهر لميثم التمار ... اللي يسمعك يتصور الحكومة عيّنتْني وزير التربية والتعليم ... شلون خبال ... كل راتب الشهر لميثم التمار ...ميثم التماّر على عيني وراسي ... هو هسّه بالجنة ... اللي بالجنة يحتاج فلوس ؟ ها ؟ يحتاج ؟ جاوبيني ... ميثم التمار محتاج فلوس ؟ شيسوّي بالفلوس ؟ يدفعهن بخشيش حتى ما يروح جيش شعبي ؟ إذا لميثم التمار تنذرين خروف وراتب شهر ... شنو يكون النذر لو للعباس ؟ تنذرين البيت ؟ الحمد لله البيت باسم والدي مو باسمك ... قبل خمس شهور نذرتِ خمس دنانير لأولاد مسلم بن عقيل ... السنة الماضية نذرتِ زيارة لسامراء .. وقبل شهرين نذرتِ تعملين قراية نسوان بالبيت ..
ــ قراية النسوان إنتَ رغمتني ألغيها .. حرام عليك .. فشّلتني وي " ملّة حمدية " ...
ـ طبعا أمنعك ... تريدين يتهمونك بحزب الدعوة خاتون ؟
ـ هاي اشبيك أكلتني حاصل فاصل ... لازم نذبح خروف .. الخروف من أبوي ...والراتـ ...
ـ أعرف أعرف ...الخروف من أبوك والراتب راتبك ... لكن ميثم التمار يعرف ظروفنا ... والله سبحانه وتعالى مسامح وكريم وما يرضى بالتبذير ... عندي حل ... نذبح دجاجة ... دجاجة آني آكلها ... على الأقل أقوّي جسمي حتى يصير بيّ حيل وقوّة للبسطة القادمة.. همّ الأخوان ماخذيني مقاولة .. كل شهر حفلة سمر ودكّ وركص ... والله العظيم إنتِ السبب ..
ــ أبو شيماء .. شنو قصدك آني السبب ؟ تريدني أنتحر ؟ آآآآآني السبب ؟
ــ إيْ والله العظيم إنتِ السبب ... لا .. مو بس إنتِ ... أنتِ وشيماء وهذا اللي ابطنك .. لوما أنتم كان من زمان هربت لكردستان لو أفرّ لسوريا ....
ــ وذا لزموك بالحدود ؟ كفيلك الله يعدموك .. إصبرْ والله يفرجها .. الصبر من الإيمان ...
ــ كافي لخاطر الله ... ارفعي صورة تولستوي من المكتبة .. أخاف فد يوم يفتشون البيت ويشوفونها ..
ــ ليش صورة تولستوي ممنوعة ؟
ــ لا ما ممنوعة ... لكن حمير الأمن يمكن إذا شافو لحيته طويلة يتصورونه ماركس لو أنجلز ... أرفعي حتى صورة رابندرانات طاغور .. هوّ أكو شرطي أمن عراقي سامع برابندرانات طاغور أو تولستوي ؟
ــ رفعتها ...
ــ مزقي الصورة واحتفظي بالجام والإطار ... راح أضع صورة " سعدي الحلي " أو " عوض دوخي " بمكان تولستوي وطاغور وأمري لله .
ــ آني عاجبني هذا الإطار ... أبو شيماء شنو رأيك إذا أخلّي هذا الإطار لصورة والدي ؟
ــ بكيفك ... يمكن إذا شافو صورته بالعقال والشماغ يعتقدون المسكين مسؤول خط الفلاحين .. ياليت أبوك المسكين يتحمل راجدي واحد ..
**

" أم شيماء " ـ والحق يقال ـ إمرأة مفرطة الطيبة ... كانت إحدى طالبات مظلوم حين كان مدرسا في اعدادية السماوة...تحب الشعر وتحترم كل الشعراء ما عدا أولئك الذين أساءوا لشرف الشعر بقصائدهم التي تمجّد "مطيحان" و" قادسيته " ... هي ، وإن كانت حريصة على قراءة صحيفة " طريق الشعب " ومجلة " الثقافة الجديدة " إلا أنها لا يمكن أن تنام قبل قراءة دستة كاملة من أدعية " الصحيفة السجادية " ... وأما ليلة الجمعة ، فلا مناص من قراءة " دعاء كميل " أيا ً كانت مشاغلها ... تتمتع بصبر مذهل ، وتؤمن إيمانا مطلقا بـ " الذي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين " ... فمثلا ، في صباح اليوم الثاني من زواجهما ، خرج مظلوم لاستئجار سيارة تقلهما الى البصرة لقضاء شهر العسل ...فإذا به يعود بعد أيام متورم الوجه متعكزا أضلاعه يسفّ قملا ـ رغم أن مفوض الأمن المدعو " علي ناصرية ـ ويبدو أنه كان بانتظاره مقابل البيت " أقسم له أن ضابط أمن البلدة لديه استفسار بسيط لن يستغرق أكثر من دقائق معدودة ... فاكتفت برفع يديها الى السماء مطلقة آهة وحشرجة ، ومن ثم ، لتقول : لا تهتم حبيبي ... هذي إرادة الله ... الله يريد يختبر عباده ... كولْ الحمد لله حتى تنحسب إلك حسنة ... فأجابها بغضب : يعني الحسنات ماتجي إلآ بالجلاليق والراجديات والكيبلات والرفس ؟ شلون مسودنة ... الله يريد يختبر عباده .. ليش الله محقق بالأمن ؟ أستغفرك يا إلهي ...

 


(*)
كنت قد نشرت قسما من هذه المذكرات ثم توقفت بسبب عدم حصولي على موافقة الأشخاص التي ترد أسماؤهم بنشرها .


¤ مذكرات الجندي المرقم 195635 (4)
¤ مذكرات الجندي المرقم 195635 (3)
¤ مذكرات الجندي المرقم 195635 (2)
¤ مذكرات الجندي المرقم 195635 (1)

 

 

free web counter