| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يحيى السماوي
Yahia.alsamawy@gmail.com

 

 

 

 

الأربعاء 15/8/ 2007

 

 


أيهما العراقي : ناسج منديل المحبة ..أو المبشـّر بالأكفان ؟

يحيى السماوي

 " إلى روح أمي "
مساء أمس ، كنت على موعد مسبق مع بضعة أصدقاء لتناول رغيف من محبة وعتاب .. وقد عزَّ عليَّ عدم الذهاب خشية من سوء ظن .. فتحاملت على نفسي وذهبت حاملا جبلا من صخور الوجع ، وصحارى شاسعة من حزن ٍ خرافيٍّ لا قدرة لكهولتي على حمله ..

كان الليل صافي الظلمة كضفائر عروس زنجية .. لكن مطرا ثقيلا ، كما لو أنه ممزوج برمل خشن كان يهطل بغزارة من سماء أخرى ، سبب لي غشاوة في الرؤيا ، أربكني وأنا أقود سيارتي ، وحمل سائق سيارة على تنبيهي بصوت المنبّه ، قبل أن يمد لي من نافذة سيارته بإصبعه الأوسط في إشارة منه إلى شتيمة مقرفة ..

ركنت بسيارتي في شارع فرعي ، ثم أطلقت العنان لصدري في نزف حشرجاته عبر شهقات متواصلة من النحيب ... حتى إذا نفضت سماء الأحداق ما فيها من مطر ، وخفتت بروق الصدر ورعوده ، قدت سيارتي من جديد ، ومن ثم ، وجدتني أعرِّج على محطة بترول لأغسل وجهي على أمل إزالة أي أثر لدموع الرجولة .. فأنا ذاهب لتناول رغيف محبة وعتاب ، ولا حق لي في تحويل الجلسة التي أردناها عرسا سومريا ، إلى مأتم أفريقي...

افتعلت الابتسام .. وضحكت على رغم قوس النار الذي يلتف حولي وأفاعي الحزن التي تمص دمي ، لم أكن أعرف من قبل حجم الألم حين أحبس النحيب بين الاضلاع ، وأسجن الدموع تحت الأجفان .. كنت أخفي عن عيونهم أمي النائمةعلى سرير تابوت ينتظر من يحمله ... لم أكن أعرف حجم هذا الألم إلآ حين غادرتهم لأجدني أنشج بعويل هستيري مثل طفل يتيم لا يملك غير دمية واحدة أثيرة وعزيزة لديه إختطفها منه فتى مارق بعد أن مزّق ثوبه الوحيد وركله على بطنه ثم ولـّى هاربا ...

من حكمة الخالق سبحانه ، أنه لم يجعل للمخلوق أكثر من أب واحد وأم واحدة ليعرف قيمتهما ، فهما الضفتان اللتان يتكون منهما نهر الحياة ... لا ثمة نهر بضفة واحدة ..أو بأكثر من ضفتين اثنتين ..

قبل أكثر من عقدين ، غفا أبي إغفاءته الأخيرة ... وكنت على مقربة منه ، فدثـّرْته بلحاف سميك من التراب ... ومن بعده غافلني ولدي ، فغفا قرب أبي ... كنت آنذاك في مقتبل الحزن .. أتمتع بقوة بغلٍ جبليّ وبصبر ناقة ذلول ... وكانت غيوم أجفاني تخفي تحت ضبابها الكثير من المطر ، ساعدني هطوله في إطفاء كثير من الحرائق التي كانت تشب في حشاشتي كلما فقدت عزيزا عليّ ... غير أني الان ـ وقد بلغت من الحزن عِتِيّا ـ لم تعد لذلك " البغل الجبلي الذي كان أنا " ما تكفي من القوة على النزول من سفح تلّ ٍ صغير ـ وليس على تسلق جبل شاهق نحو قمته .. وناقة تجلدي قد نفد ماء صبرها .. وأما غيوم عيوني ، فقد جفت ، ويبست حتى أجفانها لكثرة ما استحلبت أمطارها منذ زمن السبي ، حتى عصر البكاء ...

لملمت ما تبقى تحت أجفاني من دموع ، وما في صدري من بروق ، وما في حنجرتي من حثالة نحيب ، فأطلقتها دفعة واحدة داخل كهف سيارتي في شارع جانبي ..

بموت أبي ماتت فتوَّتي .. وبموت ولدي ماتت أبُوّتي ـ قبل أن تبعث من جديد بإبن ٍ آخر وثلاث بنات ... لكنّ طفولتي ماتت أمس بموت أمي .. أمي التي كانت تنظر إليَّ طفلا في الثامنة والخمسين من عمره ـ وأنا أصدق ذلك .. فقلب أمي لا يكذب .. إنه صادق كصلواتها .. نقيٌّ كدموعها .. ودافئ مثل خبز تنورها ـ أيام كان لها تنور تخبز فيه طحين الذرة والشعير قبل تدني سعر طحين القمح .. . وإذنْ ... أليس من حق هذا الكهل المرميّ في آخر شبر من اليابسة أن يعوي الان مثل جرو ٍ صغير ؟

الان يتذكر ابنها البـِكر الذي أشقاها كثيرا ـ رغما عنه ـ كيف أنه حاول تعليمها القراءة والكتابة ، فما كانت محاولاته تلك غير طبخ حصى .. كانت تشـبّه حرف " الألف " بمحراث التنور .. وحرف " الباء " بالزورق .. والنون بـ " الهلال أبو نجمة " .. لذا كنت أشعر أنني محراث تنورها وزورق حياتها والهِلال النائي ونجمتها الأكثر نأيا عن عينيها ... فأنا الان محراث دون تنور .. وزورق على رصيف إسفلتيّ.. وهلال يحتضن نجمة مطفأة تطل على تابوت .. فالطفل مات .. والكهل يحتضر .. لست الان أكثر من جرو صغير يعوي! لكنها والحق يقال ، تعلمت من أبي قراءة الأرقام من 1 ـ 10وأصبحت تجيد استخدام الهاتف دون الحاجة الى مساعدة من جارتها " الحاجة عطية " كما كانت تفعل قبل أن يبذل أبي جهدا خرافيا لتعليمها قراءة أرقام الهاتف .

خرجت من دار صديقي د . حمودي الدايني ، دون أن أخبره وبقية الأصدقاء أن شرودي وأنا بينهم ، كان بسبب انشغالي في كيفية التحضير لإقامة مجلس الفاتحة على روح أمي الطيبة .. تلك التي كانت تسكن مع شقيقتي في حي اليرموك في بغداد ، غير أن طائفيين منحوا العائلة ثلاثة أيام لمغادرة الحيّ وإلآ سيتم قتل الجميع ، فما كان من شقيقتي إلآ أن تترك بيتها ، فتتجه بعائلتها الى دمشق ـ وهي التي خطفوا ابنها قبل عامين ولم يطلقوا سراحه إلآ بعد دفع الفدية ... خطفوه في نفس الفترة التي سقط فيها زوجها العميد المتقاعد " حمزة الربيعي " برصاصة من رشقة رشاشة جندي أمريكي قتلت ثلاثة عراقيين.. ثلاثة من بينهم صاحب عربة يبيع البيض المسلوق والصمون ـ على ما أخبر به عائلته شهود عيان ( والحق يقال ، فقد أبدت الجهة الامريكية أسفها وطلبت من العائلة مراجعتها لاستلام بضع مئات من الدولارات كتعويض ، لكن احدا من العائلة لم يذهب لاستلام ثمن الإنسان العراقي في حوانيت جيش التحرير الامريكي ) .. العائلة المنكوبة دفعت الفدية : دولارات وقلادة ذهبية وكيس قمامة محشوا بالدنانير العراقية ـ أما أمي فقد حالت أمراضها دون السفر البعيد ، فلجأت الى بيت شقيقتي الأخرى في مدينة المسيب ، ومن ثم توفاها الله يوم أمس في مستشفى الحلة دون أن تبصر إبنها البكر الذي أشقاها كثيرا رغما عنه منذ أعلن عن تضامنه مع الجرح ضد الخنجر والسكين ومع أرجوحة الاطفال ضد المشنقة ، مرورا بما لاقاه من نظام البطل الذي اكتشف أن الإختباء في حفرة جرذان ، هو ضرب متقدم من ضروب الجهاد .. وانتهاء بنحو عقدين من الغربة .. الغربة التي لا يبدو أنها ستنتهي ، ما دام أن الوطن أضحى مسلخا بشريا ، ومختبرا لتجارب آخر مبتكرات البنتاغون ، ومزادا طائفيا لخردوات المحاصصة ، ومكبَّ نفايات يرمي فيه الظلاميون أجسادهم المفخخة القذرة وهم يغذون السير نحو جهنم خالدين بنارها ..

لم يسبق لي أن أقمت مجلس عزاء في مغتربي .. ولم أشأ إخبار أصدقائي بفاجعتي ، ليقيني أن لهم من الفجائع ما أنضبت دموعهم ... أما وقد عرف صديق واحد ، فقد عمَّ الحزن قلوب العشيرة العراقية في أديلايد ، وإذا بهم يتسابقون لأبداء المواساة ، وتجهيز مستلزمات مجلس الفاتحة ـ بما فيهم نفرٌ من رفاق غربة ٍانقطع بيننا حبل الكلام من سنين وآخرين لم يسبق لي أن التقيتهم ـ مسيحيين ومسلمين ، عربا وأكرادا ، شيعة وسنة ... فأية طيبة تسكن القلب العراقي ؟
لم أخبر غير صديق واحد على مبعدة دقائق من بيتي ... فكيف عرف أحبة في المدن النائية وفي قارات أخرى ، راحوا ينسجون لي بحرير مشاعرهم مناديل مواساة لا أبهى وأرقّ ؟
هل عراقيو المغتربات يختلفون عن عراقيي الداخل ؟
لا قطعا ... فجميعهم رضعوا من ثديَي دجلة والفرات ، وجميعهم تكحلت أحداقهم بغبار الوطن ... العراقي عكـّاز أخيه ومنديل جرحه ورواق خيمته .. عراقيتهم أكبر من الطائفة والحزب والمذهب .. فمَنْ هم إذن أولئك الدمويون من حملة السواطير والأحزمة الناسفة وباعثو رسائل التهديد الى العوائل الآمنة ؟ أشك أن يكونوا ممن رضعوا من ثديَي دجلة والفرات ... فمثل هؤلاء لابد وأن يكونوا قد رضعوا القيح من أثداء أمهاتهم وتكحلت أحداقهم بالدخان وديناميت الحقد الأعمى ...

الطيبة أمي غادرت بغداد الى المسيب وهي تتوكأ على عكاز ... وغادرت المسيب الى مستشفى الحلة في سيارة أجرة .. وأمس ، غادرت المستشفى في تابوت .. وأنا هنا ، في آخر شبر من اليابسة ، جثة ٌ تمشي على قدمين في مقبرة اسمها الحياة ..

الطيبة أمي لن تخاف من الموت بعد الان ... ولن تفكر به ..

فقد أوكلت مهمة التفكير به الى ابنها ... إبنها الذي اشترى جميع مستلزمات مجلس الفاتحة ... لكنه عجز عن شراء ـ أو استئجار ـ دموع يعيد بها الرطوبة الى أجفانه الموشكة على اليباس ..

***

موت أمي في مستشفى ، قد أحزن مجاميع كبيرة من عراقيي المنافي والمغتربات الذين عرفوا بفاجعتي ... فسال من عيون بعضهم ماء دجلة والفرات ... فلماذا لا يكون جميع عراقيي الداخل كعراقيي المنافي والمغتربات ، وهم يرون كل يوم مئات الامهات الطيبات مضرجات بالدم ، وأطفالا متناثري الأشلاء ، وكسبة فقراء مذبوحين فلا يرف لبعضهم جفن .... ؟

هل يجب أن يعيش الجميع في المنافي والمغتربات والاوطان المستعارة ، ليفكروا بفجيعة الوطن المنكوب ؟

أيهما العراقي حقا : المتحزم بحبل خيمة الوطن ؟ أو المتحزم بالديناميت متجولا في الاسواق الشعبية والمقاهي وأفران المخابز بحثا عن أكبر عدد ممكن من الأبرياء لحزامه الناسف أو سيارته المفخخة ؟

إنشغالي بتهيئة مستلزمات مجلس الفاتحة ، يحملني على عدم انتظار الجواب عن سؤالي : من هو العراقي ؟ الذي ينسج منديل مواساة لأخيه العراقي ـ أو الذي يبشر ويهدد بالمزيد من الأكفان والتوابيت ؟

..............
..................

أمي لم تعد تخاف من الموت ...

لقد أورثتني إياه الان .