| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. وهاب عبدالرزاق الجبوري
 w.aljebori@hotmail.com

 

 

 

الأربعاء 16/8/ 2006

 

مدخل علمي لكتابة الدستور

د. وهاب عبد الرزاق الجبوري

 
بالرغم من ما كُتب من مقالات عديدة حول الدستور و خاصة في الفترة الأخيرة قبل و بعد صدور الدستور العراقي الأخير – 2005. إلا أني لاحظت أن كثيرين مازالوا يجهلون أمورا كثيرة متعلقة بماهية ومضمون الدستور بشكل عام . اعلم أن كتابتي للمقالة جاءت متأخرة إلا أن الضرورة حتمت نشرها للأسباب المذكورة أعلاه.

هل المدخل العلمي لكتابة الدستور قواعد ثابتة او وصفة جاهزة ؟ الجوا ب كلا . إني انظر إلى ذلك نظرة إنسانية موضوعية لا تخلو من التحيز لمصلحة الكادحين فيه. فالدستور هو نتاج صراع اجتماعي ، حيث تفرض الطبقة (أو المجموعة ) الغالبة أفكارها في تدوين الدستور كي تبسط هيمنتها على الدولة والمجتمع. و لذلك وجدت من الضروري الإشارة إلى أن كتابة الدستور تحتاج إلى منهج علمي ليكون وبحق قانونا أساسيا أولا، و ثانيا بسيطا يفهمه الكادحون كي يعرفوا ما لهم و ما عليهم من حقوق و حريات و واجبات.
إن المدخل العلمي لكتابة الدستور يتعلق في تدوين النقاط التالية :

أولا :تبويب الدستور

1.الديباجة: هي جزء من الدستور وتعنى بالبرنامج السياسي والإيديولوجي للدولة. و تهدف إلى تبيان هدف الدستور والضرورة التاريخية لتدوينه. وتتضمن في بعض الأحيان على مبادئ سياسة الدولة أو التأكيد على تبني حقوق وحريات الأفراد.
هل تتمتع الديباجة بقوة المعيار القانوني أو بقوة قانونية ؟ إن الديباجة ليست معيارا قانونيا ولكن لها أهمية قانونية كبيرة. وتجري الاستعانة بالديباجة أحيانا في تفسير وتطبيق المواد الدستورية لحل الإشكالات، وأيضا في كتابة مشاريع القوانين.
اغلب دساتير الدول تحتوي على ديباجة . و يخلو القليل منها، على سبيل المثال الدستور العراقي لعام 1925 و كذلك الدساتير اليمني والقطري والمصري والسوري والاردني والأسباني، وهذا ليس نقصآ. و يفضل أن تكون الديباجة مختصرة وهادفة أن وجدت.

2. الأسس ( المبادئ) الأساسية ( السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ): بعض الدساتير تتناول المبادئ الأساسية بشكل عشوائي . وتدون المبادئ في باب أو فصل واحد و بشكل مختصر أو تقتصر على الأسس السياسية على حساب الأسس الأخرى . فالدستور العراقي الحالي يركز على أسس سياسية و قدر قليل من الأسس الاجتماعية و دون ذكراي شيء عن الأسس الاقتصادية. أما دستور الاتحاد الروسي الحالي لعام 1993 فانه يجمع كل الأسس في باب واحد دون أن يجزءها إلى فصول و هذا يربك المواطن في التمييز ما بين الأسس. أما الأسلوب العلمي والصحيح فيكمن في فصل الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية كل على حدة، حتى يتسنى للقارئ تفهمها بدون صعوبة ( مثل دستور سوريا و الكويت ومصر والمغرب و سلطنة عمان و اغلب دساتير الدول الاشتراكية سابقا ).

3. الحقوق والحريات للأفراد ( الشخصية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ) والواجبات (في بعض الدول تخصص وثيقة منفصلة للحقوق والحريات): لهذا الباب من الأهمية بحيث أصبح مقياسا لديمقراطية الدولة و تقدميتها لما يتمتع به الشعب من الحقوق والحريات الواسعة، ولكي يستفيد المواطن العادي ويعرف ما له وما عليه من الضروري جمع الحقوق والحريات و الواجبات في باب واحد لسهولة معرفتها (اغلب دساتير دول العالم) . أما الدستور الأمريكي فلم يدوّن الحقوق والحريات لا في باب واحد بل وزعها على الأبواب الأخرى و على المواطن الأمريكي البسيط (نصف المتعلم ) أن يقرأ الدستور من أول مادة إلى آخر مادة بحثا عن حقوقه و حرياته و واجباته.

ثانيا: اللغة والأسلوب

من أساسيات كتابة الدستور- استخدام لغة وأسلوب سهلين - هذا إذا كان المشرع يرمي إلى إيصال محتويات الدستور إلى الفرد البسيط. وعلى المشرع الابتعاد قدر الإمكان عن استخدام الكلمات التي تعطي أكثر من معنى لكي لا يربك القارئ في فهم المادة. كما ينبغي على المشرع أن يستخدم نفس المصطلحات القانونية في كتابة الدستور و التي كانت متداولة و مستخدمة من قَبل، أن لم يكن هناك عارضا جديا، لتسهيل تداولها بعد أن تعود على استخدامها الحقوقيون وعامة الناس . إن استخدام اللغة السهلة والبسيطة في تدوين الدستور يجب أن لا يكون على حساب الأسلوب القانوني الرفيع . ومن المعروف للجميع أن لغتنا العربية لغة غزيرة بالمعاني والدلالات، وهي لغة صعبة و واسعة. و لهذا السبب يلزم تدوين الدستور بلغة سهلة والابتعاد عن الكلمات نادرة التداول أو صعبة التلفظ . وبذلك يتسنى للمواطن الذي حرم من أكمال تعليمه لأسباب اقتصادية أو لأسباب أخرى إدراك محتوى قانونه الأساسي الذي ينظم حياته.

ثالثا: المحتوى:

الدستور هو القانون الأساسي و تدون فيه أهم القواعد ( المعايير) الأساسية التي تنظم شؤون الدولة والمجتمع. وتسمى هذه المعايير / بالمعايير الدستورية. و ما عدا ذلك، تدون المعايير غير الأساسية في القوانين الأخرى والمراسيم. بعض الدول تتجاوز ذلك، فتدون في دساتيرها أحكاما ليس لها علاقة مباشرة بتنظيم الدولة. على سبيل المثال: قواعد الطعن في الانتخابات ، أو عقد القروض العامة، وهي شؤون ليس لها في حد ذاتها أية صفة دستورية. و ُيتبع هذا الأسلوب على نطاق واسع في دساتير الولايات التي تشكل الولايات المتحدة الأمريكية. و نجد أيضا في دستور الاتحاد السويسري نصوصا غريبة يتعلق بعضها بتنظيم ذبح و قتل الماشية (المادة 25 ). و في هذا السياق أيضا ما ينص عليه دستور الاتحاد الأمريكي ( 1919 - 1933 ) من تحريم تصنيع المشروبات الكحولية أو بيعها أو نقلها وشرائها. و لم يخل الدستور العراقي من مثل هذه الأحكام (المادة 43) تنص على ضمان(ممارسة الشعائر الدينية بمافيه االشعائر الحسينية).

رابعا: في مهام الدستور

على المشرع أن يؤكد على المهام التالية أثناء تدوين الدستور:
1: المهمة القانونية: كما ذكرنا أعلاه إن الدستور هو عبارة عن قانون، ولكنه ليس عاديا َ بل قانوناَ أساسيا وهو المصدر الأهم للتشريعات السارية في البلد. ومن المفروض أن يحتوي الدستور على أهم المعايير لتنظيم الدولة والمجتمع. كما يجب أن تدون كل الأحكام الدستورية ولا يترك للأعراف مكان فيه ليكون دستوراَ مدون بحق . ومن واجب المشرع أن يدرك هذه الحقائق أثناء كتابة الدستور.
2: المهمة السياسية : يحدد الدستور بنيان الدولة. و على المشرع التأكيد على علاقتها مع الأفراد وتجمعاتهم، وتنظيم الأسس القانونية للعملية السياسية. وان جميع القوى(الأحزاب والحركات ومنظمات المجتمع المدني ) تتعامل و تتنافس وتناضل وتستلم سلطة الدولة على أساس الحقوق والضوابط المدونة في الدستور.
3: المهمة الأيديولوجية: الدستور، هو أكثر هيبة بين القوانين. وتدون فيه أكثر القيم السامية و المثل العظيمة التي يتبناها الشعب والإنسانية. و على المشرع تعزيزها و اعتبارها مصدراَ أساسيا في تعاملات الأفراد. كما ينبغي رفض العادات و التقاليد البائسة و الدونية التي لا تجلب سوى التخلف للأمم.

خامسا: شكل الدستور

في الواقع العملي توجد أشكال متعددة للدساتير: المدوّن والغيرالمدوّن والجامد والمرن والواقعي والشكلي والجمهوري والملكي والأحادي والاتحادي والبرجوازي والاشتراكي وغيرها. و يهمنا من هذه الأشكال الثلاثة الأولى. فالدستور اليوم في عصر التغيرات نحو الديمقراطية يجب أن يكون مدونا و جامدا و واقعيا و قبل كل شيء أن يكون إنسانيا.
الدستور المدوّن: هي الأحكام الدستورية المدونة جميعها في كتيب يسمى دستورا وخالي من الأحكام العرفية. و بهذا الشكل يستطيع المواطن أن يتعرف على جميع الأحكام الدستورية المدونة في الدستور.أما الدستور الغير المدون (العرفي)، فهو ينظم حياة المجتمع والدولة عبر مجموعة كبيرة من القوانين (في المملكة المتحدة أكثر من 3000 قانون) إضافة إلى الأعراف. والدول التي تملك دساتير غير مدونة وعرفية هي المملكة المتحدة و نيوزلندة وكندا وإسرائيل. وفضلت الدول الثلاث الأخيرة الدستور العرفي غير المدون لكي يشكل احد الأساليب لاضطهاد السكان الأصليين أولا وللاضطهاد الطبقي ثانيا. أما في المملكة المتحدة فقد تعودوا على هذا النظام منذ قرون ففضلوا الدستور غير المكتوب (العرفي).
الدستور الجامد: المقصود بكلمة الجامد هنا أن لا يكون الدستور سهل التعديل. أي يحتاج إلى ثلثي الأصوات كحد أدنى لتعديله ومثال ذلك الدستور الأردني. وبعضها يعدل بأغلبية خاصة مثل السوري واللبناني الحاليين. وبعضها يقر في المجالس ومن ثم يعرض على الشعب للاستفتاء مثل المصري و المغربي. أما الدستور العراقي فيعتبر جامدا. تنص المادة 126 البند الثاني من الدستور العراقي على ما يلي: لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية في الباب الأول و الحقوق و الحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، إلا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين وبناء على موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، و موافقة الشعب بالاستفتاء العام.. وينص البند الثالث من نفس المادة على: لا يجوز تعديل المواد الأخرى غير المنصوص عليها في البند ( الثاني) من هذه المادة إلا بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، و موافقة الشعب بالاستفتاء العام.. . ويكاد أن يكون الدستورالعراقي الحالي شبيها في اجراءات تعديله بدستورالاتحاد الروسي لعام 1993 الحالي. ولا يصبح تعديل دستور الدولة السويسرية نافذا إلا بعد موافقة أغلبية المواطنين وأغلبية ولايات الاتحاد السويسري.
الدستور المرن : يحتاج الدستور المرن بغية اقراره إلى الأكثرية المطلقة (% 50 +1). لذا فالدستور الجامد هو أكثر الدساتير ضمانا لاستقرار الهيئة الاجتماعية. لأن استقرار الدستور يعني استقرار التشريعات ومن ثم استقرار المجتمع.
الدستور الواقعي : المقصود أن ينفذ ما مدون فيه في الواقع. و على المشرع أيضا أن لا يدون نصوصا في القانون الأساسي أو في غيره غير قابلة للتنفيذ في المدى القريب و يسبب عدم الثقة الناس بالقوانين جميعها.
يقال إن نابليون بونابرت جمع الحقوقيين الفرنسيين و طلب منهم أن يكتبوا له دستورا لفرنسا ! فردوا عليه مستفسرين: ما هي مبادئ هذا الدستور ؟ فرد عليهم بعد فترة صمت من التفكير: (أريده أن يكون مختصرَا و مبهماَ ) !. و العبرة ليس بان يكون الدستور طويلا أو قصيرا مبهما أو واضحا بل يكون معبرا عن إرادة كل الشعب. وعلى المشرع أن يجعله علمياَ و إنسانيا و منصفا و لكل أطياف الشعب.

 



 

free web counter