| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

وائل المرعب

 

 

 

الأحد 9/8/ 2009



بمناسبة الذكرى ( 19 ) لرحيله

رشدي العامل
طائرٌ فراتي يسقط على ضفاف دجلة

وائل المرعب

( أن دموع السكارى هي أصدقُ من المداد الذي يكتب به الآخرون )
هذا ما قاله يوماً رشدي العامل وهو يردُّ تهمة من أحد خلصاء الفكر بأعتباره الشيوعي الأكثر أرتياداً للبارات والحانات , والذي لا يثنيه عن معاقرة الخمر الاّ أمرين , أوّلهما اذا كلـّف بواجب حزبي ذو أهمية صارمة , والثاني حين يسمع والدته في صلاتها وهي تضرع الى الله أن يهديه كي يترك الخمر . لكنّ كل هذا لم يجعل رشدي يحسب على الصعاليك الذين يجوبون الشوارع التي تترنح تحت أحذيتهم المثقوبة والمثقلة بالخدر , ويندسّون في زوايا المواخير والبارات المنسيّة يترقبون أحداً تأخذه الرأفة بهم فيتحمّل تكاليف ضياعهم في أروقة الهيام .

كان رشدي أنيق الملبس كما هو أنيق الكلمة وكان لا يجلس الى مائدة الشراب الاّ بصحبة خيّرة من رفقة الشعر والفكر , كما كان ملتزماً بآداب المائدة , ولم يكن يجنحُ الى الشطط أو الغلو وهو في أشد حالات سكره , بل يغدو وديعاً شفيفاً مسالماً تضجّ حناياه بالطيبة فتفيض على المكان والساعات الأخيرة من هزيع الليل .

أن أسراف رشدي في تناول الخمر الذي أجهز عليه وقضى على حياته وهو لم يكمل عامه السادس والخمسين يعود الى شغفه أولا بالعرق العراقي وثانياً وهذا هو الأهم يرجع الى تعرّض حزبه الشيوعي الى هزائم سياسية متكررة أدّت الى تصفيته وأبادة خيرة كوادره أكثر من مرّة , ممّا عجّل بتسرّب اليأس الى عقله وقلبه المتعب وبالتالي تولد لديه شعوراً ( مازوشياً ) ونزعة تدميرية للذات , فهو أراد أن ينهي حياته وقرب رأسه قنينة زجاجية فيها ثمالة عرق , اذ كان لا يحتمل القناني الفارغة تماماً حيث توحي له بنضوب الحياة وأنقطاع نسغها .

رشدي العامل ...طائرٌ أنحدر من أعالي الفرات ليسقط ميتاً على ضفاف دجلة .

رشدي العامل ...عرفته السجون والمعتقلات زائراً خفيف الظل , لا يتعب سجّانيه فهو يراعي بدقة متطلبات السجن , فيأتي متأبّطاً ( يطغه ) ويحمل ( سفرطاسه ) وفي جيبه قصاصات ورق بكر وقلم صغير .

رشدي العامل ...متوّله بحب النساء كباقي الشعراء , الاّ أنه أعفُّ منهم جميعاً , فهو أمين على حياءه وأمين أن لا يخدش حيائهنّ .. كان يكفيه وجود امرأة أيّاً كانت قربه حتى تلوّن رؤاه وتشحنه بطاقة عاطفية تتحوّل بسرعة الى قصائد معرّشة بحزن وغنائية شفيفة .

رشدي العامل ...أطلقت عليه الصحافة ( صاحب القلم الرشيق ) وكان ( نصف عمود ) الذي يكتبه في جريدة (التآخي) أواسط الستينات , النافذة الصغيرة الوحيدة التي يطلُّ منها الناس آنذاك على أمل يلوح في أفقهم الدامي .
رشدي العامل ... كان رومانسياً من طراز فريد .. لا يبتعد أي نص شعري لديه عن حافة الحلم .. بل يوغل غالباً في مجاهيله يبحث عن منجاةٍ يسترد بها أمانه .

رشدي العامل ... ظلّ وفيّاً لفكره حتى ساعاته الأخيرة , وأستمرت قناعته بأن نهاية الصراع سيكون لصالح الفقراء والمعدمين , وحتى حين خبا بريق الأشتراكية قبيل وفاته .. برّر ذلك بأنها ( البروفة ) الأولى , وقد أقترب الشاعر جواد الحطاب في قصيدته الحزينة التي يرثيه فيها يوم أربعينيته الى حقيقة أصرار رشدي العجيب على التمسّك بفكره النيّر .. اذ قال :

ما أن غادر المعزوّن المقبرة
حتى نهض ( المدعو ) رشدي العامل
وتفقــّد بيته الجديد
كان بلا أثاث وموائد للكتابة
فانتظر مجيء الليل
ليحصي : كم قتيلاً يمتد بين الكلاشنكوف والشعر
وأذ أنتبه ( المدعو ) رشدي العامل
لعيونٍ تتقفى آثار خطاه
حتى قرفص وكأنه يهمّ بقضاء قصيدة
ثم تسللّ الى أقرب قبر
ليؤسّس تنظيماً سرياً لفقراء الموتى
الله يارشدي
يا صديقي الذي قلدته الحكومات
أرفع معتقلاتها

كما ظلّ الى قبيل مرضه الأخير وقعدته رهين الفراش , معارضاً صلباً للحكم الأستبدادي القمعي ممّا أثار حنق السلطة وغضبها , حتى وصل به أمر التحدّي هذا أن طلب منه رئيس تحرير الجريدة المركزيه لحزب السلطة وكانت تربطه علاقة حميمة به أن يكتب شيئاً عن تحرير الفاو من الأحتلال الأيراني كما فعل أغلب الشعراء والأدباء , فرفض ذلك وقال له ( لن أخطو خطوة واحدة نحو هذا المستنقع), كما صعد يوماً منصة أتحاد الأدباء ليلقي قصيدته ذائعة الصيت ( الحسين يكتب قصيدته الأخيرة ) وكانت القاعة قد غصّت بالحضور , ودوي صوته يصلُ الى أسماع ضباع الأمن الذين يذرعون الرصيف المحاذي لمبنى الأتحاد , وفي القصيدة أشارات فاضحة ودلالات بينـّه اذا ما أسُقطت على الوضع السياسي المخيف حينها :

ها أنا الأن نصفان
نصفٌ يعانق برد الثرى
ونصفٌ يرفُّ على شرفات الرماح
ها أنا والرياح
جسدي تحت لحدي , ورأسي جناح
ها أنا بين رمل الصحارى
ولون السماء , ها أنا في العراء
أنكرتني ضفاف الفرات
فلم ألق قطرة ماء
في رمال الجزيرة ضيّعتُ أسمي
وغادرتني الأنبياء
فأقطع الأن من جسدي ما تشاء
سيفل الحديد الوريد
جرّب الأن في جسدي ما تريد
ذاك رأسي
على طبقٍ باردٍ يا يزيد

ويوم تعرّفتُ على رشدي كان يوماً مباركاً في حياتي , ففي أواسط الثمانينات حصل هذا المشهد :
ترك عكـّازه برهة كي يخرج قلمه ليصادق على طبعة البروفة الأولى لديوانه ( حديقة علي ) , الاّ أن القلم سقط من يده , وقبل ان يحتال على قدرته الواهنة التي تعيقه من أن ينحني , سارعتُ لأنتشال القلم :
ـــ تفضـّل أستاذ رشدي
أرتسمت أبتسامة خجولة على محيّاه
ـــ أشكرك كثيراً ولكن كيف عرفتني ؟
ـــ أن أحساسي لا يخطيء يا شاعري .. لقد قلت لنفسي .. لن يكون هذا الكائن النحيل سوى رشدي العامل الذي أحفظ له منذ عشرين عاماً هذا النص :

( يبّستَ جرحكَ من تراب السجن لكنّ القضية
ظلّت بصدركَ رعشةٌ تدمى وأغنية ثريّـــــة
لكَ ملحَ أحداقي على شفةٍ تصون لنا القضية
)

عندها عانقني وقبلني بحرارة وأصبحنا لا نفترقُ الى يوم رحيله .

أخيراً .. لابد من أن أذكرُ أن صديقنا المشترك النحّات نداء كاظم أخبرني أن رشدي قال له قبل رحيله ( أطرقوا ثلاث طرقات على قبري اذا سقط الطاغية حتى أعلم ان ليل العراق قد انتهى ) , وقد وفىّ نداء تنفيذ هذا الرجاء مشكورا ً .



  
 

free web counter