| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

وائل المرعب
Wail.murib@gmail.com

 

 

الأربعاء 30/12/ 2009

 

محطّات في سفر العطاء والصمود

وائل المرعب *

المحطّة الأولى :
لم يكن عمرها قد تجاوز الخامسة عشر حين عادت من مدرستها يوماً , فوجدت عباءة نسائية مرتّبة وموضوعة بإتقان فوق سريرها, لم تسأل ولم تتريّث ’ فتحت دولابها ورمتها في دُرج الملابس المهملة وظلّت قابعة هناك الى أن أصبحت من نصيب إحدى الفلاّحات , وأعلنت من ذلك اليوم أوّل حالات تمرّدها على الواقع المجتمعي في أربعينات القرن الماضي .
لم تكن " سافرة جميل حافظ " مذ وعت سهلة الأنقياد , فهي لم تُذعن يوماً لأي حَيف لحق بها شخصيّاً , ولم تكن قانعة بالذي تراه وتحسّه وتلمسه من ظلمٍ طبقي وفئوي يمنح الرجال صلاحيات لا حدود لها ويغمط حق النساء في العيش بكرامة , فقررّت بمفردها أن تؤدّب ذلك المجتمع .

المحطّة الثانية :
حينما بدأ سعيها لتغيير المعادلة المجتمعية غير المتوازنة وغير العادلة , ترسّخ في قناعتها إن مجهودها الفردي لا يفضي الى نتيجة ولا يقوى على إحداث تغيير يُذكر أمام السطوة العاتية للأعراف والتقاليد والقيم البالية والسائدة وقتذاك , ولمّا كان فكر اليسار قد تبنّى منذ بواكيره الأولى قضية الدفاع عن حقوق المرأة في المساواة الأجتماعية والتعليمية والأقتصادية والسياسية , أصبح عنصر جذب لها لا تملك سوى الأستجابة لأغراءاته الفكرية والأنسانية .
في نفس الوقت الذي بدأ سعيها وإنتماءها تتضح معالمه , بدأ ولعها القديم في كتابة القصة القصيرة يظهر للعلن , إذ اخذت طريقها للنشر على صفحات الجرائد الوطنية أنذاك .

المحطّة الثالثة :
عام 1954 تخرّجت من كلية الآداب / قسم اللغة العربية , وكان من زملائها حشدٌ من الذين أصبحت أسماءهم بعدئذ تتصدّر قائمة المبدعين , أبرزهم ( مظفّر النواب وغائب طعمة فرمان وسليم البصري وداود سلوّم وآخرون) في سني الكليّة تبلورت مداركها وأتضحت الرؤيا لديها أكثر وتيقّنت أن المرأة هي ليست الوحيدة مسلوبة الحقوق , وإنمّا هناك صراعٌ طبقي دامٍ بين غالبية الشعب المسحوق من فلاحين وعمّال وكسبة معدمين بالكاد ينتزعون ما يسد رمق أطفالهم وعوائلهم , وبين قلّة يمتلكون السلطة والمال والأقطاعيات الكبيرة من أرض العراق, فأصبح إنتماءها لليسار واقعاً , فأنخرطت في النشاط النسوي التقدمي وألتحقت بالرعيل الأوّل من المناضلات ( نزيهة الدليمي , عفيفة رؤوف , روز خدّوري , سالمة الفخري , إبتهاج الأوقاتي , حياة النهر ..وغيرهنّ ) وأسسّن رابطة الدفاع عن حقوق المرأة , الذي أصبح أوّل تنظيم تقدمي مؤثّر في المجتمع النسوي العراقي , كما أنتسبت الى الجمعية النسوية الحكومية ( الأتحاد النسائي ) وكذلك أصبحت عضوة في جمعية الهلال الأحمر وأستطاعت أن تنشّط عمل هاتين الجمعيتين ودفعهما لتقديم المساعدات خاصة الى الشعبين الفلسطيني والجزائري .
وفي إنتفاضة 1952 تم إعتقالها للمرّة الأولى , فرفعت الكارت الأحمر بوجه ذلك النظام الرجعي القائم آنذاك , وأضحت المواجهة مكشوفة بينها وبينه , وأصبح لديها ملفّاً يتنقّل بين أقسام مديرية الأمن العامة , كما اصبح بيتها لا تفارقه العيون الراصدة لرجالات بهجت العطيّة . لكنّها رغم إنغماسها في نشاطها السياسي عامة والنسوي خاصة , لم تنس " سافرة " همّها الأبداعي , فكتبت مجموعة من القصص استطاعت أن تخرج بها الى رفوف المكتبات تحت عنوان (دمى واطفال) عام 1956 .

المحطّة الرابعة :
بعد ثورة 1958 كانت ضمن مجموعة من الأدباء حضروا الأجتماع التأسيسي الذي تمّ في حديقة بيت الجواهري الكبير , وبه تم الأعلان عن تشكيل ( إتحاد الأدباء العراقيين ) .
أصبح نشاطها ملحوظاً في رابطة المرأة العراقية خاصة بعد نشوب الصراع الدامي بين قوى اليسار وحلفاءه من تقدميين وديمقراطيين وبين التيّارات العروبية وحلفاءها من بقايا الأقطاع والنظام البائد , وأصبحت " سافرة " تمشي على خط النار .

المحطّة الخامسة :
تم أعتقالها بعد إنقلاب شباط الأسود عام 1963 وأودعت في أقبية قصر النهاية سيء الصيت , وبعد ان جرى إعدام زوجها المناضل والقيادي الشيوعي البارز المحامي ( محمد حسين أبو العيس ) , صدر بحقها حكم الأعدام , لكن الجلاّد الذي أوكل إليه تنفيذ الحكم جبن أمام إستخفافها بالموت , وأكتفوا بأن مارسوا معها أبشع أنواع التعذيب لقهر آدميتها وإسقاطها سياسياً وفكريّاً , الاّ أن عنادها المبدأي ورسوخ قناعاتها بالطريق الذي سلكته , جعلها عصيّة على الرضوخ والأستسلام لوسائل الضغط النفسي والجسدي رغم قساوتها المفرطة , وقضت سنة ونصف بين قصر النهاية وسجن النساء وبقية المعتقلات , وتمّ بعدها إطلاق سراحها بوساطات عدّة شرط أن تقضي سنة ونصف أخرى تحت الأقامة الجبرية .

المحطّة السادسة :
لم تبرح " سافرة " أرض الوطن كسواها ممّن تعرّضن الى مثل ما تعرّضت له من ترمّل وتعذيب وحشي الاّ لفترات محدودة أعادت الصفاء الى روحها وشحنت نفسها بشحنات الصبر والعناد الجديد , فمكثت أربعين عاماً وهي تراقب ما يجري على الساحة السياسية وما شهدته من تحالفات هزيلة لم تقوى على الصمود , وظلّت تكتب لنفسها ولم تلوُث قلمها ولا إسمها في النشر بصحافة النظام الدكتاتوري , وبقت تمارس كبرياءها أمام أنظار ذلك النظام دون أن يجد منفذاً للمساس بها , إذ لم تعطيه فرصة واحدة للوصول الى سمو قامتها .. وكان المتخاذلون الذين فقدوا إعتبارهم السياسي حينما يصادفونها , يعرضون عنهـــــا ويولوّن هاربين , إذ كانوا يشعرون بضآلتهم ومهانتهم أمام رفعتها . كما أستعاضت نشاطها السياسي والأدبي في تلك الفترة بتأسيس ( قاعة الدروبي ) للفن التشكيلي لأحتضان التجارب الجديدة للفنانين الشباب الذين لم يجدوا فرصة للظهور.

المحطّة السابعة :
بعد سقوط نظام القمع الأستبدادي عام 2003 تحرّك سريعاً الأعضاء المناضلون لأتحاد الأدباء للملمة صفوفهم وتجميع كيانهم وإعادة تأسيس الأتحاد , وقد أختيرت " سافرة " مجددّاً عضوة في هيئته التأسيسية الجديدة .
أستعادت " سافرة " مباشرة نشاطها فأصدرت مجموعة قصصية ( 14 قصة ) والجزء الأوّل من روايتها ( هم ونحن والقادمون ) والجزء الثاني قيد الطبع , كما أصدرت مسرحيتين من فصل واحد . وهي الآن سكرتيرة رابطة المرأة العراقية وعضوة مجلس السلم والتضامن وعضوة منظمة دعم الثقافة العراقية وعضوة منظمة الثقافة للجميع , وأصبحت الآن وجهاً مألوفا في وسط منظمات المجتمع المدني ومعروفة بشكل واسع كونها داعية من دعاة السفور وتحرير المرأة .
أخيراً , ستظلُّ " سافرة جميل حافظ " قامة مديدة تعرفُ شوارع بغداد وقع خطاها عن بعد وإسماً سوف تذكره الأجيال القادمة من نسائنا بأعتزاز كبير عرفاناً بتضحياتها وصبرها المستحيل .


 

* كاتب وتشكيلي عراقي


 

free web counter