| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

وائل المرعب
Wail.murib@gmail.com

 

 

الأربعاء 2/6/ 2010

 

قصة قصيرة

على هامش الفكاهة

وائل المرعب

أصرّ الملحّن والمطرب ( علي ) على أن أكون ضمن عشرة رسامين تتوزّع عليهم عشرة قصائد منتقاة من آخر ديوان لشاعر كبير , لغرض إستلهام مضامينها وعمل لوحات تخطيطية كبيرة , توزّع على مساند خشبية على شكل قوس خلف المطرب الذي يقوم بدوره بغناء القصائد بالتتابع على أوتار عوده بعد أن تسلّط حزمة ضوئّية من الأعلى على كل لوحة أثناء غنائها , وقد تحقّق ذلك بإجادة بالغة الدهشة , وبعد أن أنهى أغنيته الخاصّة بلوحتي إنفرد صوت تصفيق حاد من خلف الجالسين , وحين أدرتُ رأسي صوبه , رأيت جنان واقفة وأكفّها لا زالت على حماستها في إبداء إعجابها , تلبّسني ضجرٌ خائف كمن أحسَّ بأنّه مطارد , ورحت أتساءل مع نفسي " ألم تتعض من طردي لها من الكاليري قبل أيام ؟ ولماذا هي مصرّة على أختياري أنا بالذات دون غيري كي أكون فريسة سهلة لشهواتها ومن ثم لمخالب زوجها الذي لا يحتاج الى مبرر لقتلي أو للفتك بي فيما إذا أحسّ أن هناك علاقة بيني وبينها , فهو أحد عظام رقبة النظام ومسؤول حماية الرأس ؟ ".. أومأتُ لحسن الذي كان يحتلّ موقعاً متقدماً من الكراسي الأمامية بإشارة فهم منها إن عليه أن يلتحق بي , وحين أنزوينا في ركن خارج الصالة لأبلغه بما أنا فيه شعرتُ ان كفّاً تربت على كتفي برفق .. ثم سمعتها ..
ـــ عاشت يدك أستاذ .. كانت لوحتك معبّرة عن فحوى القصيدة بشكل كبير, فأنا قد جئتُ مبكّرةً قبل بدأ العرض وأستعرضتُ الأعمال عن قرب وقرأتُ أسمك على أحداها وكانت أجملهنّ على الطلاق ..
لم أمتلك حينها خياراً في الأجابة على هذا الأعجاب سوى أن أكون لائقاً وممتنّاً..
ـــ أشكرك .. لقد أستوعبتِ بوقت قياسي الدرس التشكيلي .. أهنّئكِ ..
ـــ يعود لك الفضل في هذا أيهّا الفنان الكبير..

حاولت بهذا الكلمات المحافظة الرصينة أن تستدرجني كي أغيّر نظرتي عنها وأن تدفعني لطرد ما علق بذاكرتي من ذلك الموقف الجريىء الصادم الذي جعلني أحذر منها وأبتعد عنها , لكنّي قرّرتُ أن لا يطول الحديث أكثر كي لا أترك مجالاً لها لتعاود مجيئها الى الكاليري وتعود معها مخاوفي من وجودها هناك .. اعتذرتُ لها متحجّجاً بوجود مهمّة خاصة لها علاقة بحسن , فأنسحبنا وتركناها تقضم بعضاً من حيرتها وتداري فشلاً لم تكن تتوقّعه ..

× × ×
أزاح سعيد طبقة سميكة من همٍّ تراكم منذ خمس سنوات على قلبه أي من اليوم الأوّل الذي دُعي به للأنخراط بالخدمة العسكريّة حتّى يوم نقله الى بغداد وحشره في زاوية في احدى الوحدات الأدارية , وعاد الرونق لعينيه وبدأت تلوح على محيّاه إبتسامة وعلى سحنته نضارة لم نكن نراها فيه من قبل .. وكنّا نحنُ شلّة الضائعين في دروب الحياة العراقية سعداء بذلك .. إذ بدأ سعيد يرتّب أولوياته ويخطّط لأيامه القادمة , حيث وضع مهمّة علاج أخيه وإيجاد حل لقضية هروبه المتكرّر من الجبهة في مقدّمة إنشغالاته .. وثمّ تأتي مهمة طلاء بيت أبيه الذي يسكنه بمشاركة اخيه واخته وتهيأته ليكون لائقاً فيما إذا قرّر الزواج ..وبعد ذلك أختيار مكان لوضع مكتبه الصغير في احد أركان حجرته الخاصة ليعاود نشاطه الأدبي في كتابة القصة والنقد الفني , الذي أنقطع عنه تماماً طيلة وجوده في جبهات القتال التي سرقت من حياته أهم خمسة سنوات من عمر النضج الأبداعي وأطفأت في ذهنه جذوة الخيال والخلق حتى كاد أن ينسى كل مثابات اللغة وأجناسها الأدبية ..
أتصل بي بعد أن باشر في مكانه الجديد بثلاثة ايّام وطلب منّي أن ألتقيه عصر غد في الكاليري لأمر ما , وهذا ما حصل حيث وجدته مستغرقاً في حديث مع نصير غلبت عليه الفكاهة وتخللته ضحكاتهما ممّا أشاعا جوّاً تفاؤليّاً لم أعتاده منذ زمن حينما كان سعيد طرفاً في حديث ما , جعلني أستبشرُ خيراً بأن الأمر الذي دعاني سعيد لألتقي به من أجله لا يدعو الى القلق..
ـــ السلام عليكم .. ما سرُّ هذه الفكاهة وهذا الأستغراق في الضحك ؟ الله .. كم نحن بحاجة الى مثل هذه المشاعر الخارجة من القلب والصافية كزلال الماء .. وكم هو جميل وأنا أرى سعيد يطفح على وجهه البشر .. بصراحة لقد نسيت شكل إبتسامته منذ زمن ..
قلت هذا بعد أن أخذتُ مكاني على كرسي من الخيزران أعتدتُ الجلوس عليه إعتزازاً بعائديته التأريخيه , إذ كان من ضمن أثاث البيت المتواضع الذي كان يشغله بالأيجار الزعيم عبد الكريم قاسم , وقد أشتراه نصير من السوق لهذا الغرض وجعله ضمن أثاث صالة الجلوس في الكاليري ..
ـــ أهلا بك .. كنتُ قد رويت لنصير إحدى الطرائف التي كنّا نتداولها ونحن في آتون الجحيم , وخاصة أثناء القصف الشديد علينا وكنّا نروم خلق معادل موضوعي لحالة الذعر والخوف .. إذ يقال إن أحد الجنود الهاربين عثر بقدمه بمصباح علاء الدين , وحين أراد أن يزيل ما علق به من اوحال خرج المارد له وقاله له بصوته المجلجل "شبّيك .. لبّيك .. عبد بين يديك .. أأمر وأنا المطيع ".. فلم يجد أمامه من طلبٍ سوى " انقذني من الخدمة العسكرية " فضحك المارد بقهقهة عالية وقال له " أعذرني سيدي فأنا جندي هارب مثلك " !!
ضحكنا ضحكاً كالبكاء .. حتى طرائفنا غير مبرّأة من الهم ومثقلة بالبعد المأساويّ, فهي حتما نتاج قرائح لمنكوبين بواقع مرير لا يستطيعوا القفز عليه وتجاوزه مهما حاولوا ..
وبعدما إنشغل نصير بمحادثة هاتفية , قال لي سعيد ..
ـــ أريد أن أصلّح ما فسد بيننا أنا والشاعر رشيد بسبب هذه المجنونة التي إسمها سعاد .. لقد كنتُ في وضعٍ نفسيّ لا أحسد عليه , إذ كانت تتجاذبني مشاعر شتّى هي مزيج من الغيرة والخسارة وضياع الأمل , ولم أكن وقتها قادراً على رؤية الأشياء بصورة واضحة , ولم أقدّر حراجة الوضع الصحي لرشيد الذي يهمّني مثلما يهّمك ويهمُّ الآخرون .. فكيف ترتّب لنا موعداً للمصالحة ؟
ـــ وهل تتصوّر أن رشيد يضمر لك شعوراً بالكراهية ؟!.. أن علاقتك برشيد حديثة العهد ولا تدري إن له قلباً يتّسعُ لمحبة كل الناس .. إنه يتصرّف ببراءة طفل رغم أن عمره تجاوز الخمسين ... إن شيوعيته لم تدع له مجالاً لكراهية الآخر سوى مقته للمستغلّين وأصحاب رؤوس الأموال الضالعين بإبقاء الملايين من الكادحين تحت خط الفقر يلعقون بإحلامهم البائسة ويلوكون الهواء علّه يشبعهم من جوع .. رغم ذلك سنزوره مساء غد ونزيل كل إلتباس حصل في فهم أحدكما للآخر..
حين أنهى نصير مهاتفته , طلب منّا أن يكون ثالثنا في زيارة رشيد وكأنّه كان يستمع إلينا أثناء ماكان منشغلاً بمحدّثه ..
× × ×
كان رشيد قد شرب للتو كأس عرق , حينما دخلنا عليه أنا ونصير وسعيد الذي سارع لتقبيل رأس رشيد واحتضانه مبدياً ندمه على ما حصل من سوء فهم , وقد أبتسم رشيد موحياً بإمتنانه من هذا الموقف وسعادته لمقدمنا .. قلت له ..
ـــ عزيزنا رشّودي .. أنت تدري أن العرق ممنوع عليك تناوله بأمر الأطباء .. فلماذا لا تلتزم بذلك ؟ .. هل العرق أهم من حياتك ؟
ضحك رشيد بطريقة يفهم منها أن لديه شيء يريد أن يبوح به ..
ـــ حين سأروي لكم ما حصل لي اليوم ستعطوني كامل الحق في أن أشرب كأس عرق ..
سأله نصير بقلق واضح ..
ـــ وماذا حصل يا ساتر ؟!!
ـــ بحدود الساعة الثالثة بعد الظهر سمعنا رنين جرس البيت , ثم جاءتني أمي وقد أمتقع وجهها وبانت عليه ملامح خوف لتقول لي ..
ـــ يومّه رشيد .. لقد أتوا عليك هؤلاء الذين لا يخافون الله وأنت بهذه الحالة ..
قلت لها وأنا أضحك بوجهها محاولاً بث الطمأنينة في قلبها ..
ـــ دعيهم يدخلون .. سوف لن يجدوا سوى عكّازةً وكومة من عظام تتستّرُ بجلد خاوٍ ورأس ليس فيه سوى الشِعر وحب الناس ..
أجابتني وهي تداري عبرة ألتمعت في عينيها الكليلتين ..
ـــ سأحضّر لك فراشك ووسادتك التي أعتدتَ أخذها عندما كانوا يأخذوك كلّ مرّة ..
حينما شاهدوني وأنا أتوكّأ على عكّازتي , سارع أحّدهم لحمل فراشي ووسادتي ممّا جعلني أستغرب هذا العون الذي جاء خلافاً لطبيعة السلوك الفظ لمثل هؤلاء .. عصبوا عينيّ كالعادة حين تحرّكت السيّارة وساروا بي مسافة ليست بعيدة كما كنتُ أشعر به من قبل , وحين توقفنا وفتحوا عينيّ وإذا المكان ليس مكان مديرية الأمن بل مكاناً رحبا ترتفع فيه أبنيةً فارهة حديثة , وأثناء ما كنّا نسير داخل أحدى هذه الأبنية فهمت من خلال الأحاديث التي كانت تدور بين المنتسبين إن المكان يعود الى دائرة المخابرات العامة .. وصلنا الى باب مفتوحة تفضي الى غرفة كبيرة يتوزّع داخلها عدد من أفراد الحماية الذين أمروني أن أجلس لحين صدور الأمر بالدخول الى غرفة داخلية أخرى , لم أمكث سوى دقائق حتى طلبوا منّي النهوض والأستعداد للدخول , وقد خمّنتُ بأنّي سأواجه مدير المخابرات العام نفسه , بسبب طبيعة الاجراءات الأمنية المتّسمة بالدقة والحذر والأستعداد السريع لتنفيذ الأوامر , وحين شرعتُ بالدخول وإذا بشخص ضخم الجثّة طويل القامة يخرج من وراء مكتبه وهو يفتحُ ذراعيه ترحيباً بمقدمي ...
ـــ أهلاً بشاعرنا الكبير الأستاذ رشيد .. أين أنت يا أخي .. منذ سنوات وأنا أبحث عنك رغبة بالتعرّف عليك .. فأنا شديد الأعجاب بقصائدك التي دأبتُ منذ زمن الى أقتطاعها من الصحف المنشورة بها والأحتفاظ بها في درج مكتبي .. إنها فرصة سعيدة أن ألتقيك .. قل لي كيف هي صحتك ؟ وهل تحتاج الى علاج خارج القطر؟ هيّأ لي كل تقاريرك الطبيّة فسأسعى جاهداً للحصول على زمالة علاجية لك على حساب الدولة رغم صعوبة ذلك .. فانت أدرى بما يمرّ بالبلد وهي تخوض حرباً لا نعرف متى ستنتهي .. يا أهلاً وسهلاً بالأستاذ رشيد ..
قدّرت أنّه قد أنهى كلامه الترحيبي بي , فقلت له بعد أن أطمأنيّت تماماً من غاية أستدعائي ..
ـــ أشكرك أستاذ وأتشرّف بمعرفتك , ولكن لدي بعض أسئلة ليتك تجيبني عنها .. هل هكذا تكون الطريقة بجلب من ترومون التعرّف به ؟.. هل تدري بأنّي جلبت فراشي ووسادتي معي إستعداداً للبقاء كما هي العادة حين يستدعوني رجالات الأمن للتحقيق ومحاولة نزع الأعترافات ؟ .. هل تدري بأنّي تركتُ أمّي ولستُ ادري هل سأجدها إذا ما رجعتُ لا زالت على قيد الحياة أم سيقتلها الكمد على ما سيلاقي أبنها من عذابات ؟
قاطعني وهو يتأسّف لما جرى ..
ـــ أنا آسفٌ جدّاً لما حصل ولكن ليس هناك طريقة أخرى لجلبك الى هنا , فأعذرنا إذا تسببنا في أذى لوالدتك .. وأعتبرني منذ الآن صديقاً تعتمد عليه فيما إذا تعرّضت الى مضايقات مستقبلاً .. وأخيراً أتمنى أن تهديني نسخ من دواوينك لأضعها في مكتبتي ..
هكذا انتهى اللقاء بعد ان طلب لي عشاءا فاخراً أكتفيت بشرب قدح الشاي لا غير , حيث أعادوني قبل أكثر من ساعة الى هنا , وأنا في حيرة من أمري .. كيف سأوصل له نسخ دواويني وكيف سأهديها له وأنا لم اعرف إسمه لحد الآن ؟  وبعد أن أستمعتوا الى ما جرى لي اليوم ..هل تعطوني الحق في شرب كأس عرق أم تستكثروه عليّ ؟
بصراحة إحترنا في كيفية إبداء مشاعرنا .. وقررنّا أن نضحك ونملأ المكان فكاهة وطرافة , فحالة رشيد لا تحتمل حتى هامشاً من حزن ..
ودّعناه وتركنا عند عتبة بابه دموعاً كانت مؤجّلة في مآقينا , وصلوات وأدعية وإبتهالات علّها تجد لها صدى في قلب القدر .

 

* كاتب وتشكيلي عراقي


 

free web counter