| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

وائل المرعب

 

 

 

الأحد 2/8/ 2009



عبد الوهاب البياتي
وجذوره المترعة باليســـار

وائل المرعب

لم تقو الروحانية الصوفية التي تفيض على المكان في المنطقة المحيطة بمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني حيث ولد الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي على أحتوائه طـــي رحبتها اللاهوتية , ولا نجحت التراتيل النبوية الصادحة على نقر دفوف الموالد الكبيرة من أن تأسره الى أجواءها القدسية .. اذ تفجّر ينبوع الشعر لديه وهو لازال طالب في الأعدادية , حيث تعرّف على ماهية صومعة الشعر وكيف تشهد كل لحظة أنفلاتاً ايمانياً ومروقاً من الصعب الأمساك به , وأستقواءاً على الذات المرهونة بكيانها المادي الفيزيائي , وولعاً في التجوّل بأروقة الحلم وأنتزاع الصور والرؤى الأكثر دهشة وأثارة , كل هذا جعله غير متآلف مع محيطه الذي نشأ فيه .

وحين أحتلّ مكاناً في مدرجات قسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية آواخر أربعينات القرن الماضي , كانت قاعات وأروقة هذه الدار تضجّ بالأفكار الثورية التي تسترشد بالماركسية , فكراً يتبنى قضية الأنسان كونه أعلى قيمة في الوجود , ومنهجاً علمياً يعتمد الديالكتيك بتفسيراته المقنعة عن صراع الأضداد والحتمية التأريخية وسرمدية التغيير .. لقد راقت هذه الأفكار لدى الطالب الجامعي عبد الوهاب لما تملكه من مغريات طغت على كل مغريات فكرية أخرى , خاصة وأن وجوهاً طلاّبية بارزة كالسياب ولميعة عباس عمارة وعزيز الحاج وكاظم نعمة التميمي ومحمود عبد الوهاب وعبد الرزاق عبد الواحد سبقته الى تبني هذه الأفكار وبعضهم أصبح قائداً طلاًبياً تعرض للتوقيف والأعتقال والفصل كالسياب والحاج .الاّ أنه أكتفى بتبني أفكار اليسار وبحماسة ملحوظة دون أن ينخرط عضواً في صفوف الحزب الشيوعي , أيماناً منه بأن الألتزام الحزبي يضعه أسير لمنهجية صارمة لا تنسجم مع اندفاعات الشاعر غير المتوقعة وضياعه أحياناً في لجّةِ الآنا الذاتية أو يجعله تحت الوصاية بما يتعارض مع نزوعه للتحرر من كل القيود سوى قيد الأصطفاف مع كل الداعين الى تحرر الأنسان أيّاً كان والدفاع عن وجوده .

أصدر عام 1950 وهو عام تخرجه من الدار ديوانه الأوّل (ملائكة وشياطين ) الذي نبّه الشارع الثقافي الى أن ثمة شعراً ذو نزعة حداثوية يعني بقضية الأنسان ومعاناته وبعيداً عن الرومانسية وطابعها الحالم التي اكتست بها أغلب النتاجات الشعرية والأدبية ذلك الوقت , ينذر بقدوم رياح معاصرة لم تألفها ذائقة القراء ومحبي الشعر ستهبّ على عموم المشهد الشعري وتسجّل ريادة حازها الشاعر بجدارة وأحتفظ بها طيلة حياته . ثم توالت دواوينه ( أباريق مهشمّة ـ المجد للأطفال والزيتون ـ رسالة الى ناظم حكمت ـ أشعار في المنفى ـ عشرون قصيدة من برلين ـ كلمات لا تموت ـ سفر الفقر والثورة ) خلال الفترة من عام 1954 الى عام 1964 , التي عمل فيها محررّاً في مجلة الثقافة الجديدة ( واجهة ثقافية شيوعية ) ثم فصل وأعتقل وتغرّب خلالها وتم أسقاط الجنسية العراقية عنه بعد أنقلاب شباط 1963 , حيث كان من أبرز الأسماء التي أحيت الحفل التأبيني لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الذي أعدمته سلطات الأنقلاب والذي أنعقد في موسكو , اذ علا صوته كالرعد مخاطباً الشهيد :

( ويحجّ كلُّ زائرٍ يلقي عليك نظرة )

وقد أتسمت دواوينه هذه بطابعها الثوري والتحريضي والأممي وخاصة ديوانه (عشرون قصيدة من برلين) الذي من الصعب على أي قاريء يقع تحت يديه أن يبرّأه من تهمة الشيوعية ..

( يموت على الرصيف
وفي جيبه بطاقة الحزب
)

وخلال فترات أغترابه الطويلة سعى برغبة شديدة للتعرف على ناظم حكمت وأيلوار وأراغون وروفائيل البرتي شعراء اليسار العالمي , وأتخذ من موت لوركا معدوماً على يد الفاشست في مدريد موقفا تضامنياً وكأنه قضيته هو لا قضية شعب آخر غريب عنه , وأصبح هاجس الموت لدى البياتي بعد لوركا آيقونته التي تحضر أمامه في العديد من قصائده ولا يخلو منها ديوانا له حتى رحيله .

لم يتخلى البياتي عن قضية مناصرة الشعوب المقهورة طيلة حياته , وهي قضية جوهرية في أدبيات اليسار, فنجده يصف القرن الرابع للهجرة الذي شهد ظهور الحركات الثورية ذات الطابع الراديكالي اليساري كالقرامطة وثورة الزنج وحركتي حسين الأهوازي ويحيى العلوي وغيرها ..

لمّا ضربت في الكوفة أعناق الثوّار
وتناهبها السفـّاحون ولاة الأمصار
بدأ المتنبي في نظم قصيدته الأولى
بدأت أحجار الهرم الأكبر تنهار
دخل العالم في المابين
شعوبٌ ولدت فوق ظهور الخيل
وأخرى نهضت من تحت شقوق الأرض
سقطت فوق عمود الشعر الأمطار
أشعل سيف الدولة آخر قنديل في الدار
لكنّ المتنبي نجل السقـّاء الكوفي
حفيد امام الفقراء
ظـّل يواصل اشعال النار
في جثث الموتى وقبور الأحياء

ولم تشهد السيرة الذاتية والشعرية للبياتي يوماً ما جنوحاً نحو اليمين , رغم خفوت بريق الأشتراكية وأديولوجيتها في العشر سنوات الأخيرة من القرن الماضي , وما تبعها من تراجع فكري مروّع كان السبب وراء الردّة الحضارية التي أجتاحت المنطقة العربية والشرق أوسطية , الاّ أن دواوينه العشرة الأخيرة شهدت أستقراراً وشتائمه وخصوماته مع الحاكمين والولاة والمستبدين والشعراء المرتزقة أقل حماسة بفعل شيخوخته , وقد خابت مساعي حسّاده الذين ناصبوه العداء وكارهي نرجسيته من أن يجدوا منفذاً كي يمسكوا عليه موقفاً أنتهازياً واحداً , خاصة وقد أسقطت عنه جنسيته العراقية للمرة الثانية قبيل رحيله بثلاث سنوات .

أخيراً سيظل عبد الوهاب البياتي هذا الشاعر الجوال الذي أتعب الأرصفة والمقاهي في المنافي في أستعلاءه على الشحاذين الشعراء والأقزام والمتسولين على ابواب السلاطين ..وسيبقى في ذاكرة عشاق شعره واحدا من ألمع من أوصل القصيدة العربية الملتزمة الى كل شعاب الأرض ..والنهاية أنه مات غريباً وعلى شفتيه ما قاله لولده علي ..

ونحن من منفى الى منفى ومن بابٍ لباب
نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
غرباء يا وطني نموت...وقطارنا أبداً يفوت

 
  
 

free web counter