| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

وائل المرعب
Wail.murib@gmail.com

 

 

الأحد 27/9/ 2009

 

قصة قصيرة

خـــبر عاجـــــــل

وائل المرعب *

كل شيء حوله كان يدعو للضجر ... أنباء الشارع السياسي ..قلقه على عودة ولده .... نفاذ اللون الأبيض من خزينه ... السعال الذي لازمه منذ يومين ... تذمّر زوجته من نضوب الغاز في قنانيها .... تفاقم حالة الخصومة بينه وبين نفسه .. وحين راح يمزج الألوان على صحن الباليت , كان على يقين بأن شيئا من لون الضجر سيتعلّق بأهداب فرشاته التي ستضفي على لوحته سمات من الحزن والكمد .

عصر أمس كان قد أنجز تحديد معالم عازف القانون الذي أحتل الجانب الأيمن من لوحته التي كان يأمل منها حين تكتمل أن تكون بداية صحوة أمل .. أذ أعتاد الهم طيلة عمره الفني أن يتسلل كاللص الى ألوانه ليتماهى مع عجينتها ويعطيها سحنة كابية كسحنة الرما د ... أراد من لوحته هذه أن تكون بداية لمرحلة جديدة تصطخب فيها الألوان الحارة والنقية علّها توحي لفرح حتى لو كان مؤجلاً ... أراد منها أن تكون معادلاً موضوعياً لما يجري يوميا خارج صومعته وردّاً على كل الحرائق والضمادات , الاّ أنه فقد الرغبة في التواصل , فترك كل شيء على حاله لعلّ مزاجيته تروق في اليوم التالي .. الاّ أنها خذلته وسحبته الى ذاته هذا اليوم أيضا .... أشعل سيجارته وسحب نفسا عميقا علّه يبدد حالة الضجر التي أمطرت سحبها فوق عينيه وجبينه , بحيث تراءى له وكأن حالة من الهروب الجماعي لألوانه تجري أمامه ... كتل لونية تتدافع نحو الحافة العليا للوحة كأنها تسعى للأفلات من أسار أطارها .. سحب نفسا ثم تبعه بنفس آخر حتى شعر وكأن كتيبة من النمل تمشي على صدغيه , وفي لحظة نادرة وغريبة من الصفاء الروحي أنتابته فجأة .. تناهى الى سمعه ضرب على وتر تحوّل بعد برهة الى شيء أشبه بالعزف ثم صار لحنا ... لحناً حزينا يعتصر القلب ويثير لواعجه .. وتراءى له بين الحلم واليقظة وكأن أصابع العازف بدأت تتحرك على أوتار آلته ... أبعد فرشاته عن ملامسة القماشة , وراحت الكتل اللونية تتجمع عند سقف اللوحة ثم بدأت تتوزع على أكتاف العازف وقد غطـّى جزء منها مساحة من جبينه وبعضها نزل على ذراعه وتسرّب لون أبيض ليستقر على مكان القلب .

غمس فرشاة رفيعة في اللون البني بعد أن أستعاد شيئا من مزاجه وراح يحدد ملامح العازف الآخر ثم تناول أخرى عريضة وأخذ يغرف من عصارت الزيت ليستر عري البياض في القماشة لتتحول على السطح الى دندنات وأنغام تناوبها العازفان وراح يطرق بمقبض فرشاته الأطار الخشبي للوحة ليستقيم ويتناغم مع الأيقاع العام.

بدأت رائحة مخفف مادة الزيت تمتزج مع رائحة التبغ المحروق لتملأ المكان عندما تصاعدت وتيرة الأيقاع أثناء ما راحت أصابع العازف الثالث تتحرك قبل أن تتبين ملامحه كاملة , والألوان أخذت تتعشق فيما بينها وتسيح على أردانهم وأوتارهم , أذ أضحى المكان برمته في دوامّة عاصفة من الهياج الطربي وكأن ولادة عسيرة تدخل مخاضها كي تلد شيئا مجهولاً .. ووسط هذا الصخب الخلاّق دوّى أنفجار هائل أرتج له المكان وتطايرت كسر الزجاج لتتحوّل الى سهام جارحة طالت كل شيء الاّ هو .. وأصطفقت الباب بشدّة قبل أن يختنق جو المرسم بالغبار... لم تعد الأشياء في مكانها وكأن زلزالاً ضرب صومعته وأربك حالة الأستقرار لموجوداته وعبث بصيرورتها وأحدث خراباً في أنسجامه مع ذاته وسد عليه طريق التواصل مع مخلوقاته الجميلة ..... وبعد أن هدأ كل شيء وساد صمت مريب أسترد جزءاً من ثباته وتماسك أعصابه... وراحت الرؤيا تتكشف شيئا فشيئاً ... عصارات الزيت في كل مكان والفرشاة لم يجدها بين اصابعه ..المرآة المعلقة على الجدار القصي تهشمّت حتى بدت وكأنها عمل تجريدي فائق الجودة ! ... اللوحة منكفأة على الأرض وقد ثقبت في أكثر من موضع , حتى ذاكرته ما عادت تحتفظ برفوفها وملفاتها وصورها حسب ترتيبها الزماني والمكاني وكأن يدا شوهاء خرقتها وعبثت بمحتوياتها .

وحينما رفع اللوحة ليعيدها على المسند .. هاله ما رأى .. بقع من الأحمر القاني تناثرت على أجساد العازفين .. أرعبه المشهد فترك المرسم وأتجه صوب الحمام ليغسل ما علق به من غبار وليدجّن حالة الخوف والفزع التي تلبسته , ثم أندس في فراشه وكأنه يحتمي به ليقيه من أخطار قادمة قد تحصل ... وبعد ساعة ورد في نشرة الأخبار النبأ التالي :
خـــبر عاجـــل :
أنفجرت سيارة مفخخة وسط المدينة وراح ضحية الأنفجار ثلاثة عازفون .

 

* كاتب وتشكيلي عراقي


 

free web counter