| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

وائل المرعب
Wail.murib@gmail.com

 

 

الأثنين 19/10/ 2009

 

ما هكذا تُورد يا ( سعدي ) الأبل
ــ جدلية الحب والكراهية ــ

وائل المرعب *

من ضمن ما قاله شاعرنا الكبير ( سعدي يوسف ) وهو يوقـّع كتابه (مختارات شعرية) الصادر باللغة الصينية , والذي صادف مع إحتفالات الصين بالعيد الستين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية ..

( أنا , إذاً , بين المحتفلين , لكنّي لا أعتبر نفسي ضيفاً , ما دمتُ أستظلُّ بالراية الحمراء التي وهبتها حياتي )

وهذا ما كنّا ولا زلنا نعرفه عن إخلاصك لفكرك النيّر الراسخ في عقلك وحناياك والذي ظلَّ متمسّكاً بمثاليته ورومانسيته ونقاءه دون أن تعكّره حالة يأس , رغم كل ما جرى وما حصل في العالم من إختلال خطير لموازين القوى عندما تهاوت المنظومة الأشتراكية بكاملها ومعسكرها العتيد بين ليلة وضحاها بداية العقد التسعيني من القرن الماضي , بصورة تراجيدية لم يسبق لها مثيل في كل التأريخ الأنساني , وأصبح العالم أمام دهشة مليارات البشر الموزّعين على أصقاعه يخضع للقوة الأمبريالية الغاشمة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في اوروبا والعالم , ممّا جعل الأحزاب الشيوعية في جميع الدول بعد ان فاقت من هول الصدمة أن تسارع الى إجراء عمليات غسل لطرد الشوائب التي علقت بالماركسية نتيجة التطبيقات الخاطئة لها طيلة سبعين عام هو عمر التجربة أو نتيجة التفسيرات والأجتهادات القاصرة في عدم إدراك المرونة المبدأية لهذه النظرية التي تعتمد التغيير كأساس فلسفي لوجودها وأستمرارها , وبالتالي تحوّلها الى أشبه ما يكون بدين جديد مع كل ثوابته ومسلّماته الذي هو السبب الحقيقي الذي اودى بهذه التجربة الى الفشل المروّع الذي آلت إليه .

إن جميع الدول والكتل والأحزاب والمنظمات أعادت رسم سياساتها وفق المتغيرات الراديكالية هذه التي هزّت العالم , أي ان الأساليب النضالية لهذا الحزب او ذاك الذي كان يعتمد على دعم وإسناد المعسكر الأشتراكي لم تعد صالحة بعد زوال هذا المعسكر , وبات التعامل مع القوّة المفرطة للترسانة الأمريكية يأخذ شكلاً آخر , يعتمد الأحتكام الى العقل والحذر واللجوء الى الحوار وموائد المفاوضات , وحتى الصين التي لا زالت رايتها الحمراء تخفق في سمائها لليوم هي غير الصين قبل التسعينات فهي اليوم دولة واحدة بنظامين , وتبادلها التجاري الضخم مع كل الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية , أذاب قسم كبير من التقاطعات الأيديولوجية السابقة , وما عادت تلك الحسّاسية الفكرية فيما بينهما ظاهرة للعيان. والحزب الشيوعي العراقي واحد من هذه الأحزاب , إذ أجرى تغييرا مهمّا في قيادته مستبعداً العقليات النضالية التقليدية , وعمل على إعادة برمجة مناهجه الفكرية وفق المتغيرات العالمية التي طرأت , وكان موقفه قبيل شن الحرب على العراق واضحا ضد الحرب وضد الدكتاتورية , ولكن حين شُنّت الحرب وأسقط النظام واصبح امراً واقعاً استعان بمرونته المبدأية وكان صائبا في ذلك ودخل العراق وبدأ نضاله السلمي طويل الأمد لتحقيق اهدافه في إخراج المحتل وبناء دولة المؤسسات والقانون , بأعتباره واحد ممّن يمثلون الضد الفكري للرأسمالية الذين أجّلوا سعيهم ونضالاتهم لأضعافها وأسقاطها حالياً بعد ان فقدوا القدرة على ذلك , خاصة وقد برز عدوٌّ جديد غير واضح المعالم وغير مرئي هو الأرهاب الدولي .

يقول (سعدي يوسف) وهو يزور نيويورك ميناء أمريكا الرئيس وعاصمتها التجارية الصاخبة :

( حين أرتفعت نيويورك فجأة أمام عيني وأنا في السيارة قادم من المطار أحسستُ بأنني صديق لهذه الحاضرة , أحسستُ بأن العمائر المرتفعة في البعد هي ألأسطورة التي ظلّت حاضرة في الحاسة والتصور , نيويورك تنهض فجأة أمام عيني كما نهضت في الحلم المستديم ..... )

ويقول أيضاً :

( العداء الذي واجه به الشعراء (بعد لوركا) نيويورك , كان عداء التقليد المتعجّل لفيدريكو غارسيا لوركا .. أنا لم أشعر حتى هنيهة بوخزة العداء التقليدية تلك ) .

(( ملاحظة : زار الشاعر أمريكا ثلاث مرات بدعوات من المنظمات الثقافية كما زار الكثير من ولاياتها وقد بانت مشاعر السعادة طافحة على محيّاه وهو يلقي قصائده بحرية على الجمهور الأمريكي ) .

فإذا كنتَ يا شاعرنا الكبير تحملُ هذا العداء الفكري والمبدأي والطبقي لأمريكا قلعة الرأسمالية البغيضة وقاهرة الشعوب والمحتلـّة لبلدك , فلماذا هذا الغزل مع حواضرها التي لم تشعر بوخزة عداء تجاهها , ولماذا هذا السعي وهذه الرغبة لتكرار الزيارة لها , إذ ان الشعور الطبيعي للفرد تجاه مفردة بذاتها , يفرض عليه إحدى الحالتين , إمّا أن يكون محبّاً لها أو كارهاً لها , ولا مجال للنفاق المبدأي فهو خارج حساباتنا الأخلاقية .

و يقول في مكان آخر وبتفاخر ملحوظ :

( الأجراءات بسيطة , فأنا أحمل جواز سفر بريطانياً , اخيراً ! .. لقد تخلّصتُ الى الأبد من قذارة الأدارة العميلة في العراق وأشتراطات جواسيسها وقتلتها المعممين ) .

أليس مثيراً للدهشة والأستغراب أن يعلن شيوعي مناضل قضى ربع عمره في نقرة السلمان وبقية السجون والمعتقلات , من اجل تحرير العراق من هيمنة الأستعمار البريطاني , عن سعادته لأمتلاكه جواز سفر بريطاني !؟

ثم لماذا هذا العداء المفرط في كراهيته وغير المبرر لمن يمثلون السلطة من العراقيين حتى قبل أن يستلموا المسؤولية , بحجة إنهم متعاونو مع المحتل وعملاء له , فإذا اعتمدنا نظريتك الأخلاقية هذه , يصبح ( 12 ) مليون عراقي الذين ذهبوا الى صناديق الأقتراع لأنتخاب من يمثلهم في البرلمان هم جميعهم عملاء , باعتبار أن الأنتخابات فعل جمعي يجري والعراق تحت الأحتلال وهذا لا يجوز لأنه يعطي شرعية له .. أليس كذلك يا أمير العشّار وصديق السفائن المتعبة .

لم يكتفي ألأستاذ سعدي بذلك وأنمّا شمل كل المثقفين العراقيين بالداخل بصفة العمالة .. فهو يقول عن ذكرياته حين أستضافه نادي الرافدين في برلين في مهرجان (أيام ثقافية عراقية) :

( أتذكّر إنني نددّتُ بالموقف المخزي للمثقفين العراقيين من الأحتلال تنديداً صارخاً تماماً ) .

إذاً , أصبح كل المثقفين العراقيين بالداخل عملاء للمحتل وفق مفهوم الشاعر ..أليس هذا مضحكاً ومثيراً للشفقة أيضاً على ما آل إليه شاعرٌ مناضلٌ ومهم , دأبنا على حفظ أشعاره الأولى ونحن فتية لم يكتمل وعينا بعد , ولا زلنا لليوم نشعر بطعم البرحي حين نقرأ قصائده المشبعة برائحة الطلع . فهل بإمكان شاعرنا البصري أن يذكر لنا موقفاً مخزٍ واحد لأحد مثقفي الداخل داعم ومؤيد للأحتلال ؟!

وأخيراً , يحدثنا عن علاقته بشهيد الثقافة الخالد (كامل شياع) .. يقول :

( زار لندن قبل أشهر , لم أره , إتصلت بأخيه فيصل , رجاء أن تخبره بتحيتي وبنصيحتي له الاّ يعود الى المستعمرة ..

كنتُ خائفاً عليه
ماذا كان يفعل في بغداد الجديدة ؟
أكان يكتب أفتتاحيات صحيفة مرتجعاتها أكثر من مطبوعها ؟
أكان يكتبُ خطابات لا معنى لها لأناس لا معنى لهم ؟
اكان يحاول أن يرمّم صورة شانئة عصية على الترميم , صورة العراق المستعبد المحتل ) .

إذاً , هكذا ينظرُ الى (طريق الشعب) الجريدة المناضلة وصوت الشرفاء في عراق ما بعد التغيير.. صحيفة حزبه الذي ناضل في صفوفه وسجن وعذّب وشرّد .. الصحيفة التي لا زالت لليوم تنشر المقالات النقدية الرصينة عنه بالوقت الذي يوسعها هو شتماً ...أليست هذه مفارقة مؤلمة ؟!

ثم إذا كان ما يكتبه (كامل شياع) بلا معنى .. إذاً ..لماذا هذا التباكي عليه..ولماذا هذا الحرص على صداقته وخوفه عليه الى هذا الحد ؟ ..وإذا كانت صورة الوطن المستعبد والمحتل شائنه وعصيّة على الترميم , لماذا لا تعود يا شاعرنا الكبير والمناضل الى أحضان بلدك وتقود النضال الحقيقي على أرضكَ العراقية مثلما كنت تفعلُ في عهود القهر الماضية , لطرد المحتل اولاً ولتعيد رجحان الكفـّة العلمانية في المعادلة المجتمعية والسياسية للشارع العراقي ؟ ..عُد وصحّح مسيرة الثقافة العراقية اذا كانت مخزية ..أنا واثق ستجد الكثيرين ممن يتبعوك .. كُن على أرض الوطن المحتل وبين الناس الشرفاء وحاول ان ترمّم الصورة الشانئة له لا ان تبقى متنقـّلاً بين عواصم الدول التي تحالفت على غزو بلدك واحتلاله , تقرأ اشعار الغزل في نيويورك وقد ملئتك الغبطة والتفاخر بحملك لجوازك البريطاني ...!

وفي الختام , يؤسفني أن انقل بعض مما قاله (سعدي يوسف) في قصيدته (مرحباً منتظر) :

( لكن , لا أحدٌ , اليوم , سواك
لقد وحدّتَ العلمَ الوطني
جلوتَ له المعنى
وجعلتَ العلم الوطني يحلـّقُ مقذوفاً
ليصيب
)

جميلة هي الصورة ومشرّفة حينما تحوّل حذاء (منتظر الزيدي) الى العلم الوطني ... اليس كذلك ياشاعر الصبوات الأولى وزوارق الأحلام في شط العرب ؟!!!

ما هكذا يكون الأخلاص للفكر
ما هكذا تكون الكراهية غير المبررة طاغية على كيانك وقلمك
ما هكذا تُورد يا ( سعدي ) الأبل .
 

 

* كاتب وتشكيلي عراقي


 

free web counter