| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

وائل المرعب

 

 

 

الأثنين 17/8/ 2009



الى مظفـّر النوّاب

هل دمشقُ محطـّتك الأخيرة يا حمد؟!

وائل المرعب

( شعبنه يخوض مي تشرين حدر البردي يتنطـّر
شعبنه المايهاب الذبح يضحك ساعة المنحـر
)

هكذا رأى مظفر النوّاب شعبه العراقي حينما كان مقاتلاً في أهوار الجنوب أواسط ستينات القرن الماضي , وهي صورة عجيبة في نبؤتها .. اذ هكذا بدى شعبنا المبتلى بجلاّديه وذابحي فرحته يوم سقوط نظام الطغاة في نيسان 2003 , ينحرُ أبناءه أنتقاماً في الصباح ويقيم أخوتهم معرضاً تشكيلياً أو حفلاً موسيقياً في المساء, ينسفون قلب المتنبي ورئته الثقافية حين يفجّرون شارعه الذي ما شكت أرصفته يوماً وجعاً من ثقل ما داست على أضلاعها الآف الكتب والمجلـّدات , وفي اليوم التالي تشرع الأرادة العراقية الخيّرة والأذرع السمراء الشجاعة بأعادة بناءه ليصبح قبلة ومحجّة للزائرين تزخر يومياً بعشرات الفعاليات الثقافية المنوّعة , حتى كبس اليأس والقنوط على نفوس ذئاب فتاوى التكفير , فأنسلـّوا كالجرذان ليندسّوا مذعورين في جحورهم العطنة التي تفوح منها نتانة النجيع لفرط ما لعقت أشداقهم بدم الأبرياء .

لم يحض شاعرٌ بحب شعبه بقدر ما حضي به النوّاب , ولم يسبق لشاعر أن تناقلت قصائده بين الأفواه محفوظة عن ظهر قلب , وظلـّت حبيسة ذاكرة الناس ردحا طويلاً من الزمن خشية أن تكون أداةً جرمية فيما لو مسكت مخطوطة على قصاصة ورق الاّ مظفـّر , وحين أستطاع أن يفلت من عراق الديكتاتوريات .. دأب العراقيون عشاق شعره أن يتصيّدوا أخبار ترحاله بين العواصم يوماً ..يوماً , وفي زنزانات التعذيب والموت كان مناضلوا الكلمة يستعيدون قصائده المشحونة بالصمود كقصيدتي البراءة وعشاير سعود وصويحب ومعلـّقة الأهوار , فتبعث فيهم طاقات مضاعفة من الصلابة المبدأية تقودهم غالباً الى الموت دون أن يفرطوا بكرامتهم الوطنية وبقسمهم النضالي . ولمّا وصلت وترياته التي أشعلت الحرائق في الشارع العربي والفلسطيني تحديداً وأقتحمت رعود صوته المنذر بالويل مخادع الحكّام العملاء , الى أسماع الداخل في العراق .. فوجيء الجميع بقدراته الأستثنائية وتمكنه من شعر التفعيلة الفصيح بما يفوق ما أعتادوا على قراءته وسماعه من شعره الشعبي .

وظلّ مظفر النوّاب يوقد الجمرات تحت حروف قصائده فيحرق ويحترق , وظلّ صوته من فوق المنابر راعداً متوعّداً تهتزّ في لجة أصداءه جدران القاعات وجدران القلوب . كما ظلّ أبناء شعبه داخل العراق يتسقـّطون أخباره وقصائده وأغانيه لعلّهم يجدون فيها دفأً يقيهم برد أيامهم , وكانوا يتحرّقون أنتظاراً ليوم الخلاص من حكم الطغاة ويستشرفون الغد الآتي لعلّ عصر القتلة يذهب بأهله الى غير رجعة , فتنفتح الدروب وتتيسّر مسالك العودة لأبنائهم المبعدون الذين أمتصّت الغربة رحيق أعمارهم يحدوهم النوّاب بصوته الحريري وليبدأ من ذلك اليوم تأريخ الأياب .
وجاء يوم الخلاص , وكان النوّاب مثل كل العراقيين يعلم علم اليقين أن الخلاص ما كان ممكن أن يحصل بقوى الشعب الذاتية ودون معونة من دولة تمتلك قدرة الدمار , وهذا ما حصل , وتقبّل الجميع هذا الواقع .. شيوعيون وقوميون وأسلاميون وديمقراطيون ومستقلون وليبراليون .

ومنذ الأيام الأولى بعد سقوط نظام الأستبداد , خرج الأدباء العراقيون من تحت الأنقاض ليختاروا قاعة صغيرة سلمت من السرقة والنهب , فأقاموا ( مهرجان مظفر النوّاب الأول ) , كان الشعراء يلقون قصائدهم وعيونهم ترنو الى باب القاعة لعلّ شاعرهم الكبير يطلّ عليهم فتكتحل عيونهم بمرآه , لم يتحقق هذا وأطفأت أمنيتهم هذه وما تبقى من أضواء القاعة .

ثم بدأت تصل الى الأسماع بعض مقاطع النوّاب الشعرية المجروحة بالحنين الى بغداد التي لم تكن قد تحرّرت بعد..
( شكد ذقت بقلاوه شغل الشام يا شغل بغداد مثلك ما شفت )
أو قوله ..( يجي يوم أنلم حزن الأيام وثياب الصبر ونرد لهلنا
يجي ذاك اليوم لجن أنا خاف كبل ذاك اليوم تاكلني العجارب
يجي ذاك اليوم واذا ما جاش أدفنوني عل حيلي وكصّتي لبغداد
)

وأستبشر الجميع بأن النوّاب عائد لا محالة , اذا لم يكن اليوم فغداً ... لكنّ الأيام تمر والسنوات تمضي ولم يلح في الأفق حتى ضلالاّ لقامته الشعرية الكبيرة , فأدعّى البعض أن النوّاب يعاني من حساسية وطنية ضد كل ما يتعلّق بأمريكا .. فكيف ودباباتها تتجوّل وسط شوارع بغداد التي أحب وعشق .. وأدّعى آخرون أن النوّاب يعاني من مرض الشيخوخة التي قد لا تتحمل حرارة الحفاوة به اذا ما قدم الى بغداد فيسقط قتيلاً بحب الناس .. وأدّعى البعض الآخر أن النوّاب له تحفّظ على كل القوى السياسية الفاعلة في العراق ... وكثرت الظنون وتعددّت الشكوك وظلّ الجميع لا يدرك حقيقة تشبّثه بالبقاء في دمشق ومقهى هافانا , رغم كل الدعوات (رسميّة وشعبية) التي تلقـّاها من داخل العراق , كما وصل اليه خبرٌ مفاده أن الحكومة عازمة على اقامة تمثال له في شارع النوّاب تخليداً له ولتأريخه النضالي والأبداعي, ولكّن يبقى شكٌّ واحد يخاف العراقيون عشـّاق شعره قبوله وتداوله في أذهانهم وهو .. هل أن النوّاب يخشى اذا ما عاد الى أحضان وطنه أن يخسر شعبيته القومية التي تحققت طوال أربعين سنة وهو يغنّي قضاياهم العروبية ؟ وهل يفضـّل أن يضحّي بحب وطنه وشعبه ويكسب حب وطنه العربي الكبير ؟ خاصة وهو يعلم جيداً أن الشارع العربي بغالبيته المطلقة مظلّل أعلامياً ومعبّأ ضد العراق الديمقراطي الجديد ...

أخيراً ليس بوسعنا الاّ أن نسأل أبا عادل ...

هل ستكون دمشق محطّتك الأخيرة يا حمد ؟!!!





  
 

free web counter